الحق للسيف والعاجِز يدوَّر شهود

تراوحت ردود الأفعال تجاه قرار محكمة العدل الدولية، بخصوص القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا على العدو الصهيوني، في شأن إبادته للشعب الفلسطيني بين مؤيد ومعارض، ففي الوقت الذي نجد أن الأنظمة العربية من بينها المغرب تؤيد الحكم، نجد أن شعوب العالم عموما، وطيفا كبيرا من الطبقة المثقفة تستهجنه، ويبدو أن تباين ردود الأفعال ناتج عن الاختلاف في تعريف مفهوم الإبادة الجماعية، وفي القيمة التي يحظى بها الإنسان العربي عموما، والفلسطيني خصوصا، ثم في مدى المصداقية التي تحظى بها المحكمة بخصوص الحزم في تنفيذ الأحكام الصادرة عنها. ولا شك أن للمرجعية المتبناة من قبل هذا الطرف أو ذاك النصيب الأوفر في طبيعة هذا الاختلاف، وهي على العموم إما مرجعية تمتح من مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما مرجعية تستمد مبادئها من المواثيق "الدولية" والقوانين الوضعية، التي أنتجها الغرب وسوقها للعالم باسم الكونية.

فإذا كان على المرجعية الغربية أن تنتظر سنة 1944، لِيَصوغَ لها المحامي البولندي المولد، واليهودي العقيدة رفائيل ليمكين، مصطلح الإبادة الجماعية لأول مرة، في وصفه للهولوكوست، وسنة 1946 لتعترف به الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم سنة 1948 ليتم إدراجه في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها، والتي تم تعريفها على أنها: "أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية ...، بما في ذلك: قتل أعضاء من الجماعة؛ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى"؛ فإن الإسلام قد اعتبر منذ أكثر من 14 قرنا بأن مجرد قتل نفس واحدة بغير نفس بمثابة قتل الناس جميعا، وذلك مصداقا لقوله تعالى في الآية 32 من سورة المائدة: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾، مع العلم أن الله جل جلاله قد كرم بني أدم، بغض النظر عن معتقدهم أو لونهم أو لغتهم، ولا معنى للاختلاف في درجات التكريم إلا بقدر التمايز في درجات التقوى، بحيث يُصبح الأكرم عند الله هو الأتقى، مصداقا لقوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ..." مما يدل على أن جريمة الإبادة الجماعية ثابتة في حق الصهاينة، منذ قتلهم لأول فلسطيني، مباشرة بعدما وطئت أقدامهم أرض فلسطين. ومع ذلك، وبسبب فشل الدول العربية "مجتمعة" لا من حيث الثأر لمن أُبيدوا واستُبعدوا، ولا من حيث استرجاع ما ساهموا في تضيعه من الأراضي الفلسطينية على الأقل، لم يجرأ أحد أن يصف ما تقوم به إسرائيل من التقتيل والتهجير وسلب الأراضي من أهلها، بالإبادة الجماعية، علما أن ذلك حاصلٌ فعلا، حتى بالاستناد إلى المعايير التي يحددها تعريف الأمم المتحدة منذ سنة 1948، بل أصبح الأمر مألوفا، إلى المستوى الذي أصبحت معه جل دول العالم، والعربية منها على الخصوص تخطُب ود إسرائيل، وتتهافت للتطبيع معها علنا، بعدما كان ذلك يتم في السر، ولا زال بالنسبة لبعض الأنظمة المنافقة لحد الآن، وأكثر من ذلك تم تصنيف المقاومة الفلسطينية في خانة الإرهاب!!!

وكان على العالم أن ينتظر هَبَّة رجال صدقوا ما وعدو الله عليه، ليكتشف عن كثب، وبالأدلة القاطعة حقيقة العدو، من خلال تقويضهم للهالة التي أحاطها بقوته العسكرية، ومن خلال تجريده من قناع الديموقراطية التي احتكرها بتواطؤ مع الغرب، أو بتوجيه منه، حتى أصبح يوصف بأنه الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، مما كشف عن بشاعة تشوهاته الخُلُقية التي يستمدها من عقيدته التلمودية. ومع ذلك لم يجد هذا العالم بِعَربِه وعجمه، سوى جنوب إفريقيا للجهر بحقيقة هي أوضح من الشمس في رابعة النهار، وربما لأن هذا البلد تجرع من نفس الكأس التي سقاه إياها نظام التمييز العنصري ليس إلا.

وإذا كانت الإبادة الجماعية حاصلة فعليا أيا كانت المرجعية، فإن قرار محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ 26 يناير 2024، والذي طلبت فيه من إسرائيل "منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين..." وتحاشت التنصيص على وقف إطلاق النار-مع العلم أن تنفيذ القرار ليس بيدها-فيه نظر من عدة جوانب:

الجانب الأول، يتمثل في الإيحاء بأن الأمر لم يصل بعد إلى الإبادة، وإنما يتعلق بالتحريض عليها من قبل طرف ثالث، يمكن لإسرائيل أن تمنعه وتعاقبه! أيوجد عاقل يمكن أن يقبل بهذا المنطق؟ مع العلم أن الإبادة الجماعية واقعة أيا كانت المرجعية كما أشرت سالفا، وأن الطرف المومئ إليه هو إسرائيل نفسها؟

الجانب الثاني هو: إذا كان عدد الأنفس التي تم إزهاقها إلى حين صدور الحكم، قد تجاوز 26 ألف نفسا، وكل التدمير الذي لحق المنازل والمدارس والمستشفيات... غير كاف، في نظرها لوصف ما يجري بالإبادة الجماعية، وتضمين الحكم ضرورة الوقف الفوري للحرب، فيبدو أن إطلاق صفة العدل على هذه المحكمة "الدولية" يتطلب إعادة النظر! ثم ما معنى أن تطلُب من إسرائيل تقديم تقرير في غضون شهر، بمدى تطبيقها لهذه "الإجراءات"؟ ألم يكن من العدل إيفاد لجنة دولية محايدة للتحقيق في الأمر في الحين؟ وما عدا ذلك، فالطلب يعتبر بمثابة إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل، لإبادة ما لا يقل على 9000 شهيد، على اعتبار أن المعدل اليومي للشهداء هو 300 شهيد!

إذا علمنا من المادة 92 من الفصل 14 من ميثاق الأمم المتحدة أن "محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية "للأمم المتحدة"، وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق وهو مبني على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من الميثاق"، وإذا علمنا أن الأمم المتحدة نفسها لا حول لها ولا قوة أمام فيتو الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأن التاريخ أبان عن هشاشة وشكلية أحكام وقرارات الأمم المتحدة ومحكمتها، فكم من قرار يتعلق بحق الشعب الفلسطيني تم وأده؟ ولدينا في الحكم الذي أصدرته هذه المحكمة بخصوص الصحراء المغربية منذ 16 أكتوبر 1975، والذي اعترفت فيه بوجود روابط البيعة بين سكان الصحراء وملوك المغرب، مثال آخر عن عدم جدوى قرارات هذه المحكمة، ما لم تسندها القوة، وإلا فما معنى أن يُلاك الملف في أروقة الأمم المتحدة كل هذه المدة، إلا أن تكون للقوى المتحكمة فيها رغبة في عدم تصفيته، والاحتفاظ به كورقة ضغط للحفاظ على مصالحها، من خلال مجموعة من الملفات من بينها ملف إدامة الفتنة بين المغرب والجزائر...

في الأخير، أختم بالعبارة التالية، التي يُعتبر السياق العالمي الحالي للأحداث أكبر شاهد على مصداقيتها، والتي تواترت على لسان العديد من المسؤولين، الذين يؤمنون بأن الحق يؤخذ بالقوة لا بالاستجداء، ألا وهي عبارة:"العالم لا يحترم إلا الأقوياء" والتي يعادلها المثل العربي الشعبي القائل: "الحق للسيف والعاجز يدوَّر شهود" الذي لو اتخذته الدول العربية شعارا لها، على غرار المقاومة الفلسطينية، لكانت الأمور على غير ما هي عليه الآن، ولَتَمَّ انفكاكها من الاستعمار المتعدد الأوجه، واسترجاعها لحقوقها المهضومة منذ زمن طويل.

وسوم: العدد 1069