العلل التي أزرت بمجتمعنا التقليدي

سرف المداد

مقالنا اليوم خليقاً بالعناية، فكلمة البناء التي ترتبط بالنهضة والعمران، تعد من ألذ الكلمات، وأحبها إلى النفس، ونحن نحتاج فعلاً لأن نتزلف، لهذه الكلمات ونتملقها، ونتوسل إليها بمختلف الوسائل، حتى يكون لها صدى في حياتنا، وكلمة البناء التي قد نمنحها حظاً قليلاً أو كثيراً من الإعجاب، نمر بها دون أن نحس بها، فضلاً على أن نقف حولها ونطيل الوقوف، فهذه الكلمة تغاير أشد المغايرة الكلمة الراسخة والمألوفة عندنا، والتي ليس بيننا وبينها غشاء خفيف أو كثيف، فالهدم الذي نعشقه، ونجيده، ونقدم عليه، دون أن يضطرنا إلى النظر والتحديق، والتأمل والتفكير، ولا يعنينا في شيء، ما يترتب عليه من خسارة خفيفة كانت أو ثقيلة، المهم أن نستأنف العمل في هذه الرياضة التي نحتفي بها كلما دهمتنا كوارث، أو طافت بنا خطوب، فنحن لا نرفق بأنفسنا أو نريحها، حتى نهدم كل ما نجده واقفاً شامخاً أمامنا، إذن الهدم وحده هو الذي يهدئ ثورتنا، ويخمد لوعتنا، ويجعل حياتنا حلوة عذبة، وأنا أشهد أني كنت في صباي الباكر لا أجد لذة تضاهي لذة الهدم والخراب، فلذة العمار كان لا حظ لي منها، ولا أستطيع أن أراها أو أتذوقها، في تلك الأيام الغابرة، أيام المرحلة المتوسطة، وتحديداً أيام امتحانات الصف الثالث المتوسط، تعاهدنا أنا ومحض ودادي عصام سراج، وعلي مجذوب علي حمد، وآخر، على تهشيم قناديل الإنارة بعد كل ورقة امتحان ننجزها،غير حافلين بكل ضروب المشقة والعناء التي تكلفها الأستاذ عيسى الطيب المحامي، والسر موسى رحمه الله، وحسن خليل أنزل الله على جدثه شآبيب المغفرة والرضوان،  من أجل نصبها و اقامتها في منطقتنا، كنا نرى أن حياة الامتحانات مرة ممضة، وأن تهشيم زجاج الإنارة يقطع الصلة بيننا وبين هذا الاحساس، ويملأ قلوبنا سعادة ورضاً، وحباً للحياة، هذه هي الحقيقة التي بتنا نستحي منها الآن، لقد كانت لذة الهدم تذهب عنا ما وجدناه من كدر الامتحانات وثقلها، كنا نلتمس العلل  لأي شيء يجلب لنا السرور والاغتباط،  وقد يكون مثل هذا التصرف الفج من خواطر الصبا وصوره وأحاديثه، ولكنه يؤكد بجلاء أن شهوة الهدم ماثلة قوية، تلازمنا ولا تفارقنا إلا في مجاهدة وعنف.

وأكبر الظن، أننا في تحطيمنا لقناديل الإضاءة، نكون قد اتصلنا بهذه الناحية الصغيرة، من أنحاء الدمار الممنهج الذي يجعل حياتنا المضطربة تمضي من غير نظام، فالدمار الذي نضيق به، ونتحمله على كره، هو مستقر ومتسلط في كل طبقة من طبقات هذا الشعب على اختلافها، وكل طبقة تظهر له هذا الخضوع والاذعان، وكل طبقة تبيح لأهلها أن تأخذ بحظها منه في غير حساب، وكل طبقة دافعها لمواتاته هو الحس، والشعور، والتأثر، والاندفاع، الذي لا روية لهم فيه ولا اختيار، فما من طبقة ثائرة، مضطربة، محنقة، إلا وأزال الغضب عنها هذا الطلاء الذي تخفي به رعونتها، وأظهر ما يمكن أن يكون فيها من هواجة وقسوة، فالغضب الذي يدنو مننا قليلا قليلا، حتى يثير فينا السخط والتشاؤم هو الذي يظهر شخصيتنا السودانية واضحة جلية، فأنت -أيها العزيز الأكرم- إذا أردت أن تهتك أستار شخصياتنا، وتفضح أسرارها، أخضعها فقط لألوان من الحنق، وضروب من الغيظ، حينها تعرف من أمرها ما كان أوفق أن تجهله.

إذن السودان بالضبط هو الراعي الحصري لهذه الخصلة المقيتة في محيطنا، والأرجح عندي، أن هذه الخصلة قد أدركت رشدها، واستكملت قوتها، ورفدت أكثر الأجناس التي تتألف منهم الدولة السودانية بغيها، وخطلها، ومعينها المستحكم، إذن السودانيون هائمون بهذه الخصلة، مدفوعون إليها، ولأجل ذلك نجد أن الحياة الإنسانية فيه تتسم دائماً بالحروب المتصلة، والصراع المستمر، والطموح الذي لا ينقضي، وستستمر هذه الحياة العنيفة التي نعيشها الآن، كما استمرت في الحقب الماضية، وستظل الدماء مستباحة، والحرمات منتهكة، والحلم غائباً، ولن يظفر السودان قط بأمن الحياة ولينها، وستظل دولاً بعينها تلبس على ساستنا الأمر، وتزين لهم الشر، وستبقى طرق العمالة دائماً ميسرة، ممهدة، مستقيمة، ومهما يكن من شيء، فإن هذه الخصلة التي وجدت في حنايا إنسان السودان بيئة  سمحة، سهلة، مواتية، لأن تمتد وتستطيل، تدلنا على شيء له قيمته من الناحية التاريخية، فحياتنا القائمة على الجهل والضعف والتعصب، والتي نجدها عسيرة ضيقة، ممعنة في الضيق، لا نطيق المضي فيها، حياتنا التي نفكر في مضها، وهمومها الثقال آناء الليل، وأطراف النهار، حياتنا الهائجة، المائجة، الثائرة المضطربة، من المحقق أن "أحلامنا، ومطامح نفوسنا"، هي التي قادت لأن تجري بهذه الصورة البشعة، وبهذا الشكل المشوه الدميم، "الأمل والطموح" هو الذي يثير في نفوسنا الآن ألواناً من الخوف، وفنوناً من الهلع، "الطموح" هو الذي جعل تعاستنا تمضي في مجرى منتظم، ولكن الناس على كل حال، مطمئنة إلى شيء أساسي، مطمئنة إلى سلطان اقتضته حياتهم الاجتماعية، ونظامهم الاجتماعي، الذي لم يرفق بهم، أو يعطف عليهم، أو يحسن إليهم.

 قلنا أن معظم القبائل يحكمها هذا الطموح، ومعظمها أيضاً ينزع إلى السيادة والملك، كل قبيلة من القبائل، في الحق تود أن تكون مستقر الحكم، ومركز السلطان، وكل قبيلة زاهية معجبة بنفسها من غير شك، مستخفة بغيرها، ومغالية في الغض منها، والتهكم عليها، ولعل الحقيقة التي لا تحتاج منا إلى تفصيل أو توضيح، أن طابع حياتنا الموغل في البداوة والتخلف، فرض على السودان سننه وعاداته، وحرياً بالناس أن يتخلوا عن هذه السنن، وقميناً بهم أن يهجروا هذه العادات، تلك العادات التي أملتها عليهم طبيعة حياتهم الجافة الغليظة، التي تسعى لارضاء أخسّ الغرائز وأفدحها خطرا، علينا أن نخمد ضرام هذه النزوات، وننفق ما بقي من أيامنا في سلام ودعة،وأن نرفض دنيا النزاعات المسلحة رفضا، ونصد عنها صدودا، ولعل من الغرابة أننا قد عجزنا على استقصاء أسباب كلفنا بهذه الحياة الخشنة، التي لا حظ لها من سلام، ولا حظ لها من وئام، ولا حظ لها من محبة، عجزنا عن معرفه كنه الأسباب، لأن عقلنا المكدود يمنعنا عن ذلك، فعقلنا الجمعي لا يريد منا أن نتنزه عن هذه الأشياء الكريهة البغيضة، عجزنا عن معرفة هذه الآلام والحسرات، وعجزنا أيضاً على دفعها، وقطع صلاتنا بها، وما زلنا نخضع لهذه الحياة التي يجب أن نرفضها ولا نقبلها، ونزوّر عنها، ولا نرتاح إليها.

وموئل الشقاء المستمر، ومصدر حزننا المتصل، لا يمكن ارجاعه لشغفنا وولعنا بالهدم وحده، كلا، ليس الهدم هو السبب الذي حرمنا الاستمتاع بمباهج الحياة، وحملنا على أعنف المحامل وأخشنها.

 إن واقعنا المزري أيها السادة يتيح لنا أن نضيف إلى خصلة الهدم خصالاً ثلاثة، تتمثل في الشغف بالحروب والغارات، وبسفك الدماء، وبالبغضاء التي استأثرت بنفوس الناس جميعاً، هذه هي عواطف الناس، ومشاعرهم، وعاداتهم، وهذه هي طرائقهم المختلفة في ضروب حياتهم الساذجة، التي فاقم عجز السلطان المركزي من ضراوتها، كما أن الناس، كل الناس، أخذت حظوظهم من التمرد على الحاكم والسلطة تزيد،  فالناس بحكم تماهيهم مع نظام القبيلة، أصبحت لا تطيق لحاكم الخرطوم احتمالا.

 ونظام القبيلة إذا أردت أن تعرف رأيي فيه، هو بلا شك نظاماً بغيض، أقامته تلك القبائل المتطاحنة، التي كانت تحيا حياة خاملة قبل بزوغ شمس الإسلام، قبائل تنتهي خصوماتها الدائمة حول الكلأ والموارد، إلى شيء غير قليل من الجهل، والعنف، والحدة، وأنا أرى واثقاً، أن هذا النظام كان يلائم تلك الحياة القاسية بما فيها من ظلمة وعبوس، وشدة وعناء، وحزن وسخط، ويلائم أيضاً ما قلّ فيها من بهجة ورضا،  وسعادة وجذل، ولكن هذا النظام قطعاً لا يلائم تلك الحياة الهادئة، المطمئنة، التي لا يشوبها فزع، ولا خوف، والتي يمكن أن نحياها إذا بنيننا صرحاً فخماً ضخماً من القيم التي تطهر النفس ولا تفسدها، وإذا باتت العصبية لا تمس النفس، ولا تبلغ القلب، وإذا أضحينا نحتقر كل هذه الأشياء التي ذكرتها آنفاً أشد الاحتقار، وبتنا نزدريها أقبح الازدراء، فكل جرائم الحمية والعصبية الشنيعة، وآثامها القبيحة، التي تفاقمت في هذه الديار الملتهبة حتى أحاطت بكل شيء، يمكن أن تنقطع الأسباب بيننا وبينها، إذا جابهناها بأفئدة تمجد الله، وتثني عليه، وتجتمع على أحكامه، تتداعى أسباب تعلقنا بنظام القبيلة، إذا أعددنا له أحلام مثقفة، متقدة، ممتازة، تستطيع أن تحتمل عنت المواجهة، وتصبر عليها، وحتى نفرض على نظامنا الاجتماعي قيوداً محكمة، وأغلالاً ثقالا، كما يقول أديب مصر الضرير، علينا أن نجعل العلم، والسلام، والعدل، والمساواة، من ضرورات الحياة الوطنية، فنحن إذا أردنا أن نمضي ببلادنا حيث نشاء، علينا أن أن نتكلف كل جهد، ونلقى كل مشقة، حتى ننهض بأثقال هذه الواجبات وأعبائها، وحتى نقصي نظامنا الاجتماعي المتخلف، وتستقيم لنا الأمور، يجب أن نمد لهذه الأصول الأسباب، ونرخي لها الأعنة.

وسوم: العدد 1073