بين الحقيقة والمَجاز (قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن (مغالطة رجُل القَشِّ)، أو ما يُسمَّى بلهجتنا الدارجة (التَّهْيابَة)، وهو ما يُسمَّى في استعمالات أخرى (الفزَّاعة). ومن ذلك تَهْيابَة الأعراب للمسلمين حين اتَّهموهم بالحَسَد لمنعهم إيَّاهم من اتِّباعهم في القتال: «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ،  يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ، قُلْ: لَن تَتَّبِعُونَا. كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا. بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.»‏ غير أنَّهم سيُدعَون إلى قتال قومٍ آخَرين، وهم: «أُولو بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليسوا بمسالمين، أو غير معتَدِين. بمعنى آخَر: هم عدوٌّ، وهم عُدوانيُّون. ومقتضى «ستُدعَون» أنَّ هناك داعيًا للقتال، وليست بدعوةٍ مجَّانيَّة، رغبةً في القتال أو المغانم التي يسعى إليها أولئك المخلَّفون من الأعراب. وداعي القتال معروفٌ في «القرآن»، ليس بداعي العُدوان، بل بداعي الدِّفاع؛ لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.» فالقتال في سبيل الله، لا في سبيل المغانم. والعُدوان ممنوع، حتى ضِدَّ من يقاتلونكم. ولم يقل: «تُقَاتِلُونَهُمْ حتى يُسْلِمُوا»، أو «تُقَاتِلُونَهُمْ، فإمَّا أن تُفنوهم، أَوْ يُسْلِمُوا»، بل قال: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون». من حيث هي ليست بثنائيَّة خياريَّة: الموت أو الإسلام؛ فهذا فهمٌ ساذج، ومتعارض مع الآيات الأخرى.

- لماذا لا يلتفت هؤلاء، هاهنا بالذات، إلى التعارض؟

- لأنه يبطل دعواهم. وإنَّما «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون» خيارٌ واحد؛ ذلك أنهم إنْ أسلموا، عصموا دماءهم، وإنْ استسلموا، انتهى الموضوع، وإنْ لم يُسلِموا ولم يستسلموا، وظلُّوا أُولي بأسٍ شديدٍ على المسلمين، فالقتال لا بُدَّ أن يستمرَّ بالضرورة.

- كيف؟

- ليس الهدف من القتال إرغامهم على الإسلام؛ لأنَّ الآية الأخرى تقول: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ».  فلا إكراه في الدِّين، والآيات بيِّنةٌ في النهي عن إجبار الناس عليه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين؟!» لكنَّ هؤلاء، من مدَّعي التناقض، تناقضهم في رؤوسهم. وهم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِين»، أي مجزَّءًا، ليقولوا ما يشاؤون. متعاملين مع النصوص بانتقائيَّة، بعضهم عن جهل، ومعظمهم ينتقون عن مغالطاتٍ، ولأغراض لا تخفى.

- لذا، إذن، لا يسوقون النصوص، كما هي، بتمامها دون اجتزاء أو قفز؟

- نعم. لأنهم لو فعلوا، فعرضوا الآيات بتمامها، لبارت سلعتهم، ولسقطت مصاديقهم، ولخسروا حُججهم؛ لأنه سيتبيَّن أنَّ قتل نفسٍ بغير نفس، أو الفساد في الأرض، هو كقتل الناس جميعًا. والقتال لا يكون إلَّا في سبيل الله، وفي سبيل الحق، لا في سبيل الغزو، ولا المال، ولا المغانم، ولا السبي، ولا السلب، ولا النهب، ولا احتلال الأوطان؛ فليس ذلك كله من سبيل الله في شيء، بل في سبيل الشيطان. وسيتبيَّن، ثانيًا، أنه قتالٌ «للذين يقاتلونكم»، أي دفاعًا. وسيتبيَّن أنَّ الأمر الشديد، والتحذير من الخروج عن محبَّة الله، والسقوط في سخطه، يتمثَّل في الآية: «وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين

- ومن طرائف هؤلاء أن يقولوا بتناقض آخَر، في الآية القرآنية: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.» قائلين: كيف يأمر بما لا يحب؟!

- الإشكال هنا من أربعة أوجه:

1- حديث من لا يعرف اللُّغة أصلًا في نصوص اللُّغة.

2- حديث من لا يفقه أساليب البلاغة في البلاغة.

3- النظر إلى لغة القرن السادس الميلادي حسب الدارج من لغة القرن الحادي والعشرين الإعلاميَّة، أو حتى العاميَّة.

4- وقبل ذلك وبعده: المكابرة. فترى أحد هؤلاء يتلوَّى لا بحثًا عن الإجابات، ولا عن الحق، ولكن بحثًا عما يؤيِّد توجَّهه الرغبوي. ومثل هذا لا جدوى في محاجَّته. بأن يقال مثلًا: العدوان: لفظ مشتق من العَدْو. عَدَا الرجل والفرسُ وغيرهما يعدو عدْوًا، وعُدُوًّا، وعَدَوانًا، وتَعْداءً. ويقال في الظُّلْم كذلك: قد عَدَا فلان عَدْوًا، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعَدَاءً. ومن هذه المادة جاء عَدَا فلان على فلان عَدْوًا، وعَدَاءً، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعِدْوانًا، وتَعَدَّى، واعْتَدَى. فالمهاجمة والمدافعة كلاهما وسيلتهما العَدْو، بصورةٍ أو بأخرى. فمن هاجم آخَر فقد عدا عليه واعتدى، ومن ردَّ ذلك الاعتداء، فسيردُّه باعتداءٍ مقابل. حتى إنَّ العامَّة يدركون هذا، فيقولون في مثل هذه الحال: «البادئ أظلم.»

أمَّا الجانب البلاغي في هذا التعبير، فمشهورٌ في سياق التعبيرات المجازيَّة. وأمثلة هذا كثيرةٌ في العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة. ألم يقل (عمرو بن كلثوم) في معلَّقته:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا ::: فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

فقوله «فنجهل فوق جهل الجاهلين» إنَّما هو مجازٌ مُرْسَل- كما يقول البلاغيُّون- لعلاقة السببيَّة بين الفعل وردِّ الفعل؛ فالجهل الأوَّل حقيقيٌّ والآخَر مجازي. وقد جاء مثلًا، في الآية: «وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا». مع أنَّ الجزاء ليس بسيِّئة. وهكذا سَمَّى ردَّ الاعتداء اعتداءً، مع أنَّه ليس باعتداءٍ على الحقيقة. كما قال: «إِن تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ.» وعليه قول (أبي تمَّام):

لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فَإِنَّني ::: صَبٌّ قَد استَعذَبتُ ماءَ بُكائي

وهكذا، فكم بين (الحقيقة) و(المَجاز)، بخاصَّة، وبينها و(اللُّغة الوظيفيَّة)، بعامَّة، من مَزالق دلاليَّةٍ على غير البصير بأساليب التعبير؛ فتراه متخبِّطًا في دماء الكلام، أو آخِذًا إيَّاه على ظاهر معناه! ومن جانبٍ آخَر، فقد تأتي في الأسلوب المَجازيِّ- من حيث عِلم البديع المعنوي- (مشاكلةٌ) لفظيَّة، وهو فنٌّ أسلوبيٌّ معروفٌ في بلاغة العَرَب. ومن شواهد البلاغيِّين عليه قول (ابن الرقعمق الأنطاكي، -399هـ= 1009م)(1):

قالوا: اقتَرِحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طَبْخَهُ ::: قُلتُ: اطبَخوا لي جُبَّةً وقَميصا

أفكان الرَّجُل مجنونًا ليقترح عليهم أن «يَطبخوا له جُبَّةً وقَميصًا»؟! كلَّا، بَيْدَ أنَّ مَن لا يعرف البلاغة- التي تعتمد فنون المَجاز، لا الحقيقة، وأساليب اللُّغة الوظيفيَّة، لا اللُّغة المعجميَّة، وطرائق التصوير والتخييل والبديع، لا نَقْل الواقع كما هو، لوضْع الألفاظ في مواضعها الأصليَّة- مَن لا يعرف ذٰلك كلَّه سيَعُدُّ أساليب البلاغة كَذِبًا، أو جنونًا.

- هم سيحتجُّون عليك أيضًا بحكاية المَكِّي والمَدَني، في (مَكَّة) كانت المسالمة وفي (المدينة) المحاربة!

- وهنا- مجاراةً لمغالطات الثنائيَّة (مَكِّي-مَدَني)- نكرِّر القول: إن الآيات المتعلِّقة باختلاف البشر، وكراهة العدوان عليهم، وأنَّ الله لا يُحِبُّ المعتدين، واردةٌ في سورتَين مدنيَّتين لا مكِّيَّتين، هما: (سُورة البقرة)، و(سُورة المائدة). وفي الأخيرة، إلى ذلك، الآية: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئُونَ، وَالنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.» فأيُّ مَكِيٍّ وأيُّ مَدَنيٍّ تَباينَ فيه الخِطاب القرآني في هذا الشأن؟!

- ومن هؤلاء جهلاء من المسلمين أيضًا. وبمثل هذا يبرِّرون الإرهاب، أو «الغزو» كما يُسمُّونه.

- وهم يجدون الذرائع لدَى حمقَى الغرب، في المقابل. فالحقُّ أنَّ (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)، مثلًا، تبدو، في سياستها، كولاية تابعة لحكومةٍ مركزيةٍ عاصمتها في (تَلِّ عفيف/ تل أبيب). ولذلك تجد اهتمام الإدارة الأميركيَّة الأكبر والدائم بالمواطن الصهيوني في الكيان المحتل، أكثر بكثير من اهتمامها بالمواطن الأميركي المحتل في بلاد الهنود الحمر. وحرصها على إرضاء المحتلِّ في الشرق الأوسط يسبق حرصها على إرضاء المحتلِّ في مستعمرات العم سام. هذا لا ينكره إلَّا عميل أو منافق. بل إنه ليضجُّ منه بعض عقلاء الأميركان أنفسهم وعُدَلائهم. أمَّا القول: إذن، كما يعتدي علينا هؤلاء فلنعتد عليهم، بمثل ما اعتدوا علينا، بالجُملة أو بالمفرَّق، فاستدلالٌ تُرتكَب به حماقتان استدلاليتان: الأولى، أنَّ قائليه يبترون النصَّ من سياقه؛ لأنَّ سياقه لا يخدم غرضهم: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم»، ويقفون! لا يكملون الآية، ولا يوردون ما قبلها، حيث: «فَإِنِ انتَهَوْا، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين»، الدالَّة على أنَّه قتالٌ لدفع صائل، وقتالٌ للظالم نفسه، المحارب، لا للأبرياء، والمدنيِّين الآمنين، وإنْ كانوا من ذوي الظالم؛ فلا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى. أمَّا الحماقة الثانية، فبلاغيَّة؛ من حيث هم- كما سبق- لا يفهمون شيئًا اسمه «مشاكَلة» في الأسلوب، ولا «مجاز مُرسَل»؛ «فاعتَدُوا» لديهم يعني: «اعتَدُوا»، بالفعل، وبكلِّ ما يعنيه العُدوان من معنى! فهَيَّا بنا إلى التفخيخ على هذا التفسير!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هو: (أبو حامد أحمد بن محمَّد الأنطاكي). وبعض المراجع يكنِّيه بـ(أبي الرقعمق). وإليه نُسِب البيت في بعض كتب التراث. على حين نَسَبَه بعضها إلى (جَحْظة الأنطاكي، -324هـ= 935م).

وسوم: العدد 1074