زرقاويون وممانعون ويساريون

حازم نهار

المدن – 14/8/2013

بعد اعتقال دام أسبوعاً في أيار 2005، جاء رئيس الفرع وأراد أن يفتح معي "حواراً" قبل مغادرتي لمعتقله، وقد استفاض في حديث مكرور وأنا أستمع، وبالطبع لم يخلُ حديثه من أسطوانة "الممانعة السورية" والمؤامرة التي تتعرض لها سورية والمخاطر المحدقة بها، بخاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، مشيداً بما كان يسمى آنذاك "المقاومة العراقية"، ومؤكداً على دور سورية الداعم لها، لكن ما لفت انتباهي وقتها هو قوله "نحن خلقنا الزرقاوي، ومستعدون لخلق ألف زرقاوي".

هذا "الممانع" يقول بوضوح إن "الممانعين" يخلقون الزرقاويين، كي يقوم الزرقاويون بفعل "الممانعة"، في الوقت الذي تنام فيه "الممانعة" مرتاحة وتحتفظ بحق الرد. هذه إحدى المعادلات السياسية التي يرتكز إليها نظام "الممانعة": خلق منظمات زرقاوية الهوى والممارسة، ودعمها وتظهيرها على حساب بقية الفئات والتيارات في المجتمع، كي تبدو جماعة "الممانعة" الحالة المدنية الوحيدة "المتحضرة"، وتوكيلها بمهمات لعرقلة الآخرين وخلط الأوراق، لتقوم "الممانعة" آنذاك بإدارة الفوضى وتصبح الطرف الوحيد الضامن للاستقرار، وعندما تنتفي الحاجة لها تسلِّمها إلى "المكافح الأكبر" ضد الإرهاب، أميركا، وتقبض الثمن.

بالطبع، لا تسير الأمور على هذا النحو المبرمج، أو كما يرغب نظام "الممانعة" تماماً، فالمعروف أن الجماعات الزرقاوية لا يؤتمن جانبها دوماً، إذ يمكن أن تقوم بأدوار لا تتوافق دائماً مع تطلعات "الممانعة"، وقد تحدث تغيرات في الواقع تفسح في المجال لقتال وصراع بين الطرفين في لحظات ما. مع ذلك تبقى معادلة "الممانعة" في هذا الشأن حقيقية في العموم لجهة علاقتها بالجماعات المتطرفة.

في سورية، هذه الجماعات ابن شرعي للنظام السوري، سواء لجهة إنشاء بعضها ودعمه والتنسيق معه وتسهيل أموره في أوقات سابقة، كما حدث بعد الاحتلال الأميركي للعراق، أو كما حدث بعد انطلاقة الثورة بأشهر عندما أفرج النظام عن الكثير من قياداتها المعروفة بقصد إرباك الثورة وتلويثها، أو لجهة كونها نتيجة طبيعية للاستبداد والفساد المزمنين.

قبل الثورة السورية، كان نوري المالكي لا يفتأ يتحدث عن دور النظام السوري في دعم الجماعات الإرهابية في العراق (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين بزعامة الزرقاوي، والتي أصبح اسمها فيما بعد "دولة العراق الإسلامية"، ثم تحولت إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام")، فيما كانت هذه الجماعات ينظر لها من جانب النظام ومعظم أهل “اليسار” (القوميون والشيوعيون على الأخص)، سواء المعارض أو النائم في حضن النظام، على أنها "جماعات مقاومة" للاحتلال الأميركي، على الرغم أن هذه الجماعات كانت واضحة جداً في أساليبها الإرهابية آنذاك، وكان كل من يعترض على إجرامها يرمونه بتهمة العمالة للخارج.

أليس غريباً أن النظام السوري الذي لا يفتأ يكرر عداوته لأميركا يسعى دائماً لطلب شهادة منها على حسن سلوكه والقبول به عضواً أو شرطياً في نادي مكافحة الإرهاب في العالم بزعامة أميركا، على الرغم من أن الإرهاب الموصوف أميركياً لا يطال إلا الحركات والجماعات التي تهاجم المصالح الأميركية والإسرائيلية، فيما تغض أميركا النظر عن جميع أشكال الإرهاب في المنطقة، كالإرهاب الإسرائيلي، وكذلك إرهاب الأنظمة التي ترتدي قشرة هشة من "العلمانية".

الجماعات المتطرفة والإرهابية هي لعبة الجميع، فليس هناك دولة في العالم إلا وتورطت أجهزة استخباراتها في إنشاء ودعم مثل هذه الجماعات، والجميع كانت نظرته لها متغيرة عبر الزمن استناداً للمصلحة والموقف السياسي،كما لا يوجد دولة إلا وتبرأت منها ورمتها في حضن الخصوم في لحظات أخرى.

يمكن القول، على الرغم من قناعتنا بالمساهمة الإيرانية السورية في تيسير إنشاء ودعم العديد من الجماعات المتطرفة القاعدية في المنطقة، فإن تعاظم وزن وتأثير هذه الجماعات يكاد يكون حتمياً في السياق الذي سارت فيه الثورة السورية وما رافقها من حوادث وممارسات. فالبنية المغلقة للنظام استدعت في الحد الأدنى تشكل بنى مغلقة ومتطرفة على شاكلته، هذا إن لم نقل أنها كانت ضرورة للنظام ليرعب بها السوريين والعالم من الأسوأ القادم إن رحل، كما كانت ضرورة أيضاً للغرب وأميركا من أجل التنصل من التزاماتهم الأخلاقية تجاه الشعب المسكين، وضرورة لتغطية تدخل ميليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني.

على صعيد التوجهات والرؤى، فإن التطرف في سورية ليس له حاضنة شعبية حقيقية، على الرغم من وجود بعض مظاهره في مناطق متفرقة، لكن كان من المتوقع أن ينمو تدريجياً مع ازدياد عنف النظام والتدخلات الإقليمية والتقاعس الدولي. الحاسم في نمو التطرف هو النظام السوري، ومن لا يبدأ بمقاربة التطرف الحاصل اليوم من هذه الحقيقة فهو أعمى، أو يبحث عن ذريعة لتغطية انتهازيته وموقفه ضد الثورة منذ البدايات.

لم يكن “اليسار” المعارض في العموم، بخاصة القوميين والشيوعيين، خارج الأرضية السياسية والثقافية للنظام الحاكم، ولا يختلف عنه إلا من حيث المواقع، وربما هذا يفسر مواقف بعض أطرافه ضد الثورة من اليوم الأول، أو مواقف المهادنة لدى البعض الآخر، وهذا لا ينفي بالتأكيد وجود من خرجوا على هذه القاعدة، كما لا بدّ هنا من التمييز بين هذا “اليسار” المتحزب والشباب المدني الذي قامت على أكتافه الثورة، فهؤلاء لا علاقة لهم لا باليمين ولا باليسار.

كان “اليسار” المعارض حتى لحظة انطلاق الثورة ينظر إلى حزب الله بوصفه "مقاومة" مقدسة لا يجوز نقدها، وربما ما تزال هذه النظرة طاغية حتى اليوم لدى قطاعات واسعة منه على الرغم من اشتراك ميليشيات حزب الله في قتل السوريين، واتضاح أنه ليس أكثر من لعبة أو أداة في يد الولي الفقيه، إضافة إلى كونه لا يختلف من حيث النهج والممارسة عن "القاعدة" وأخواتها التي يرد ذكرها كثيراً في بيانات هذا “اليسار” المعارض.

لم يكن هؤلاء يسألون أنفسهم آنذاك كيف يمكن للمقاومة أن تكون محمولة على جماعات إرهابية، لكنهم اليوم يسألون أنفسهم كيف يمكن للثورة السورية أن تكون محمولة على جماعات إرهابية؟ وهو سؤال صحيح منطقياً في وجه "الثوريين" الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن هذه الجماعات فحسب، لكنه مع ذلك يبقى سؤالاً غير بريء النية والمقصد. إذ يجري ذلك في الوقت الذي يغضون فيه الطرف عن الإرهاب الواضح والمنظم للنظام السوري، وبوصفه المنتج والمولد لجميع أشكال الإرهاب. فمعظم “اليسار” المعارض ليس له من عمل اليوم سوى تحديد مواقفه استناداً للجماعات المتطرفة كطريقة لستر هامشيته وخصائه. “اليسار” المعارض يستحق النقد، فيما “اليسار” الآخر، المهادن أو النائم في حضن النظام السوري، لا يستحق الذكر.

كذلك، لا نكاد نجد في بياناتهم وتصريحاتهم ذكراً لجماعات أبو الفضل العباس ولا للجماعات الشيعية الظلامية القادمة من العراق ولا لميليشيات حزب الله المتطرفة ولا للحرس الثوري الإيراني ولا للجيش الوطني الطائفي ولا حتى للإرهاب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية والجيش النظامي الذي يطلقون عليه في بياناتهم "استبداداً" أو "تعسفاً" أو "عرقلةً للحل السياسي". وهذه المفارقة تحدث على الرغم من أن إرهاب بعض هذه الجماعات واضح على مدار سنتين، ويفوق أضعافاً مضاعفة الإرهاب الذي مارسته، على الأقل حتى اللحظة، بعض الجماعات المتطرفة القادمة من خارج سورية تحت ذريعة مناصرة الثورة السورية، وهي التي تتكشف ارتباطات بعض قياداتها يوماً بعد يوم بالنظام السوري وإيران.

للأسف، تنطلق جميع التحالفات والمواقف السياسية من قاعدة "عدو عدوي هو صديقي"، مع الاختلاف في تحديد العدو من الصديق، فقد كانت هذه هي القاعدة التي انطلق منها معظم أهل “اليسار” بكل أشكاله، سواء الواقف في جبهة الثورة أو ضدها. في الماضي كنا نقول لأهل “اليسار”: "ليس كل من يطلق رصاصة على إسرائيل هو صديقي"، فكانوا يستشيطون غضباً لأننا اقتربنا من مقدسهم "المقاومة"، واليوم يستنكر هذا “اليسار” الفاشل ذاته – وهو محق – على شقيقه في الفشل، أي “اليسار” الذي يعلن أنه جزء عضوي من الثورة، دفاعه أو صمته عن الجماعات القاعدية الإرهابية التي يظهر أنها تقاتل النظام، بالاستناد لقاعدة مماثلة: "كل من يقف ضد النظام السوري فهو صديقي"؟ باعتقادي إن القاعدتين السابقتين تستندان إلى منهج التفكير ذاته، وهما خاطئتان وكارثيتان، وتدلِّلان على هشاشة “اليسار” في المواقع كافة.

على العموم، كما يظهر الواقع والتاريخ، فإن المبادئ لم تحكم أحداً، لا في الماضي ولا في الحاضر، والقضية هي تحالفات سياسية لتحقيق مصالح وأهداف محددة. لذلك، فإن مناقشة انسجام المواقف السياسية مع المبادئ مسألة فضفاضة ولا تؤدي إلى نتائج، فكثيراً ما يجرى تفسير المبادئ استناداً للمصالح والمواقف، وكثيراً ما يجري إسباغ الصفة الوطنية على هذه المصالح، فيما هي في الحقيقة مصالح حزبية وشخصية. المؤسف هو عدم وجود حالة متوازنة من العلاقة بين المبادئ والمصالح عند الجميع، فضلاً عن عدم وجود توافق على ماهية المصلحة الوطنية.