سورية التي نريد

د. هشام رزوق

الثورة السورية مستمرة ولا أظنها ستتوقف قبل الإطاحة بالنظام القائم بكل رموزه الأمنية والعسكرية التي ارتكبت من الفظائع بحق الشعب السوري ما لا يمكن تصوره ولم يخطر حتى على بال الشياطين. أقول هذا بيقين أكيد لأنه وفي كل الأحوال فإن الثورة تعتمل في النفوس أولا وبمجرد خروجها للعلن فإنها منتصرة رغم ما  يمكن أن تقع به من انتكاسات ظرفية أو مؤقتة ورغم ما يشوبها من عيوب، فرفض الظلم والاستبداد لا يمكن الرجوع عنه، والتاريخ لا يعود إلى الوراء.

 وضمن هذا السياق فإن إسقاط النظام ليس نهاية المطاف، بل يعتبر الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل من أجل بناء نظام بديل ودولة جديدة وعلاقات وقيم جديدة تتناسب مع مفهوم الثورة وأهدافها، حيث من المعروف أن عملية الهدم أسهل ألف مرة من عملية البناء.

الثورة قامت لهدم منظومة متكاملة من القيم وبناء منظومة جديدة على أنقاضها فأي دولة نريد أن نبني؟

من الضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية علمانية تعددية تتناوب فيها القوى السياسية على الحكم حسب تأييد الشعب لها في صناديق الاقتراع .

حين اقول دولة مدنية، فإني أعني دولة القانون، دولة المؤسسات المنتخبة، الدولة التي يتم فيها الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، دولة يطبق فيها القانون على الجميع دون تمييز أو محاباة لأحد مهما علا موقعه في هرم السلطة، إنها الدولة التي يكون فيها المنصب الرسمي تكليفا بمهمة وليس امتيازا، وأن يتم تعيين الشخص المناسب في الموقع المناسب، دولة يكون فيها الجيش حام لحدود الوطن ومدافعا عنه بعيدا عن السياسة وتفاصيلها اليومية التي يجب أن تترك للسياسيين ذوي الخبرة والكفاءة.

إن بناء الدولة المدنية يتطلب بالأساس وجود قناعة لدى الأطراف السياسية الوطنية بضرورة قيام تلك الدولة وأن تتكاتف الجهود والخبرات والكفاءات للعمل الجدي في هذا الاتجاه.

لا يمكن بناء دولة مدنية في ظل علاقات مجتمعية أساسها الانتماء لطائفة أو لمذهب أو لقومية أو لعشيرة، إنه  يستلزم الإيمان بالوطن أرضا وشعبا وتاريخا وتفاعلا بين جميع مكوناته.

وحين أقول دولة ديمقراطية، فإني أقصد تلك الدولة التي تؤمن بالإنسان كقيمة عظمى في المجتمع، يجب أن يتمتع بكل حقوقه في حياة حرة كريمة، إنسان حر فكريا ، حر في التعبير عن رايه دون خوف، حر في انتمائه السياسي ضمن حدود مصلحة الوطن والبلد، إنسان فاعل في المجتمع ويساهم بكل طاقاته الفكرية والعملية في عملية البناء تلك. الديمقراطية تعني أيضا حرية تشكيل الأحزاب الوطنية وجمعيات المجتمع المدني والنقابات وغيرها. الدولة الديمقراطية تعني دولة التناوب السياسي الذي تحدده انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.

إن من يفكر ببناء دولة ديمقراطية عليه أن يكون هو نفسه ديمقراطي في حياته الشخصية والحزبية والسياسية وفي علاقاته مع الآخرين، أن يكون ديمقراطيا بعلاقته بأفراد اسرته وبأصدقائه ومع رفاقه.

الحزب الذي يناضل من أجل دولة ديمقراطية عليه أن يكون ديمقراطيا مع أعضاء حزبه وفي حياته الداخلية وفي علاقاته مع الأحزاب الوطنية الأخرى فلا إنكار ولا إقصاء ولا تشويه للآخرين بل احترام وقبول للخلاف الفكري والمنافسة الشريفة والإقناع بالحجة وبالرأي والموقف الصحيح.

قد يقول البعض أن الممارسة الديمقراطية تحتاج إلى مستوى من الوعي السياسي والفكري، لكني أقول ان الوعي يمكن الوصول إليه من خلال الانخراط في الأحزاب السياسية التي عليها أن تقوم بدورها في التوعية،  ومن خلال الانخراط في جمعيات المجتمع المدني والنقابات والنشاطات الأدبية والفنية، ومن خلال صحافة رصينة متزنة لا غوغائية ولا شعبوية ولا تحريضية، وكذلك هو الدور المأمول من الفضائيات والصحف الألكترونية ووسائل المعرفة الأخرى، وكل هذا ممكن التحقيق في ظل حرية التعبير والرأي والنقاش الجاد والموضوعي.

والعلمانية هي موقف حضاري لا يعني البتة الوقوف ضد الأديان، بالعكس، هي موقف تسامح مع كل مكونات المجتمع، هي فصل الدين عن السياسة، هي الوقوف بصلابة ضد أي إقصاء على أساس ديني، ضد الطائفية سلوكا وأخلاقا وممارسة، هي الإيمان بقوة الفكر والعلم  وقدرتهما على نقل المجتمعات من حالة البدائية إلى حالة حضارية متقدمة.

من يدافع عن العلمانية عليه واجب تجسيدها على أرض الواقع سلوكا وممارسة ومنهجا، لا يؤمن بالخرافات ولا بالأساطير ولا بالخوارق لتحقيق التقدم المنشود، بل بالعمل والتخطيط والإخلاص والجدية.

سورية بعد سقوط النظام القائم تحتاج إلى إعادة بناء: بناء عمراني، بناء اجتماعي، إعادة المهجرين إلى ديارهم، تضميد الجروح الجسمية والنفسية لمن اعتقلوا وعذبوا واغتصبوا، تحتاج إلى عدد هائل من الاختصاصيين في جميع المجالات،  تحتاج إلى تعويض من فقدوا أبناءهم وديارهم وممتلكاتهم. تحتاج إلى إعادة تأهيل الاقتصاد، من إعادة لدورة الحياة الزراعية، وإعادة بناء المصانع أو إصلاحها، وهذا يستدعي إعادة الثقة لأصحاب رؤوس الأموال السوريين والمستثمرين العرب والأجانب.

التعليم بحاجة لإعادة نظر جذرية بكل المناهج التعليمية وعلى كافة المستويات وبشكل جاد لتنقية تلك المناهج من فكرة عبادة الأشخاص والمسؤولين والقادة وتسهر على بناء جيل واع واثق من نفسه، مناهج تؤكد أن القيمة الحقيقية للأفراد تكتسب بالعمل والإنتاج. مناهج التعليم يجب أن تركز على الجانب العملي والتطبيقي للعلوم إضافة إلى البحوث النظرية الأساسية. يجب إعادة النظر بمناهج التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وإعادة صياغتها على أساس علمي ودراسات معمقة دقيقة ترفض إثارة النعرات القومية أو الطائفية أو المذهبية، وكثير كثير من المهمات التي قد يأتي الوقت للدخول بها بشكل مفصل.

إن القيام بكل تلك المهمات لا يكون إلا بالاعتماد على جيش كبير من الاختصاصيين في علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، من الأطباء والمهندسين والفيزيائيين والكيميائيين وعلماء النفس، من القضاة والمحامين ورجال القانون، كل في مجال اختصاصه. إن جهود هذا الجيش من العلماء يجب أن تكون متكاملة ومتفاعلة مع الواقع، جهود مخلصة صادقة نابعة من حس وطني عال وشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والشعب، جهود تصب كلها في بوتقة واحدة هدفها بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد. 

إنها مهمات كبيرة لا يجب أن تترك للمزاج الشخصي لبعض السياسيين أو بعض من يصدرون الفتاوى الدينية بمناسبة وبدون مناسبة، كما تتطلب وحدة كل القوى الوطنية المخلصة أحزاب وهيئات وشخصيات ومجتمع مدني ونقابات.

يستطيع السياسيون رسم التوجهات الكبيرة للدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتلك قضية تستوجب تفاهما وطنيا بين جميع المكونات السياسية في المجتمع يأخذ بعين الاعتبار مصلحتها جميعا دون تمييز أو مفاضلة أو إقصاء وتترك مسألة التطبيق لأصحاب الكفاءات والاختصاص بدون تمييز.

لا تستطيع أية طائفة لوحدها ولا أي حزب سياسي لوحده ولا أية فئة قومية لوحدها أن تنجز مهمات بناء سورية الجديدة، لأن تلك المهمات تتطلب مساهمة الجميع، جميع ابناء الوطن، باستثناء المجرمين والقتلة ومصاصي الدماء ومن ساهم بتخريبه ونهبه منذعقود.

تلك المهمات تتطلب أن يقف كل من يرفض الطائفية والدكتاتورية والاستبداد، من يرفض الحزبية الضيقة، من يرفض التعصب الديني والقومي ويؤمن أن سورية لكل أبنائها بكل أطيافهم السياسية والدينية والقومية والمذهبية، أن يقفوا صفا واحدا ويشكلوا جبهة واحدة متراصة الصفوف واضحة الأهداف صادقة النوايا.

إن للمثقفين والمفكرين من علماء وأدباء وصحفيين وأطباء ومهندسين واقتصاديين وغيرهم من الفنيين دورا رائدا يجب أن يأخذوه وأن تكون لهم كلمة الفصل في تحقيق برامج التنمية على كافة المستويات، وبغير ذلك ستعم الفوضى والعشوائية والمزاجية والظلامية في التخطيط والتنفيذ وسيكون الفشل الذريع نصيب تلك المخططات والبرامج وتكون دماء الشهداء قد ذهبت هدرا.

لا تبنى سورية بالجهل والجاهلين، ولا بالعواطف والخطب الحماسية، ولا بفتاوى الجهاديين المتعصبين ولا بقرارات عسكرية فوقية، إنما يبنيها شرفاؤها من المفكرين والعلماء والاختصاصيين ضمن برنامج تتفق عليه القوى الوطنية جميعها وتؤمن له أسباب النجاح ماديا ومعنويا وسياسيا.