صانع الزعامات والكوارث

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لم يلتفت كثيرون إلى الدور الخطير الذي لعبه الكاتب محمد حسنين هيكل في عملية الانقلاب العسكري الدموي الفاشي الذي قام به في الثالث من يولية الماضي ؛ وزير الدفاع والإنتاج الحربي ، فعطل الدستور وأسقط الديمقراطية واختطف رئيس الجمهورية وألغى المجلس التشريعي وأسقط الوزارة القائمة ، وعين رئيسا شكليا ووزارة من خصوم الديمقراطية تمثل الأقليات السياسية الفاشلة في الانتخابات والاستفتاءات التي تم إجراؤها منذ ثورة يناير 2011.

الأستاذ هيكل قارب التسعين عاما ، ويتمتع بصحة جيدة ، وقد صنع زعامة جمال عبد الناصر بعد انقلاب الجيش المصري ضد الملك فاروق عام 1952 . فقد توطدت علاقته بالبكباشي جمال عبد الناصر عقب الانقلاب وشهد معه انقلاب عبد الناصر على الديمقراطية التي كانت هدفا من أهداف الانقلاب الستة وحبسه لقائده محمد نجيب بالمرجثلاثين عاما . كان هيكل يمثل النصف الثاني من عبد الناصر لا يفترقان الا عند النوم أو الظروف القاهرة ، واستطاع هيكل ان يكون المبرر الدائم لجرائم جمال عبد الناصر ضد الشعب المصري وهزائمه المروعة التي ندفع ثمنها حتى اليوم .

تحولت جريدة الأهرام على يد هيكل الى صوت جمال عبد الناصر بعد تأميم الصحافة وتحويلها الى نسخة واحدة يحررها الرقيب العسكري . الجديد الذي كانت تنفرد به الأهرام هو ما يقوله عبد الناصر لهيكل أو ما يقوله هيكل على لسان عبد الناصر دفاعا عن ديكتاتوريته وجرائمه وهزائمه .

حين ألغى عبد الناصر الحياة الديمقراطية برر هيكل هزيمة 1956 ، وبرر حرب اليمن البشعة التي خسرت فيها مصر الرجال والمال والسلاح واستمرت خمس سنوات عبثية بلا معنى ولا ضرورة . حتى جاءت هزيمة 1967 فكانت كارثة بكل المقاييس فسماها هيكل نكسة –أي مسألة عارضة !وهبط بسقف الهدف القومي من تحرير فلسطين من الغزاة المغتصبين إلى ما سماه إزالة آثار العدوان ، وما زالت هذه الآثار قائمة حتى الآن ( سيناء ناقصة السيادة – القدس محتلة وكذا الضفة والقطاع والجولان ومزارع شبعا ، وغور الأردن !) .

في عهد السادات تغير الأمر بالنسبة لهيكل ، فقد حاول في البداية أن يكون صانع الزعامة المدلل كالعادة ، ولكن السادات بعقليته الريفية الذكية ، سايره حتى استطاع أن ينجز حرب رمضان ، ويستعيد لمصر روحها ومبادرتها ، ورفض أن يظل صانع الزعامات والكوارث في موقعه الأثير ، فقد أعطى الصحف بعض الحرية ، وظهر آخرون يعبرون عن رئيس الدولة وهو الأمر الذي لم يعجب صاحبنا ، فأعلن تفرغه للكتابه ، وانسحابه من الكتابة الصحفية ، حتى جاءت كامب ديفيد وتداخلت الخيوط ، وتم التحفظ على هيكل مع المئات من الإسلاميين والوطنيين ، فأسرها في نفسه وكتب كتابه البشع " خريف الغضب " لينال من السادات بعد رحيله ويغازل الحكم الذي خلفه . ولكن الذي خلفه كان يملك آلة التأديب والردع ، فتعامل هيكل بمنطق الثعلب الذي يستكشف الطريق لكل كلمة يقولها أو ينطق بها ، ووجدناه يتكلم عن مقام الرئاسة وضرورة احترامه ، وعن أهمية الرئيس للتوازن الداخلي ، ويقول كلاما لولبيا غير مفهوم عن وراثة مبارك في الحكم ، ولكن ما إن جاءت ثورة يناير ، وبدأ التيار الإسلامي يحققق مكاسب انتخابية لم تكن متوقعة فإذا بالرجل يعود إلى خلفيته الموالية للاستبداد والصانعة للزعامات الديكتاتورية .

قابله الرئيس مرسي ، ورحب به ، واستشاره ، ولكنه لم يجد لديه استعدادا ليكون زعيما من صنيعته ، فخرج مكتئبا ،وظهرت علامات الإكتئاب من خلال صبيانه الذين يحتلون الصحف القومية والحزبية والخاصة ، وبدءوا في أحط حملة بذاءة عرفها التاريخ الصحفي قام بها صحفيون ضد رئيس الدولة مستغلين دماثة أخلاثه وتسامحه غير المحدود ، فلم يعاقب سافلا ، ولم يردع منحطا ، أملا منه أن يكون لديهم بعض الحياء والأدب ، ولكنهم كانوا لئاما من أشد اللئام نذالة وجبنا وخسة ، فلم يتركوا في قاموس البذاءة والانحطاط لفظا لم يستخدموه ، ولا مفردة أو كلمة إلا طوعوها للنيل من الرجل ، مما ترك انطباعا لدى العامة أن الرجل مستباح ، وأنه يمكن لأي كان أن ينال منه ، وتبع ذلك ماتبعه من تآمر الدولة العميقة وقوات الأمن والقيادات العسكرية الخائنة .

كان هيكل هو من أوحي إلى صبيانه الناصريين في الصحافة والإعلام بالدعوة إلى نزول الجيش إلى الميدان السياسي ، كانت الدعوة في البداية على استحياء ، ولكنها تزايدت ، وخاصة حين بدا لدول أخرى أن تزيح الرئيس الذي لا يتعاطف مع العدو الصهيوني ، ويريد أن يكون القرار مصريا ، بعد الاكتفاء من الخبز والسلاح والدواء ،ولا يريد أن يكون خاتما في يدها ، أو كنزا استراتيجيا .

 قبيل 30 يونية الذي أعدت له أجهزة المخابرات والأمن بصناعة ما يسمى حركة تمرد المتحالفة مع أركان نظام مبارك الفاسدة ومؤسسات الدولة العميقة  ، مع الحملة الإعلامية الشرسة ، وإلهاب غضب الجمهور ، وترويعه بحثا عن البنزين والسولار والكهرباء مع قطع السكك الحديدية والطرق العامة ، لوحظ أن الأستاذ هيكل ظهر على الشاشة التلفزيونية ، ليكون لأول مرة شجاعا وفصيحا وقاطعا في حملته الضارية على الرئيس والتيار الإسلامي ومؤيدا بكل قوة لإنهاء الديمقراطية وتعطيل الدستور ولإقصاء الرئيس وإلغاء الإسلام وليس التيار الإسلامي .

المفارقة أن الأستاذ كان يستنكر أن يظل مبارك محبوسا في زنزانة ويدعو إلى إطلاق سراحه ، ولكنه حتى الآن لم يستنكر خطف محمد مرسي أو يدعو إلى تحديد مكانه ولو كان زنزانة في طرة !

هيكل كان غاضبا من نظام الرئيس مرسي لأنه كان سيحاسب ابنه في قضايا تتعلق بشركات القطاع العام التي تمت خصخصتها أو بيعت بثمن بخس . ابن هيكل صار مليارديرا كبيرا مع أن اباه لم يمنحه ملايين أو مليارات ، ولكن هيكل بطبيعة الأبوة لم يرد لابنه أن يُساءل لتثبت براءته أو إدانته ، ولذا كانت حملته الضارية على الرئيس والاسلاميين بل والإسلام من أبشع الحملات التي قادها في عصر الرئيس المؤدب الذي تم اختطافه .

هيكل صار من زوّار وزارة الدفاع ، ويقال إنه يقضي وقتا طويلا هناك ، وقد كان من أوائل الذين التقوا الرئيس المؤقت الذي وضعه الانقلاب العسكري الدموي الفاشي على رأس البلاد ، ثم إنه بدا قريبا من صياغة وخطابات وزير الدفاع قائد الانقلاب وفق ماصرح به بعض مريديه ، مما يعني أن الأستاذ يعيد التاريخ ، ويهيئ لمرحلة جديدة من حكم البيادة ووضعها فوق رقبة الشعب البائس مثلما حدث في عهد جمال عبد الناصر. مما يعني أن قائد الانقلاب يستعد أن يغيّر البدلة الكاكي ويرتدي زيا مدنيا ويحكم البلاد بصورة مباشرة دون أن يستتر وراء دمى أو عرائس ماريونيت ، فقد استعاد كبار الجلادين في أمن الدولة ، وبعث الحياة في أجهزة الأمن الميتة لتمارس القمع والإرهاب وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات والاستعانة بالأبواق المأجورة لتشغيل ماكينة الكذب والتدليس والتضليل .

قال صبي من صبيان هيكل مؤخرا : إنه يتوقع أن يكون الرئيس القادم لمصر ذا خلفية عسكرية ، وويل لمصر إذا نجح صانع الزعامات والكوارث مرة أخرى ، فلا أحد يعلم هل سيصل الغزاة اليهود هذه المرة إلى قلب القاهرة أو يواصلون الزحف إلى أسوان . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!