الباراسيكولوجيا

ذخائر الفكر الإنساني (28)

د. خالص جلبي

[email protected]

علم النفس الفائق كم يصمد للاختبار العلمي ؟

وصف المؤرخ البريطاني ( جون آرنولد توينبي ) الدولة الآشورية أنها ماتت في درعها ، وعندما هوت هذه الجثة الى الأرض لم يرحمها جيرانها ، بل مزقوا جثتها إرباً ، لأنهم لم يصدقوا أن تسقط تلك الدولة الرهيبة التي حكمت معظم الشرق الأوسط ومصر وهي في زهوة القوة ، فدولة آشور كانت تتفقد آلتها الحربية باستمرار وتطورها بإحكام . وعندما دفنت جثة الدولة الآشورية في مقبرة التاريخ ، لم يعد يتذكر أحد ، أنه كانت في العراق الشمالي في عاصمتها نينوى ( مدينة الموصل العراقية الحالية ) دولة ذات ذراع بطاشة طويلة دفنت معظم شعوب الشرق الأوسط تحت الثرى ، وسوت مدنه بالأرض في حملات عسكرية جهنمية (1) الى درجة أن بعثة عسكرية يونانية مرت بعد قرنين في المنطقة وخلدتها بلوحة أدبية دون أية إشارة الى طبيعة واسم الشعب الذي عاش في هذه المنطقة .

 كان موت آشور عجيباً لأن اسمها عُرف فقط من خلال البعثات الأثرية الحديثة (2) التي كَشَفت عن حضارةٍ قامت بكل جبروت ثم انهارت ومُزِّقت كل ممزق وجُعلت أحاديث ، كما جاء في منام ( نبوخذ نصر ) الذي عبَّره له النبي ( دانيال ) من الانبياء العبرانيين .

 سبي بابل في التاريخ :

 تفتقت جهنمية العقل العسكري الآشوري عن وسائل جديدة لتطويع وتركيع الشعوب المجاورة لقبضتها الفولاذية ؛ فمدن الشرق الأوسط إما أن تستسلم بدون قيد أو شرط لارادة ملوك آشور ، أو أمامهم هدم مدنهم وتسويتها بالأرض واقتلاع شعوب بأكملها ؛ لتزرب في معسكرات اعتقال جماعية مروعة ، قبل أن يهتدي الى هذه الطرق الفاشيون في العصر الحديث ، كما فعلت إيطاليا الفاشية مع الشعب الليبي .

 وهكذا سيق الشعب اليهودي الى معسكرات الاعتقال الجماعية الآشورية ، هولوكوست العصر القديم ، وخَلَدتْ أدبيات اليهود تلك الأيام الحالكة ، وأما النخبة الجيدة منهم فقد سقيت الى قصر نبوخذ نصر فبدلت ثيابهم واسماؤهم وأعطي النبي دانيال اسم ( بلطشاصر)(3) حتى كان ذلك اليوم الذي ارتجت فيه ردهات الاقصر من رؤيا مفزعة للملك .

 منام الملك نبوخذ نصر :

 في السنة الثانية من حكم الملك نبوخذ نصر حلم ماأزعج روحه وطار عنه نومه ، فأمر الملك بأن يستدعى المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون ليخبروا الملك ليس ماهو تفسير المنام ؟ بل مارأى على وجه الدقة ثم تفسيره والا كان مصيرهم الذبح ؟!

 الذي حل المشكلة كان ( بلطشاصر ) النبي دانيال الذي أخبر الملك عما رأى ، ثم مضى في تعبير المنام (4) : أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم . هذا التمثال العظيم البهي جدا وقف قبالتك ومنظره هائل . رأسه من ذهب وصدره وذراعاه من فضة . بطنه وفخذه من نحاس . ساقاه من حديد . قدماه بعضها من حديد وبعضها من خزف . أيها الملك كنت تنظر الى هذا التمثال حتى انطلق حجر من غير يدين من جبل ؛ فضرب التمثال في نقطة ضعفه في قدميه ، التي هي خليطة غير متماسكة من الحديد والخزف ؛ فهوى التمثال صريعاً الى الأرض .

 أنصت نبوخذ نصر الى المنام مرتاعاً وانتظر بقية الحديث بلهفة . تابع النبي دانيال مفسراً المنام هذه المرة : ستتابع الدول والممالك واحدة تتلو الأخرى ، فأنت رأس الذهب القوي المتمكن ، ولكن المملكة التي بعدك ستكون أضعف وأصغر ويتتابع الضعف في الدولة ، حتى تصل المملكة الى وضع الهشاشة وعدم التماسك الداخلي ، كما هو الحال في خليطة الخزف والحديد ، عندها تسقط ويجرفها التاريخ . أيها الملك : الحلم حق وتعبيره يقين .

 ينابيع الباراسيكولوجيا :

 يطرق العلم اليوم باباً جديداً يحاول ولوجه والامساك بأسراره . فهناك مجموعة من الظواهر التي يلاحظها الناس ولكن لايعرفون مصدرها ولاقانونها الذي ينتظمها ولكنها حقيقة مكررة معروفة . فإذا كان المنام الذي رآه نبوخذ نصر وطلب لمن حوله أن يخبروه بما رأى قبل تعبيره ؛ فإن يوسف الذي عاصر ملوك الهكسوس طُلب منه تفسير المنام الذي تكرر وأدخل الملك في حالة مزاج سوداوي ، من منظر بقر يأكل البقر وليس العشب ، بقر ضاوي متبارز الأضلاع يهجم على بقر سمين ممتليء الصحة ؛ فيفترسه كالسبع الضاري الجائع ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف )(5)

 من مثل هذه الظواهر العجيبة والتي هي قوى كامنة فينا لم نعرف أسرارها بعد ، انطلق ليس علم النفس فقط بل تدفق علم جديد يمكن ترجمته الى علم ( النفس الموازي ) أو علم ( النفس الفائق )

 طبيعة الأحلام بين علم النفس والخبرة الشعبية :

 المنامات أو الحلم الذي يراه كل واحد منا وتشاركنا فيه أيضاً الحيوانات على مايبدو ، عالم قائم بذاته وهو وجودنا الثاني ، فنحن نفرح أو نتألم ، قد نبكي حزناً ، أو نصيح رعباً ، ونحن نرى أنفسنا في وضعٍ يقوم على وهم كامل وغير حقيقي ، الى درجة أن بعض جذور الفلسفة نبتت من ظاهرة المنام ، حينما قالت : كيف يمكن لنا أن نصدق حواسنا وهي تروي لنا الكذب بأكمله في المنام ؟ فنحن نرى فيلماً عارياً من الحقيقة تماماً !! فيجب علينا أن نكذب ماتراه حواسنا ، ومايدرينا أننا في نوم من نوعٍ مختلف ، ومن هنا ظهرت أقوال تزعم

أن الناس نيام حتى إذا ماتوا استيقظوا ، فما بعد الموت هو يقظة كاملة . ولعل في الآية القرآنية من سورة ( ق ) ظلاً لهذا المعنى ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

 الوعي واللاوعي ووظيفة المنام في اللاوعي : 

 يرى علماء النفس أن ظاهرة الأحلام ظاهرةً صحية ؛ كونها المخبأ الأمين للمشاعر الدفينة المكبوتة ، التي لم تستطع أن تتنفس وتحقق وجودها في العالم الواعي المبرمج والضابط لرغبات الانسان ، فالانسان ذو بعدين بيولوجي شخصي واجتماعي صاغه المجتمع ، فياتي المنام لينفس عن هذه المشاعر المكبوتة ، فالذي فشل في الامتحانات وهو لايدرس الكفاية ولكنه يرغب أن يتفوق ، سيأتي المنام فيظهره وقد بزَّ أقرانه وتعلقت على صدره النياشين وامسك جلاءه المدرسي مزهواً بالتفوق ، والذي يتظاهر بالتقوى ويضغط غرائزه الجنسية من التنفس وممارستها بشكلها الطبيعي ، سيعيش ليالي عجيبة من الخلاعة والتهتك في ممارسات جنسية شتى ؛ فكل الكبت المضغوط في الأعماق سيتحرر بكل عنفوان وجبروت في الأحلام . 

 النوع الآخر من الأحلام ( أحلام التحقق ):

 ولكن كل هذا لايفسر طبيعة خاصة من الأحلام وهي أحلام التحقق ، فليس من انسان الا ورأى مناماً أصابه قسم من الحقيقة ولو بعد حين ، والذي يكتب هذه الأسطر له تجربة شخصية في ذلك ، ولانعرف تفسيراً لذلك ، هل تقوم الروح برحلات خاصة فتصل عوالم أخرى بعيدة ، فتكتشف أو تستشف ماحدث ويحدث ، فتنقل لنا الأخبار ، هذا ماتتكيء عليه الموجة الجديدة من علم النفس ، أي علم النفس الفائق ( الباراسيكولوجيا ) .

 والواقع أن علم النفس بالخاصة وقف حائراً أمام ظاهرة منامات التحقق فهي حقيقة نعيشها ، ولكن قانونها يتملص من أيدينا فلانعرف كيف تحدث ، حتى أن التجليات الأولى للنبوة كانت بالرؤية الصادقة كما ورد عن عائشة ( ر ) أنها روت عن بدء الوحي الذي استغرق مدة ستة أشهر كان لايرى الرسول ( ص ) شيئاً الا جاءت مثل فلق الصبح ، وهذا يفيدنا في فهم الحديث الذي يقول أن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءً من النبوة ، باعتبار ان النبوة استغرقت 23 سنة ، كانت الرؤيا الصادقة منها نصف سنة ، فنسبة الستة أشهر الى 23 عاماً تعمل جزءاً من ست وأربعين جزءاً . 

 جدلية وظروف اكتشاف القوانين العلمية :

 فمثل هذه الظواهر التي يعيشها كثير من الناس يفيد إمكانية بحثها بشكل علمي ، فكل الظواهر التي أماط العلم عنها اللثام ، انطلقت من التساؤل النهم ، عن سر بعض الظواهر التي نراها يومياً ونمر عليها ونحن معرضون . وهكذا فإن سقوط التفاحة اليومي لم يحرك في رؤوس الناس عبر القرون شيئاً ، ولكنه علَّم ( اسحاق نيوتن ) قانون الجاذبية ، الذي صقَّله الى مستوى المعادلة الرياضية ، وتعتبر قوة الجاذبية اليوم إحدى القوى الرئيسية الأربعة التي تحكم الوجود . كذلك فإن غطاء الأبريق وترجرجه تحت ضغط البخار أوحى لـ ( دينيس ببان ) بقوة البخار ، وطنين الذبابة المزعج عند اذن ( رينيه ديكارت ) أوحت له بالهندسة التحليلية ، والهواء الذي كان يدخل من باب الكنيسة المفتوح ، فيحرك الثريا في السقف أوحى لغاليلو بفكرة الساعة البندولية ، فكلها كانت ظاهرات عادية ولكنها دلت على النواميس التي تحرك العالم وتسيطر على قدر الوجود . 

 تحت ضغط هذه الأفكار بدأ العلم يستعرض الظاهرات الشعبية من مثل أحلام التحقق وظاهرة التخاطر والاستشفاف ليدرسها دراسة علمية ليرى كم تصمد للاختبار العلمي ، ولكن من الجميل أن نعرف معنى الكلمات ؟ فحين نقول البحث العلمي فماذا نقصد به على وجه الدقة ؟

 ماذا نعني بالبحث العلمي ؟

 إن هذه الكلمة ثقيلة ويجب بللورتها لأقصى حالات النقاء الالماسي الفكري ، فالعلم لم ينمو ويصمد الا ببناء قواعد منهجية قاسية ، وأبحاثنا التي نطرقها سواء هذا البحث أو غيره مما عرضناه للقاريء هو من قبيل عمليات تقريب العلوم وتحبيبها للقاريء ، أما البحث العلمي الصارم فليس مكانه مقالات الجرائد ، ويجب أن ننتبه الى هذه الحقيقة الهامة ، فنكتب بروح مقالة الجريدة المشوقة التي فيها الطلاوة الأدبية ، وشيء من العمق الفلسفي ، ومطعمة بدسم علمي خاصةً الحديث منها الذي خرج لتوه من الأفران العلمية وهو طازج بشهية رغيف الخبز الساخن ، كما يجب مزجه بروح الايمان كي ياخذ الغائية من فهمه والا تعرض لللانسحاق تحت فكرة العدمية والعبثية في الوجود 

 الظواهر العلمية يجب أن تتتميز بأربع أخلاق أساسية :

 أولاً : لايوجد أسرار في الحث العلمي :

 فيجب أن تكون تحت الضوء فلا يوجد أسرار في العلم ، فالمؤتمرات العلمية صُممت خصيصاً لهذا الغرض ، كي يتقدم كل من وصل الى حقيقةٍ علمية ، بطرحها على الرأي العام ومناقشتها ، ليرى مدى صمودها امام الامتحان المعارض والمقاومة العلمية ، اما ادعاء البعض انه متميز بقدرة خارقة ، وعلم سري لايطلع عليه أحد ، فهو لايدخل فقط باب الدجل والشعوذة ، بل خطر ابتزاز الناس ووضعهم تحت سيطرة بشرية مثلية ، فعندما يدعي انسان أن عنده قدرة خارقة على اطفاء النيران المستعصية ، علينا أن نستفيد منه في اطفاء حرائق آبار الزيت في الكويت ، بدلاً من استقدام الشركات المتخصصة ودفع ملايين الدولارات لها ، أو لعلنا أن ننقل هذه الخبرات الى مؤسسة الدفاع المدني ؛ كي تضعها في برامجها اليومية لمكافحة الحرائق ، اللهم إذا صمد في قساوة الامتحان العلمي ولم يهوي في خندق الشعوذة .

 الشيء الهام هو عدم السرية في المعلومات . والاسلام جاء لتحرير الانسان من كل القوى التي تدعي امتلاكها قوة خاصة خارقة ، ومن هنا نفهم عمق الحديث الذي يشير الى أن من ذهب الى كاهن أو عرَّاف فصدَّقه بما يقول فقد كذب بما نُزِّل على محمد ( l ) .

 أية ظاهرة يجب ان لاتكون سرية بل يجب ممارستها تحت ضوء النهار وأمام أعين الناس جميعاً ، واضحة القانون وميسرة للجميع .

 ثانياً : التكرار عند توفر شروطها : 

 يجب ان تخضع الظاهرة العلمية عندما تتحقق شروطها لتولدها من

جديد ، كما في تشغيل أي جهاز والا اعتبر عاطلاً ، أي خضوع الظاهرة لفكرة القانون والسنة الكونية ، وهو مايلح عليه القرآن في تكوين العقل المنهجي السنني ، عندما يشير الى أن الكون مبني على السنة بمعنى الناموس والقانون ، وطبيعة السنة الثبات وعدم التحول والتبدل . يعني التحول في مجراها ويعني التبدل انقلابها الكامل واستبدالها بقانون جديد ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) 

 والأمر الثالث : إمكانية تطبيقها من أي شخص في أي زمان أو مكان أي ( العمومية أو الشمولية ) :

 فيجب أن يكون في إمكانية أي شخص يريد تطبيقها أو استخدامها أن يتطوع له القانون ، فلا يخرج أحد عن القانون سلباً وإيجاباً . كلُ من يُحقن بمادة مخدرة يجب أن ينام بها ، وكل من يأخذ أبرة تخدير ويحقنها الى انسان آخر يجب أن يستجيب المحقون فينام ، فالديموقراطية صارمة في مستوى القانون فلايستطيع أحد أن يشذ عن القانون أو يعتبر نفسه فوق القانون . وأعظم نقلة لفكرة القانون هي في التنزيل الاجتماعي لها ؛ فإذا كان الكون مبني على العدالة وعدم المحاباة فيجب ان يحصل نفس الشيء في مستوى المجتمع ، فالشريعة هي وقوف الناس الكامل المتساوي أمام القانون فلا يوجد امتياز لشخص او عائلة أو طبقة أو حزب أو شريحة أو عرق او جنس ، وهو تنزيل جوهري لمعنى التوحيد الاجتماعي ( وأن لايتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله ) .

 الأمر الرابع : انتظامها في صورة قانون متماسك مفهوم :

 ويطبق هذا على أكبر قدر من الحالات . ويصاغ هذا في مستويات شتى . كما في قانون تمدد المعادن بالحرارة في الفيزياء ، أو قانون الجاذبية في مستوى الكون ، أو العمل الجنسي في مستوى البايولوجيا ، فالنعوظ عند كلا الجنسين ، والاضطرابات الجنسية المختلفة تدرس اليوم علمياً في معهد خاص في أمريكا ( معهد كينيسي ) أو قوانين ميكانيكا الكم في المستوى الذري ، أو العواطف الانسانية وقوانينها الخاصة ، أو حركة المجتمعات وجدليتها ؛ فكلها قوانين نوعية متصاعدة في مستويات شتى ، واليوم يحاول علماء النفس طرق باب الباراسيكولوجيا في ضوء هذه الصرامة العلمية ، فبدأوا منذ مطلع الثمانينات في انشاء معاهد تدرس ظواهر البارسيكولوجيا ، كما هو الحال في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة (6) .

 بناء العقل العلمي المنهجي وتحريره من الاسطورة والخوارقية

من أجل دفن الشعوذة في أرضها ، واستنبات العقل في وسط علمي كان اتجاه القرآن جذاباً لأبعد الحدود في معالجة فكرة المعجزة ، بحيث يمكن صب بعض الأفكار في هذا الاتجاه :

 الفكرة الأولى : لم يأت القرآن وينزل لهذا الهدف ، بل إن القرآن بقدر ماذكر ( المعجزات ) للانبياء الذين خلوا من قبل ، بقدر ماكان واضحاً مع نفسه ، أن عهد المعجزات انتهى ، وأن مجيء الاسلام هو إعلان مولد العقل الاستدلالي (7) وبتتبع عشرات الآيات في القرآن نرى هذا الاتجاه واضحاً مدشناً صارماً ، في إغلاق باب الخارق والاسطوري والخلاَّب ، ويظهر هذا بتأمل حشد كبير من الآيات تناولت الطلبات الطفولية التي كان المشركون يحرصون على رؤيتها والتي ذكر القرآن بشكل قاطع أنه لن يلبيها لمعرفته الواضحة بعد جدواها (8)

 الفكرة الثانية : إذا كان اتجاه القرآن هو غير هذا المنحى كما هو في سياقه العام وعشرات الآيات المتناثرة ؛ فإن قلب الاتجاه الى المعجزة والخارق والاسطوري هو تغيير في طبيعة الطرح القرآني ، أعني منهجه في التكوين العقلي ، فطبيعة ( اللغة ) في القرآن هي لغة استخدام العقل ( يعقلون ويتدبرون وينظرون ) هي غير هذا الاتجاه الذي يتقدم به من يريد التدليل على صحة القرآن بلغة استخدام الخارق والاسطوري ، فالثقة في القرآن هي تركيب داخلي قبل أن تكون شهادات خارجية ، بكلمة ثانية يمكن اختصار هذا الاتجاه بأنه لم يفهم روح القرآن وطبيعة التوجه الموجود في داخله .

 الفكرة الثالثة : الاعجاز كلمة تعتمد تعجيز وشل قدرة الخصم الخصم فهي قهر للعقل وليس تحريضاً له ، لذلك اعتمدت الآية القرآنية قوتها من عمق الحجة فيها وليس من شل العقل تجاهها ، ويستشهد القرآن من التاريخ بأن المعجزة لم تنفع وتم تكذيبها مع كل سطوعها ( وما منعنا أن نرس بالآيات الا أن كذب بها الاولون ) هذه الآلية الهامة هي التي جعلت القرآن يكف عن استخدام هذه الأداة ( INSTRUMENT ) طريقة في هداية البشر ، لأن مفتاح الهداية يعتمد آلية مختلفة ، في لفت النظر الى تأمل الكون والاتعاظ بأخبار التاريخ ، وهكذا تحولت ( الطبيعة والتاريخ ) الى مصادر للحق لايعرف النضوب اليها سبيلا . أي اعتماد مبدأ المعجزة المتكررة إذا جاز التعبير .

 الفكرة الرابعة : يقوم هذا الحدث الخلاب والاسطوري ( المعجزة ) في ظرف محدود ( زمانا ومكانا وأشخاصا ) وهكذا فإن انشقاق البحر لموسى رآه مجموعة معينة من الناس عاصرته سواء معه أو ضده ، لأن فرعون رأى المعجزات ولم تغير تفكيره . ونحن اليوم نرى نفس المشهد بخدعة سينمائية ، ولو استطعنا عرض الفيلم على من سبقونا بدون إشعارهم بالتقنية المعقدة للسينما لارتعبوا حقاً . فالحادث الخارق مربوط بإحداثيات ثابتة ، في حين أن القرآن لايريد المؤقت بل الدائم ، لايريد العابر والزائل بل الخالد ، هو يريد تأسيس العقلية المنهجية السننية التي تتعامل مع الكون على أنه يقوم على نواميس وسنن لاتتبدل ولاتتحول . ومن أجل انتاج عقلية سننية جرت عادة القرآن في سرد الأحداث التاريخية : أنه يأتي الى الحدث التاريخي فيعريه من إحداثياته الزمانية والمكانية والشخصية ، ومع كل حرص القرآن على هذا التوجه ؛ فلم يهتم بذكر لون او اسم كلب أصحاب الكهف ، ولكن بعض المفسرين استهوته القصة جداً ، فرأى أنه لابد من اكتشاف اسم الكلب ومكان الكهف ، والقرآن كان يريد من تعرية الحدث من إحداثياته الأرضية إدخاله معمل المطلق ، كي ياخذ طابع القانون الخالد الانساني .

 والآن في ضوء هذا الشرح العلمي السنني أين تأتي الباراسيكولوجيا في هذا السياق ؟ لعله من المفيد أولاً أن نأخذ فكرةً عن أهم مافيها .

أعمدة الباراسيكولوجيا الخمسة :

 استعرض عالم النفس جون تايلور المظاهر الأساسية التي بدأت تثير خيال علماء النفس لدراسة هذه الظاهرة واختصرها في خمس ميادين رئيسية :

1 _ الظاهرة الأولى : التليباثي أو التخاطر عن بعد ، وهي قدرة عقل ما على أن يتصل مباشرة بعقل آخر خلال وسط آخر غير أجهزة الحس المعتادة .

2 _ الظاهرة الثانية : الاستشفاف ( رؤية ماوراء الابصار العادي ) أي المعرفة التي يكتسبها شخص ما بوقائع أو أشياء والتي لايمكن الحصول عليها بوسائل الادراك الحسي العادية .

 3 _ الظاهرة الثالثة : قدرة التحريك النفسي ( PSYCHOKINESIS ) وهي قدرة قد يمتلكها الشخص تسمح له بتحريك الأشياء القريبة منه دون استخدام أي قوة مرئية ملموسة لتحريكها .

4 _ الظاهرة الرابعة : القدرة على معرفة المستقبل أو المعرفة المسبقة .

5 _ الظاهرة الخامسة : القدرة على الاتصال بعالم الموتى والتفاهم معهم ونقل أخبارهم .

 لعل استعراضاً سريعاً لكل هذه العناوين الرئيسية يعطينا المؤشر السريع الى اهتزاز هذا العلم وعدم تماسكه ، ولكن لايعني شطبه والغاءه ، فالعلم يتقدم بآليتي الحذف والاضافة ، ولعل المستقبل ينقل الينا خبر تطور هام في هذا العلم . أو لعلي أن أعود بشرحٍ أوسعَ لهذه الظاهرة في المستقبل ، فكثرة الكلام ينسي بعضه بعضا . 

 إن تقدم العلم في التاريخ كان شاقاً بطيئاً ، ولكنه تقدم بثقة ، ومن رحم المعاناة هذه ولد العقل الانساني السنني المنهجي .

               

مراجع وهوامش :

 (1) جاء في كتاب مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني جون آرنولد توينبي : (( واذا تطلعنا الى الوراء عبر فترة القرن ونصفه التي اتسمت باشتداد حدة الحرب والتي بدأت بتسلم تيجلات بيليسير العرش عام 745 قبل الميلاد وانتهت بانتصار نبوخذنصر على الفرعون نخاو في موقعة كركميش عام 605 قبل الميلاد نجد أن الأحداث التاريخية التي تبرز لدى النظرة الأولى هي الضربات القاضية المتتابعة التي دمرت آشور جماعات بأسرها وسوت مدنها بالأرض وحملت الى الأسر سكاناً بأجمعهم : دمشق عام 732 وسامرا عام 722 وموساسير 714 وبابل عام 689 وصيدا عام 677 وممفيس عام 471 وطيبة عام 663 وسوسا عام 639 ولم يسلم من عدوان الآشوريين _ الى أن خربت نينوى نفسها عام 612 قبل الميلاد _ سوى صور والقدس من جميع كبرى مدن الدول التي بلغتها جميعها الذراع الآشورية . وإن البؤس والدمار اللذين ابتلت بهما آشور جيرانها فوق مايتصور .. وإذا كانت جميع ضحايا آشور الذين ذكرتهم هذه السجلات قد كافحوا ليعودوا الى الحياة وينتظر بعضهم مستقبل عظيم ؛ لكن نينوى سقطت ميتة ولم تبعث قط ) الجزء الثاني _ ترجمة فؤاد محمد شبل _ ص 109 _ 110 )(2) نفس المصدر السابق (( ويزداد القاريء تعجبا من وصف اكزنوفون ( XNOPHON ) لما شاهده ، والقاريء على علم بمصائر آشور عن طريق استكشافات علماء الآثار المحدثين لحقيقة مدارها أن اكسنوفون كان يجهل كل شيء يتصل بحصون المدن المهجورة هذه . وعلى الرغم من أن جنوب غرب آسيا بأسرها : من أورشليم الى أرارات ، ومن عيلام الى ليديا ، قد خضع لسادة هذه المدن وكان يرهبهم ، وذلك قبل يمر اكسنوفون بهذا الطريق بمدة تقل عن القرنين ؛ فلقد كان خير ماذكره عنها لايتصل بتاريخها الحقيقي ، ولم يكن اسم آشور نفسه معروفا لديه ) كتاب مختصر دراسة التاريخ _ توينبي _ الجزء الثاني ص 105(3)( العهد القديم سفر دانيال ص 1260 الاصحاح الأول )(4) تقول الروايات التاريخية أنه كشف لدانيال السر في رؤيا الليل حينما دعا اللله بقلب منكسر ( ليكن اسم الله مباركا من الأزل والى الأبد ، لان له الحكمة والجبروت ، وهو يغير الاوقات والازمنة ، يعزل ملوكا وينصب ملوكا ، يعطي الحكماء حكمة ، ويعلم العارفين فهماً ، هو يكشف العمائق والاسرار ، يعلم ماهو في الظلمة ، وعنده يسكن النور ، إياك ياإله آبائي احمد واسبح الذي اعطاني الحكمة والقوة ، واعلمني الان ماطلبناه منك لانك اعلمتنا امر الملك . دانيال ص 1263 (5) جاء في الآية مقارنة بين بقر هزيل يهجم على بقر سمين فيفترسه مع منظر إضافي لسنبلات خضراء يميلها الريح وسنبلات يابسة جافة ، ويتكرر العدد دوماً سبعة ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) سورة يوسف الآية رقم 43 (6) معمل أبحاث الباراسيكولوجي الذي أنشأه الدكتور براين في جامعة ديوك _ راجع كتاب ( عقول المستقبل ) للاطلاع على البحث الكامل في الباراسيكولوجيا _ تأليف جون تايلور _ ترجمة لطفي فهيم _ سلسلة عالم المعرفة _ رقم 92 _ ص 199 (7)( جاء في كتاب تجديد التفكير الديني للفيلسوف محمد إقبال : يبدو أن نبي الاسلام يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث . فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته ، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها . فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم تجاهها الجديد . ومولد الاسلام هو مولد العقل الاستدلالي )( تجديد التفكير الديني _ تأليف محمد إقبال _ ترجمة عباس محمد _ الناشر مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر _ ص 144 )(8)(( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا ) سورة الاسراء الآية 90 _ 93