شباب الثورة في سورية ، والربيع العربي

على بساط الثلاثاء

شباب الثورة في سورية ، والربيع العربي :

كيف تم تغييبّهم عن المشهد ...؟!

حبيب عيسى

( 1 )

بعد أن توقفنا عند الآليات التي لجأت إليها السلطة في سورية من جهة ، والمعارضة التقليدية من جهة أخرى لمواجهة تداعيات الربيع العربي ... سنحاول في هذا الحديث البحث في الآليات التي بموجبها باشر الشباب الثائر حراكه الثوري ، وكيف كسر حاجز الخوف ؟ ، وكيف آلت الأمور إلى العنف ؟، وأين كان الفشل ؟ ، وأين كان النجاح ؟ ، وهل يمكن للشباب الثائر أن يستعيد زمام المبادرة من جديد ؟ ، وما هي العقبات ؟ .

 نؤكد بداية على ما قلناه في بداية هذا الحديث من أن النظام الإقليمي في الوطن العربي قد وصل إلى الحائط المسدود على مختلف الأصعدة الوطنية والقومية والاقتصادية والاجتماعية وبالتالي باتت الطرق مسدودة أمام التنمية والتطور والتحرر والحرية والسيادة فكانت الثورة تلبية لحاجة ملحة ، لكن ذلك النظام الإقليمي كان قد سد كل الطرق التقليدية لثورة منظمة تحدث تغييراً جذرياً ، وهكذا كان لا بد من إبداع أساليب لم تعهدها البشرية من قبل لكسر تلك الحلقة المغلقة – الثورة كضرورة لكن أدواتها المنظمة مغيبّة – فكيف ، وبمن تنطلق الثورة إذن ؟ .

 لم يتأخر الشباب العربي في إبداع الجواب ، وبدأت رياح الربيع العربي تهب من تونس تنشر أريجها بين المحيط والخليج ، وكان على القوى السلطوية المسيطرة بين المحيط والخليج ، والراعي الإقليمي والدولي لها أن تبدع ، ويبدع أساليب جديدة أيضاً لاختراق تلك الرياح الربيعية العربية في محاولة لتحويل اتجاهها ، ومن ثم احتوائها باستبدال أنظمة طيعة ، ببدائل طائعة .

( 2 )

 لم يكن الشباب في سورية بانتظار رياح الربيع العربي كي تدق أبواب دمشق بل كانت أرواحهم تخفق في ساحات الحرية التونسية ، وترف في أجواء ميدان التحرير في القاهرة ، فالشباب في سورية كانوا يعتقدون أنهم ينافسون على إطلاق الربيع العربي من شامهم ، وأنهم كانوا على موعد مع الربيع العربي حتى قبل عقد من الزمان عندما أطلقوا "ربيع دمشق" في عام 2001 ، والذي تم إجهاضه بقمع السلطة من جهة ، وبتخاذل قوى المعارضة التقليدية من جهة أخرى ، لهذا ومنذ اليوم الأول لانطلاقة شباب تونس تنادى الشباب في دمشق للإحاطة بسفارة تونس يحملون الشموع ، ومن ثم إلى سفارات مصر واليمن وليبيا فتنتقل شعارات الربيع العربي تصدح بها حناجر الأطفال وتخطها خربشاتهم على الجدران ليتم تتويج ذلك بالدعوة على وسائل الاتصال الاجتماعي لانطلاقة مظاهرات الربيع العربي في دمشق يوم 15/3/2011 .

 لقد حبس الشعب في سورية أنفاسه صبيحة ذلك اليوم الثلاثاء : 15 آذار 2011 بين مصدق ومشكك : هل سيجرؤ هؤلاء الشباب على تنفيذ الوعد ؟ ، من ذا الذي يمتلك تلك الجرأة على مواجهة أجهزة زائعة الصيت لا شك في إمكانياتها وتنظيمها ، وانتشارها ، وفعالية مخبريها ، والسمعة الرهيبة لأقبية سجونها وزنازينها ، لكنهم فعلوها ، ليس بالإعداد التي وعدت أنها ستنزل ، فالخوف كان طاغياً ، لكن كانوا بضع عشرات تلاقوا في سوق الحميدية ظهيرة ذلك اليوم وهتفوا للحرية ، وما كادوا يكررون الهتاف حتى بدأت الشتائم والهراوات تنهال ، ليس عليهم فقط ، ولكن حتى على اللذين تجرأوا على التوقف للفرجة ، ومشاهدة ما يجري ، ثم تم القبض على من لا تسعفه المقدرة على الهرب ... بينما كان أطفال درعا يخربشون على جدران مدارسهم شعارات الربيع العربي فنالهم ما نالهم ، ثم توالت الأحداث ، وتدحرجت كرة الثلج ، فمن هم هؤلاء الشباب الذين تحدوا المستحيل ؟ .

( 3 )

 إنهم صبايا وشباب تحت سن الثلاثين من العمر ، طلبة جامعات ، أو خريجين حديثاً ، جميعهم كانوا أعضاء في منظمة طلائع البعث كأطفال يهتفون داخلين إلى مدارسهم ، وكذلك عند مغادرتها : "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد" ، جميعهم ، أو أغلبهم ترقى إلى شبيبة الثورة ، وربما سجل بعضهم في سجلات حزب البعث العربي الاشتراكي ، مقطوعي الصلة غالباً بالأحزاب والشخصيات السياسية ، كل ما هو مسجل في الذاكرة لديهم أن جيل الآباء جيل مهزوم خائف كثير الشكوى عديم الفاعلية ، كانوا قد استبشروا خيراً بالحوارات التي رافقت ربيع دمشق مع بداية القرن لكن سرعان ما عادوا إلى مقاهي الإحباط ، فلا السلطة تريد أن تتغير ، ولا المعارضة التقليدية قادرة على التغيير ، فاتجه الشباب يصرفون طاقاتهم الشابة بالأراكيل والحماس لهذا الفريق الرياضي ، أو ذاك ، وبما أن الفساد لم يوفر حتى الرياضة ، وبالتالي فهم لا يجدون نادياً سورياً أو عربياً ينحازون إليه ، لذلك فهم يتحزبون لبرشلونة أوريال مدريد أو ميونخ أو ... وكذلك في التنس وسباق السيارات وباقي الألعاب ، وكذلك في الفنون والاختراعات ...

 لكن هذا الجيل الشاب كان في الوقت ذاته جيلاً بصيراً متبصراً يقارن ويحاكم ، ويتقن ألعاب الكومبيوتر ، ويدخل عالم التواصل الاجتماعي ، وبدأت المقارنات تفرض نفسها بإثارة أسئلة لا نهاية لها : لماذا يتقدمون ونتخلف ؟ ، لماذا يتنافسون على طريق حماية مصالحهم ، ونتنافس في التبعية لهم لحماية مصالحهم شرقاً وغرباً ، لماذا ، ولماذا ؟ إلى أن بدأت رياح الربيع العربي تهب من تونس فبات الاهتمام شديداً بما يجري في ساحات الحرية بتونس ، ومن ثم ميدان التحرير في القاهرة ، وساحة الحرية في صنعاء ، وبوادر مظاهرات بنغازي ، وبدأ السؤال بين الشباب يطرح نفسه : لماذا ليس نحن ؟ ، وجاء الجواب سريعاً : نحن أولى بريادة هذا الربيع العربي ، وبدأت ظاهرة التشبيك بين مجموعات من الصبايا والشباب تفرض نفسها ، وتدرجت الشجاعة في الترقي من الوقوف الصامت مع الشموع حول سفارة تونس إلى حمل لافتات تحمل عبارة حرية أمام السفارة المصرية إلى الدعوة المباشرة للتظاهر يوم الثلاثاء : 15/3/2011 . فهل يعقل أن يُنسب إلى هذا الجيل الرائع من الشباب العربي أنه يتصرف بعمالة لأمريكا والصهيونية والرجعية العربية ؟، ثم أليس من اللاعقلانية إتهام هذا الجيل المثقف الواعي أنه تصرف بغباء ، وأنه مغرر به ؟ .

( 4 )

 باختصار شديد نقول أن هذا الجيل من الشباب العربي المثقف الثائر كان يمكن أن يملأ الفراغ الذي شكله غياب القوى السياسية التقليدية ، وأن يحافظ على النهج السلمي المدني للثورة ، وأن لا ينجّر إلى ردود الأفعال ، فلا يواجه الطائفية بالطائفية ، وإنما بالهتاف : "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد" ، وأن لا يواجه العنف بالعنف ، وإنما بالورود والصدور المفتوحة ، والهتاف "سلمية سلمية سلمية" ، وأن لا يواجه الاستقواء بخارج بالاستقواء بخارج آخر ، وإنما بالهتاف : "الشعب السوري ما بينذل" ، وأن يتلمّس طريقه بالتفاعل مع الشخصيات الوطنية التي لم تغادر البلاد في إعادة السياسة إلى المجتمع لحماية النسيج الوطني المهدد تهديداً شديداً بالدعوات الطائفية والعنصرية والمذهبية والمناطقية ، لكن قرار السلطة كان حاسماً بتشتيت شمل هذا الجيل الشاب مهما كان الثمن ، وبجميع الوسائل من أول العنف المفرط الذي يصل إلى حد القتل إلى الاعتقال والتعذيب المفرط اللامحدود إضافة إلى إغلاق الساحات والميادين العامة بحيث يستحيل ظهور ميادين للحرية ، فعندما سيطر الشباب على الساحة الرئيسية في حمص تم قمعهم بشدة ، فسالت الدماء وتفرق شملهم ، وعندما سيطر الشباب على ساحة العاصي في حماه وتساهل المحافظ قليلاً تمت إقالته على الفور وسالت الدماء، هكذا لجأ الشباب لما أسموه المظاهرات الطيارة التي تتم عبر الاتفاق بين مجموعة صغيرة من الشباب يظهرون فجأة في مكان ، ما ، يهتفون للحرية ، وما أن تقترب أجهزة الأمن حتى يتفرقون فيتم اعتقال من تلحق به الأجهزة الأمنية ، ثم لجأ الشباب إلى إطلاق البوالين الملونة ليلاحقها الرصاص ، ثم ، وفي مرحلة ثالثة انتقلت المظاهرات إلى الأحياء المهمشة في المدن ، ثم إلى الأرياف ، لقد كان الهدف الواضح هو القضاء على الطابع السلمي الوطني المدني ، وبالفعل تم تصفية الجيل الأول من الشباب المثقف قتلاً أو اعتقالاً ، أو تهجيراً ، وكذلك ملاحقة الجيل الثاني والثالث ، ومن ثم انتقال المواجهة إلى الأحياء والأرياف المهمشة ، حيث بدأت ردود الأفعال على العنف المفرط .

( 5 )

 لقد تم ملاحقة الشباب المثقف حتى في الأرياف مما فرغ الساحة من الخطاب السياسي الوطني ، أو تم تهميشه ، فلا صوت يعلوا على صوت الرصاص حيث تغيّر المشهد ، ولم يعد الرمز من يحمل الورود ويهتف للحرية ، وإنما من الأقدر على إطلاق الرصاص والصمود ، يضاف إلى ذلك أن القوى المعارضة التقليدية التي هجرت الساحة وغادرت للخارج بحجة تشكيل جسم سياسي يعبّر عن الثورة لم تكتف بالفشل ، فكانت متعارضة أكثر منها معارضة ، وإنما بدأ التنافس على الشباب بابتزازهم للهجرة من البلاد ، ليحاول كل فريق الادعاء أن له مريدين في الداخل ، فحرمت الساحة من طاقات شابة مثقفة كان المجتمع ، ومازال بأشد الحاجة إليها ، فكيف انعكس ذلك على المشهد ، ولمن آلت الراية ؟ .

 لكن ، ومن رحم هذه الأحداث الجسام يولد الآن جيل عربي جديد عجنته التجارب المرة سيعرف كيف يقلع شوكه بيديه ، ويمضي بالراية إلى غايتها المنشودة ...