عنصرية إسرائيلية تُمزق العائلات الفلسطينية

د.مصطفى يوسف اللداوي

عنصرية إسرائيلية تُمزق العائلات الفلسطينية

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

يأبى الكيان الصهيوني إلا أن يُحافظ على عنصريته المقيتة، وألا يُغادر مربعاته القذرة التي نشأ عليها، وأن يمضي في تنفيذ سياساته التي تهدف إلى إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها، والحيلولة دون زيادة عددهم، أو توسيع مناطقهم، وقد تبيّن له حكماً أن سكانها اليوم لن يُغادروها، ولن يهجروها، مهما بلغت ممارساته القمعية، وإجراءاته العنيفة ضدهم؛ فقد أدرك الفلسطينيون بعد نكبة اللجوء ومحنة النزوح أنهم صبغة البلاد، وأنهم من يُحافظ على هويتها، ويُبقي على عروبتها، ويغرس شخصيتها الإسلامية، التي تتحدى الإرادة الصهيونية، وتواجه المخططات الإسرائيلية، وتقف بصلابةٍ أمام التحديات، وتُفشل بقوة كل المخططات، فالإنسان الذي هو يُعمر الأرض، ويقف شامخاً أمام إرادات التغيير، ومساعي التبديل والإحلال.

الإسرائيليون يقفون عاجزين أمام إرادة الفلسطيني المقيم في أرضه، والساكن في بيته، والمتمسك بحقه، فلا يقوى على طرده، ولا يستطيع خلعه، ولا يتمكن من إقناعه بالهجرة أو السفر، أو الرحيل والغياب، رغم سياسة العصا الغليظة التي يستخدمها، قتلاً واعتقالاً وطرداً وهدماً وحرماناً ومصادرة، بُغية التضييق على الفلسطيني المقيم، وإقناعه بأن "الرخاء" في الهجرة، والنعيم في السفر، والسعادة في الهروب، والمستقبل خارج حدود فلسطين، والفضاء المفتوح لا تُحققه السجون والمعتقلات، ولا المخيمات والتجمعات، بل الهجرة والسفر، ويُسـاعدهم في سـياسـتهم الخبيثـة هذه الإغراءاتُ والتسـهيلاتُ التي تُقدمها بعض الدول الأوروبيـة وكندا واسـتراليا، لمسـاعدة الكيان الصهيوني في التخلص من بعض الفلسـطينيين الذين يملأون الأرض، ويعمرون الوطن.

لكن الفلسطيني يُدرك هذه السياسة، ويعرف الأهداف الإسرائيلية والغربية منها، فلا يجد إلا أن يتمسك بالأرض، ويعيش فوق تراب الوطن، فيه ينشأ، وعلى أرضه يترعرع، وفي مدارسه يتعلم، وفي جامعاته يدرس، ولكنه يقف عاجزاً أمام السياسات الإسرائيلية التي لا يقوى على مواجهتها، ولا يستطيع تحديها أو كسرها، فهي خارجة عن إرادته، وأكبر من قدرته، إذ ماذا يفعل لمواجهة القرارات العسكرية التي تحول دون عودة الفلسطينيين الذين فقدوا حق العودة بموجب القوانين الإسرائيلية، فأصبحوا بحكم النازحين، شأنهم شأن مئات الآلاف من اللاجئين، لا يستطيعون العودة إلى فلسطين أو زيارتها، وإن كانت أُسرهم تعيش في الضفة الغربية، وبعض أولادهم يسكنون في الوطن، إلا أن القوانين الإسرائيلية تعتبرهم لاجئين، وهي لا تُفرق بين نازحٍ ولاجئ، فكلاهما في عُرفها لا حق له بالعودة، ولا تسمح قوانينهم له بالإقامة والعيش مع أُسرهم وذويهم.

يُعاني الفلسطينيون كثيراً في الوطن من القوانين الإسرائيلية التي تحول دون اجتماع العائلات، ولمِّ شمل الأُسر المبعثرة والممزقة، فهي لا تسمح للأب بأن يجتمع مع أولاده، ولا بالأم أن تلتقي بأهلها، ولا بالولد الذي سافر للدراسة بالعودة إلى أسرته، علماً أن أعداد الأُسر الممزقة والمشتتة كبيرة، وهي معاناةٌ قديمة، كانت قبل (أوسلو) ومازالت، رغم الوعود بحلها، والضمانات بالتخفيف منها، إلا أن الواقع يزداد صعوبة، والمعاناة تكبر وتتعاظم، والآذان الإسرائيلية صماء لا تسمع، أو لا تريد أن تسمع، فهذا الواقع يخدمهم، وهذا الحال ينفعهم، بل هو غاية ما يتمنون، إذ يُدركون أن الحل الذي يملكه الفلسطينيون لمواجهة هذه المشكلة، هو فقط السفر واللحاق بالأسرة في الخارج، بدل انتظار الرحمة الإسرائيلية التي لا تتنزل..!!

يُدرك الإسـرائيليون أن الفلسـطيني ضعيفٌ في مواجهـة هذه المشـكلـة، فهو لا يسـتطيع أن يُجبر حكومات الكيان الصهيوني، ولا يسـتطيع أن يدخل فلسـطين تسـللاً وخفيـة، والعيـش فيها مخالفاً للقوانين الإسـرائيليـة، لأنـه في النهايـة سـيُسـجن وسـيُرحل، وسـيُمنع من العودة والزيارة مرة أخرى.

كما أن الفلسطيني لا يستطيع اللجوء إلى المؤسسات والمحاكم الدولية، ولا إلى الهئيات والحكومات العربية، إذ لا يوجد من يُجبر الحكومات الإسرائيلية على السماح للفلسطينيين بالعودة، ولا تقوى الدول العربية على إكراه (إسرائيل) على القبول والإذعان، فيبقى الفلسطيني وحده في أتون المعاناة، يتخبط يُمنةً ويُسرةً ولكنه لا يجد من يلتفت له، أو يصغي إليه، أو يرأف لحاله ويحزن على وضعه، حتى الاتفاقيات السياسية التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الكيان الصهيوني، لا تضمن عودة المشتتين، ولا جمع شمل المغتربين، بل تقف عاجزة أمام مئات الآلاف من الحالات الإنسانية المحزنة والمبكية، وتكتفي من الأزمة بوعودٍ جديدة، ببذل المزيد من الجهود لإقناع الإسرائيليين بالموافقة على طلبات جمع "لم شمل" بضع عشرات من العائلات كل سنة.

وتقوم الحكومة الإسرائيلية من وقتٍ لآخر بتعزيز سياساتها العنصرية وتثبيتها عبر مجموعة من القرارات العسكرية الجائرة والتشريعات البرلمانية غير الإنسانية، لتُضفي على سلوكها صفة "القانون"، وتمنحها الثبات والاستمرار، وتجعل من إمكانية التراجع عنها أمراً صعباً، فلا تملكه حكومة، ولا تُقرره هيئة بمفردها، ما يجعل من هامش الحكومات في التصرف فيه محدوداً للغاية.

ولا تتوقف قوانين منع شمل العائلات الفلسطينية على الفلسطينيين القاطنين خارج فلسطين، بل لا تسمح الحكومات الإسرائيلية للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة بالإلتحاق بأسرهم في الأرض المحتلة عام 1948، ولا بأهلهم في مدينة القدس، ومن القوانين الإسرائيلية المشهورة بهذا الشأن " قانون المواطنة والدخول إلى (إسرائيل)"، والذي يُمنع بموجبه أحد الزوجين من الإلتحاق بالآخر، وفي حال السماح لأحدهما بالإلتحاق فلا يكون لمدةٍ تزيد عن العام، على ألا تكون قابلة للتجديد، إذ يرى الإسـرائيليون أن حق جمع الشـمل الذي يُطالب بـه الفلسـطينيون إنما هو تحقيق العودة الفلسـطينيـة ولكن من الباب الخلفي، وهو ما يُشـكل خطورة كبيرة على مسـتقبل الكيان الصهيوني.

وهو ما تمتنع عنه الحكومات الإسرائيلية رغم أن القوانين الدستورية الإسرائيلية المتعلقة بالحياة العائلية تشمل الحق في لمِّ الشمل، لكن المتضرر بالمنع هو المواطن العربي لا اليهودي، وفي هذا يقول رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية القاضي (آشر غرونيس) "إن حقوق الإنسـان يجب ألاّ تعني الانتحار القومي؛ إذ أن إلغاء تعديل "قانون المواطنـة والدخول إلى (إسـرائيل)" من شـأنـه أن يتسـبب بتدفق آلاف الفلسـطينيين إلى الدولـة".

عودةُ الفلسـطينيين إلى وطنهم وإن طال الزمان سـتكون، وإقامتهم في بلادهم وإن تأخر الوقت سـتتحقق، والقوانين والعقبات التي تعترض عودتهم يقيناً سـتزول، ولا شـيئ يمكن أن يُبطل القوانين الإسـرائيلية إلا إبطال (إسـرائيل) نفسـها، وشـطبها من الوجود، وإنهاء سـلطتها والقضاء على هيمنتها، لتسـقط هي وقراراتها، وتنتهي هي وسـياسـاتها، وتزول هي وعنصريتها، ولا يبقى في أرضنا إلا أهلها وأصحابها، ولن تنفعها قوانينها، ولن تحفظها سـياسـاتها، ولن تضمن بقاؤها قراراتها ولا أحكامها.