أدبنا الّذي كان الأعزَّ مكانةً

ولغتنا التي كانت الأعظمَ تأثيراً

معين رفيق

مشرف مبحث اللغة العربيّة- تربية جنين

إنّ حالة الإقصاء التي تُعانيها اللغة الفصيحة الرّاقية- وما أنتجته من شعر جميل وتعبير بديع- تدفع المرء إلى تأمّل هذه المفارقة الحزينة بين واقعيين عايشتهما هذه اللغة، كانت في أحدهما عزيزة الجانب، صاحبة الجلالة، يسعى إلى إتقانها كلُّ مَن كان نحو المجد والاحترام يسعى، بينما هي في الواقع الآخر المعاصر، لا تعدو أن تكون شيئاً هامشيّاً، لا تكاد تجدُ له طالباً.

وحريٌّ بنا- ولو من باب التعويض بالرّجوع إلى الماضي- أنْ نُطلَّ على تلك القمم السامقةِ التي كانت تتبوّؤها لغتنا قديما، وأَن نُدرك حجم التقدير والتبجيل الذي كان يحظى به الأدب الأصيل، والشعر الجميل لدى العرب والمسلمين في العصور الأوائل، فمن ذلك أنّهم كانوا:-

يُفضّلون الشعر على المال

فيكفي أنّ ما يقوله الشاعر يفوق قيمة ما يتلقّاه من مال، وذلك لأنّ قوله وشعره يظلّان مُتداولين بين النّاس، لا يكادُان يُنسيان، بينما المال يُنسى، فقد " قال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان قيسُ بنُ معد يكرب أَعطى الأَعشى؟ فقال: أعطاه مالاً، وَظَهراً، ورقيقاً، وأشياء أُنسيتُها، فقال معاويةُ: لكنْ ما أَعطاكم الأَعشى لا يُنْسى".

وإن كان ما يُعطاه الشاعر من مال ومتاع يبليان، فإنّ عطاءه للآخرين يبقى نشيداً يُردّده كلُّ مَن وصله على مرّ السنين، وقد امتدح نصيبٌ عبدَ الله بنَ جعفر، فَأَمَرَ له بِخَيلٍ وإبلٍ وأثاثٍ ودنانيرَ ودراهم، فقال له رجلٌ: أَمِثْلُ هذا الأسودُ يُعطى مثلَ هذا المال؟ فقال له عبدُ الله بن جعفر: إنْ كانَ أسودَ، فإنَّ شِعْرَه لَأَبيض، وإنَّ ثناءه لَعَربيٌّ، ولقد استحقَّ بِما قالَ أَكثرَ مِمَّا نال، وهل أَعطيناهُ إلاّ ثِياباً تَبلى، ومالاً يَفنى، وَمَطايا تَنْضى، وَأَعطانا مَدحاً يُرْوى، وَثَناءً يَبقى؟

يجتهدون في تحصيل أسباب الفصاحة والبيان

ولم يكن بالإمكان الوصول إلى المناصب العليا والرفيعة في الدولة من دون إتقان اللغة الفصيحة، بل لقد كان يصعب التأثير في النّاس من دون فصاحةِ لسان، ووضوحِ بيان، وربّما هذا ما يُفسّر ما وصلنا من أخبار تشبه الأساطير، في اجتهاد علمائنا، وسعيهم لتحصيل أسباب التعبير الفصيح، والكلام المبين،  وتُروى في ذلك الأعاجيبُ عن بعضِهم كواصل بن عطاء- الّذي كان يلثغ بالرّاء كما يُخبرنا الجاحظ- فهو لمَّا عَلِمَ- " أنّه ألثغُ فاحش اللّثغ،  وأَنَّ مَخرجَ ذلك منه شنيعٌ، وأنّه إذْ كانَ داعيةَ مقالة.. وأَنّه يُريدُ الاحتجاجَ على أَربابِ النِّحَل، وزُعماءِ المِلَل.. وأنَّ البيان يحتاج.. إلى ترتيبٍ ورياضةٍ.. وإلى سُهولةِ المَخرج وجَهارةِ المَنطق.. وأَنّ ذلك من أكثر ما تُستمال به القلوبُ.. رامَ واصل إسقاط الرّاء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه".

فقد كان واصل يستبدل بالكلمات التي فيها راءٌ غيرَها ارتجالاً وبداهةً؛ حتّى لا تظهر لثغته، "وممّا يُحكى عنه قولُه- وذكر بشاراً-: أمَا لِهذا الأَعمى المُكتني بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله، لولا أَنَّ الغِيلة خُلُقٌ مِن أَخلاق الغالية لبعثتُ إِليهِ مَن يَبْعَجُ بَطنَه على مَضْجَعِه، ثُمَّ لا يَكونُ إلاّ سدوسياً أو عقيلياً. فقال: "هذا الأَعمى" ولم يقل بشاراً، ولا ابنَ بُرد، ولا الضَّرير. وقال: "مِن أَخلاقِ الغالية" ولم يَقل المُغيرية ولا المَنصورية. وقال: "لبعثتُ إليه"، ولم يقل: لأرسلتُ إليه. وقال: "على مضجعه"، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: "يبعج"، ولم يقل: يَبقُر."

يبحثون عن سلواهم وعزائهم في الشعر

وكانَ الشّعر الحكيمُ دواءً لِعللهم، وطمأنينة لقلوبهم، بل هو مِنْ أَعظَم أَسباب العلاج من الكآبة والأحزان، فيواجه الواحدُ منهم هَمَّه بإنشاد ما يُؤنِسه، ويُؤمِّلُه بِالفَرَج، "قال الرّياشي: ما اعتراني هَمٌّ، فَأَنشدتُ قولَ أَبي العتاهية حيث قال:

هـيَ  الأَيّــامُ   والغِـيَرُ         وَأَمْرُ  اللهِ    يُنْتَظَرُ

أَتَيأَسُ أَنْ تَرى فَرَجاً؟         فَأَيـنَ  اللهُ   وَالقـَدَرُ؟

إلاّ سُرِّيَ عَنّي، وَهَبَّت ريحُ الفَرَج".

وهذا الحجّاج ظلّ يستمع إلى أبياتٍ من الشعر حتى وَجَدَ ما يواسيه، ويذهب لوعةَ أحزانه، فقد كان "رأى في منامه أنَّ عينيه قُلعتا.. فلم يَلبثْ أنْ جاءَه نَعيّ أَخيه مِنَ اليمن، في اليومِ الّذي مات فيه ابنه محمدٌ، فقال: هذا واللهِ تَأويلُ رُؤياي، ثمّ قال: إنّا لِلهِ وإنّا إليه راجعون، مُحمّدٌ ومحمّدٌ في يومٍ واحدٍ!.. وقال: مَن يقولُ شِعراً يُسليني به؟ فقال الفرزدق:

إنَّ  الرَّزيَّةَ  لا  رزيَّةَ  مثلُــــــــــها          فقدانُ   مِثلِ   مُحمَّدٍ   وَمُحمَّدِ..

فقال له: ما صنعتَ شيئاً، إنّما زِدتَ في حُزني، فقال الفرزدقُ:

لئن جزع  الحجّاجُ  ما  مِـن  مُـصـيبةٍ        تكون لمـحـزونٍ أجـلَّ   وَأَوجـعـا

مِنَ المُصطفى والمصطفى من خيارهم       جناحـيه  لـمّـا  فـارقـاه   فـودّعـا

جناحا   عُقاب     فارقاهُ     كلاهـمـا           ولو نُزِعا مِن غَيرِه  لتضعضعا

فقالَ: الآن."

يأسرهم التعبير الجميل

وقد كان التعبير الجميل يأسر حتّى العلماء منهم، ويأخذ بمجامع قلوبهم، فقلوبهم عاشقة لكل حلو عذب من الكلام، فهذا ابنُ المبارَك العَلَم الزاهدُ، "سمع سكرانَ يُغنّي هذا البيتَ:

أَذَلَّنيَ  الهَوى  فَأَنا  الذّليلُ          وَليسَ إِلى الّذي أَهوى سَبيلُ

قال: فَأَخرَجَ دواةً وقِرطاساً، وكتبَ البيتَ، فقيلَ له: أَتكتبُ بيتَ شِعرٍ سمعتَه مِنْ رَجُلٍ سكران؟ فقال: أَمَا سَمِعتم المَثَلَ: "رُبَّ جَوهرةٍ في مِزبلةٍ".

 وما سبق غيضٌ من فيض، من الشواهد التي تدلّ على رفعة أدبنا الذي كان الأعزّ مكانةً، وعلى القمم الشمّاء التي احتلّتها لغتنا، بينما هي اليوم- وبتقصيرٍ من أبنائها- في السّفوح وفي والوهاد:

أصبحَ  السفحُ   ملعباً للنّسورِ    فاغضبي  يا ذرى الجبالِ  وثوري!