ذكريات توارت خجلي

خلف ظل ذاك المساء الجميل !!!

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

لكلٍ مِنا تاريخُ وإرثُ مِن ذِكريات تلوحُ له بين الفينةَ والُأخرى ساكبةً بعضاً مِن عبقٍ قديم على صفحة الحاضر، هي جزءُ لا يتجزأ من شخصية الإنسان لما لها من دور في تشكيل حاضره ورسم خارطته بوضوح، فالبعضُ مِنا يحملُ رفاتٍ مِن ذكرياتٍ ثقيلة، أحزانُ وآلام ونكبات يتمنى لو يدفنها ويحرقها بنيران النسيان إلى الأبد، ولكنها ما تفتأ تعود لتمد ألسنتها وتلوّح بما مضى من سالفِ أوان، والبعضُ الآخر يحملُ ذكريات مُفتخراً بها ويظلُ حبيساً لسطوتها رهيناً لها لدرجة أنه يكتفى بما قدمه ولا ينجز في حاضره شيئاً.

تمُرُ علينا الكثيرُ من الأحداث والتجارب نتمنى لو تُمحي من تاريخ ذكرياتنا، ونبذل أقصى الجهود لنخرج منها بأقل الخسائر والتأثيرات فيأتي أحد ما لينبش قبرها ويُخرج جثتها المُتحللة لتُزكم أُنوفنا وتُعيد لنا حسراتٍ ولسعات، فنعود في لحظات إلى تِلك الحِقبة وننسف كل مجهوداتنا السابقة لتغطية أثار الماضي السيئ.

حاضر الإنسان يُبنى على ماضيه ولكن هذا لا يعني أبداً أن يظل الإنسان حبيساً لأخطاء إقترفها في الماضى لأن الله يقبل التوبة ويُبدّل السيئات بالحسنات إذا صدقت توبة المرء و إستوفت شروطها، ولكن للبشر حُكمُ آخر إذ أن لهم ميزاناً دقيقاً وحساباً عسيراً يضعون فيه بعضهم البعض دون شفقةً ولا رحمة ناسين أو مُتناسين أن الله الذى خلقهم يقبل التوبة ويمحو الخطايا.

التخلص مِن ماضٍ سيئ ليس بالأمر السهل خاصةً أن جميع الظروف تتكالب طواعيةً لتُخرجها من جُبها لترى النور مرةً أُخرى وكأن الإنسان كومةً من تاريخ لا يصلح أن يُقرأ ألا مِن خلال سطوره ولا تقوم له قائمة إلا إستناداً على أحداث وتجارب حياته السابقة، بل وأحياناً كثيرة يتم الحكم على الشخصيات بماضي آبائهم وقبائلهم وربما أوطانهم، فنضع الإنسان فى موضع مندوبٍ لماضٍ لا ذنب له فيه ولا فضل له عليه.

كم من مغتربة حملت طموحها سعيًا لتطوير ذاتها وشغل وقتها الخاص بما ينفع ...

يقال إن الغربة وجهان لعملة واحدة، الجانب الإيجابي فيها يصب في الإبداع الذي تحمله دواخل المغترب وعندها تصبح الغربة هي المعول الذي يجعله يغرف من مكنونات إبداعه ليزين بها حياته ومن حوله، والوجه الآخر سلبي يمكن أن نطلق عليه صقيع الغربة لما يحمله من غربة ووحدة ووحشة ببعد المغترب عن وطنه وأهله، رغمًا عن دفء الجو وشمس الهجير..

فكم من مغتربة حملت طموحها سعيًا لتطوير ذاتها وشغل وقتها الخاص بما ينفع من خلال جمع بعض من هذه الطموحات لتحصل عليها في غربتها.. ولكنها لا تلبث أن تتلاشى عندما تصطدم بالكثير من العوائق التي حالت دون تحقيقها، والتي منها انشغال الزوج وتضاعف المسؤوليات والأبناء وهي أمور تواجه أي مغتربة، مما يفقدها الكثير من الفرص فيموت الإبداع بصورة بطيئة، وهناك من لا تستسلم للظروف التي تواجهها حتى لا ينهكها الفراغ والملل..

ومن جانب مختلف نجد أن الغربة سكنت العديد من أبناء وطني سواء كانت الزمانية أو المكانية، إلا أن الغربة الروحية التي هي محور حديثي هنا؛ وهي عبارة عن شعور داخلي عميق يدفع المغترب عمومًا إلى تلمّس حالته الداخلية وإدراك غربته داخله لذلك فهو يعيش فيه كأنه غريب، وينتظر اليوم الذي تعود فيه الروح إلى وطنها فيصقل تجربته بالابتكار والتطور رفعًا لشأن نفسه..

ونجد أن الكثير من المبدعين بالخارج أصبح يشار لهم بالبنان في كل المجالات التعليمية والصحية والعلمية الصرفة فأصبحوا وجهًا مشرفًا للسودان، وأعتقد أن فطرة الإبداع لديهم لم تأتِ صدفة أو على حين غرة بل هي متأصلة فيهم ولكنها بحاجة إلى مكان يحتويها ومقومات تخرجها وترفع من شأنها، وهذا يدعوني دومًا للتساؤل: لماذا لا نستفيد من مبدعينا بالخارج كما تفعل كل الدول المتطورة والمتقدمة والتي تصبو دومًا إلى العلو بشأنها بسواعد وإبداع أبنائها من خلال توفير كل المعينات التي تساهم في ذلك دفعًا لعجلة تطورها وتقدمها..

علمت أن شريحة المغتربين لها لجنة كُونت خصيصًا من أجل تكريم المبدعين المغتربين في كل الضروب المعروفة دون فرز، ولعمري أنها خطوة تستحق أن يرفع لهم فيها صوت إشادة، فلاً يعقل أن يتلظوا بمرارة الغربة ويظلمون بدفن إبداعهم وعدم الاهتمام به، فمتى تنتبه الدولة لإبداع أبنائها بالخارج بتقييمهم كما يستحقون والذين أجبرتهم الظروف والحياة على ترك الوطن مجبرين ومكرهين دون طواعية منهم ورغمًا عن ذلك يسهمون وبشكل واضح في دفع عجلة التنمية فيه دون كلل أو ملل تسوقهم المواقف الوطنية التي تربوا ونشأوا عليها وارتووا من معينها وحملوها زادًا يقيهم هجير الهجرة والاغتراب!!.

لكل منا ماضى فيه كثير من الذكريات الحلوة والجميلة وكذلك  ذكريات تمنيت أن تغيب عن ذاكرة الايام ولكن كلها ذكريات توارت خجلي خلف ظل ذاك المساء الجميل !!!