إشراقة

د . فوّاز القاسم / سوريا

( أفكار في الاستراتيجية والتكتيك ) من ينقل أفكاري إلى قيادة الأركان في الجيش السوري الحرّ  وله الجنّة .!؟

بالرغم من أنني طبيب أطفال ، ولا علاقة لي بالعسكرية ، إلا أنني في أيام الشباب كنت مغرماً بالعسكرية الإسلامية ، ولقد درستُ ودرّستُ كتابات القائد المبدع أحمد عادل كمال ( استراتيجية الفتوحات الإسلامية ) ، وأنصح اليوم مجاهدي الأمة بدراستها وتدريسها ، وأخصّ مجاهدي الشام الأبطال ...

ولعلّ من أهم ما لفت نظري في حروب العرب والمسلمين ( وأنا أنشرها على صفحتي في حلقات تحت عنوان : دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة ) :

1. كانت جيوش العرب والمسلمين تتمتع بدرجة عالية من السرعة والرشاقة والمرونة وخفة الحركة ، وكان قادة العرب المسلمين ، وعلى رأسهم خالد بن الوليد رضوان الله عليه : أسطورة في المبادأة ، والمفاجأة ، وخصوبة الذهن العسكري ، والقدرة على تقدير الموقف الصحيح في أشدّ المواقف العسكرية حراجة ، والقدرة المذهلة على التقاط لحظة الخلل في صفوف عدوّه ليبادر لاستثمارها بعمل صاعق يقلب ميزان المعركة رأساً على عقب  ... !!!

* ففي ملحمة أحد  ( وكان خالد لا يزال مشركاً ) سحق المسلمون جموع المشركين في الصفحة الأولى للمعركة ، فولى المشركون هاربين لا يلوون على شيء ، ولكن عيون خالد كانت ترقب الموقف لتجد الثغرة ...!!!

ولقد وجدها فعلاً ، نزول حماة ظهر المسلمين من ظهر جبل أُحد ، ليساهموا في جمع الغنائم مع المسلمين المنتصرين ، ظنّاً منهم بأن المعركة قد انتهت ...!!!

وينتهزها خالد فرصة مواتية طالما وقف يبحث عنها ، ويلتف بفرسانه من خلف ظهر المسلمين الذي بقي بدون حماية ، وكانت الفاجعة ، التي قلبت الأمور رأساً على عقب ، وحوّلت هزيمة المشركين إلى نصر ، وحولت فرحة المسلمين إلى عزاء ...!!!

* ثم تكرر الموقف في اليرموك ( هل منكم أحد درس ملحمة اليرموك .!!!؟ )

بضعة وثلاثون ألفاً من المسلمين ، يواجهون مائتي ألف ، وفي رواية أربعمائة ألف من الروم ...!!! فهل تعلمون ماذا فعل خالد .!؟

أولاً : كان أمير جيوش الشام أبو عبيدة بن الجراح ، بعد أن عزل عمر بن الخطاب خالداً رضوان الله عليهم جميعاً ، فأمّر خالدٌ نفسه في أروع قصّة في التاريخ العسكري ، وليس هنا مجال التوسع فيها ، ومن أراد أو أرادت السلسلة كاملة ومفصّلة فليرسل لي إيميله أو إيميلها ، أو فليقرأها في صفحتي الخاصّة ).

ثانياً : نظر خالد إلى جموع الروم الهائلة فلم ترعه كثرتهم ، التي تفوق عدد المسلمين بعشرة أضعاف ، وقال قولته الخالدة : ( إنما يكثر الجيش بالنصر لا بالعدد ، ويقلّ بالهزيمة  ).!!!

ثالثاً : عبأ خالد جيشه ، فجعل صفوف المشاة في ملاقاة فرسان الروم ، وقسم فرسانه إلى نصفين : هو يقود نصفها الأول ، وقيس بن هبيرة ، بطل العرب العملاق يقود نصفها الثاني ، وأخفى الفرسان خلف صفوف المشاة ، وتزاحف الفريقان ، فهجمت فرسان الروم ، فتصدى لها مشاة المسلمين ، وضغط الروم ، وثبت المسلمون ، وضغطوا ، وثبتوا ، حتى أُنهكت فرسان الروم ...

وخالد هناك ، في قلب الحدث ، يرقب الموقف بعيون الصقر ، وعقل القائد المبدع .

فلما رأى تضعضع فرسان الروم ، أطلق العنان لفرسه ، وصاح في فرسان المسلمين ( لقد فلّ حدّهم ، فشدّوا عليهم يا عباد الله ) فشدّ الأبطال حتى ألقوا بهم في الياقوصة  ( وهو وادي عميق في منطقة المعركة ) ...!!!

يقول الرواة  عن الروم في تلك اللحظة ( فكأنما هُدم بهم حائط ) !!!

 أتدرون كم عدد قتلى الروم في تلك الملحمة أيها الأخوات والإخوة ...!؟

ثلاثون ألف قتيل في أرض المعركة !!!

وثمانون ألف قتيل ألقوا بهم في ( الياقوصة ) وهم مربوطون بالسلاسل ...!!!

ألا يستحق هذا التاريخ أن يُدرّس في أرقى المعاهد والجامعات العسكرية في العالم .!؟

فما بال قومي زاهدون به ، وهم في أشد حاجتهم إليه ..!!!؟

* ولكي ندلل على مرونة خالد وسرعته ورشاقته نذكّر بأنه دخل العراق فاتحاً _ بعد أن سحق الردّة في جزيرة العرب_  في أوائل محرّم / 12 هجري ، ولقد خاض مع الفرس أكثر من خمس عشرة معركة في أقل من عام واحد ، فكنّا نلهث خلفه وهو يلاحق فلول الفرس وتجمعاتهم ، فلا يكادون يجمعون له جمعاً حتى ينقضّ عليه كالصقر الجارح  ويسحقه قبل أن يكمل تجمّعه ، في خفة حركة رائعة ، ومرونة مذهلة ، ومفاجأة صاعقة ...

2. كما أنهم كانوا لا يتمسّكون بالأرض ، ولم تكن الأرض تعني لهم شيئاً ، لأن روح وجوهر عقيدتهم العسكرية كانت ترتكز على نظرية ( سحق جيوش العدو ، ثم تكون الأرض لمن غلب ) ، وهذه شكّلت فيما بعد روح وجوهر نظرية ( حرب العصابات ).

ولقد طبّقوا هذه النظرية في العراق والشام  بشكل مذهل ...

ففي العراق خاض خالد بن الوليد كما رأينا عشرات المعارك ، في خفة ، ومرونة ، ومبادأة ، ومفاجأة تدعو إلى الإعجاب ، حتى سيطر على غربي نهر الفرات بأكمله .

ثم تركه لأخيه ورفيق دربه المثنى بن حارثة الشيباني ، وتحرّك إلى الشام لنصرة أخيه أبي عبيدة بن الجراح ...

فلما علم الفرس بمغادرة خالد إلى الشام وكان من أشدّ القادة العرب عليهم ، أرادوا أن يستغلوها فرصة سانحة لسحق جيوش العرب التي خلّفها خالد في العراق ، فجمعوا جموعهم ، وولّوا على تلك الجموع أعظم قوّادهم ( رستم ) وزحفوا لملاقاة المثنى ...

ولكن عيون المثنى التي كانت ترقب كل صغيرة وكبيرة في ميدان المعركة بعيون الصقر ، رصدت هذا التغيّر الستراتيجي ، ونقلته إلى عملاق الإسلام ، وأمير المؤمنين ، والقائد الستراتيجي المبدع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ...

فجاء جوابه الذي ينم عن عقل عسكري ستراتيجي مبدع ،( أن اخرجوا من أعماق أرض العجم ، وتنحوا إلى حدود صحراء العرب ، وانتظروا أمري ) .

ثم أقسم الفاروق فقال : ( والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب )

ثم جهّز جيشاً لجباً جعل عليه واحداً من أعظم قادة العرب ، ومن أعزّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، بل خال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ومن العشرة المبشرين بالجنّة ( سعد بن أبي وقّاص ) رضي الله عنه ...

وكانت ( القادسية ) العظيمة التي سحقت الفرس ، ودقّت عظمهم ، وحطّمت ملكهم ، ومسحت امبراطوريتهم من الوجود ...

وهذا بالضبط ما حصل في الشام ، ففي الوقت الذي كانت جيوش العرب والمسلمين ، تمخر الشام من الجنوب إلى الشمال حتى كادت تصل حدود حلب ...!!!

جمع هرقل كل ما لديه من قوات ، وجعل عليهم أعظم قواده وأشرفهم ( ماهان ) وزحف من أنطاكية في أقصى نقطة في شمال الشام إلى الجنوب عبر الخط الساحلي الذي يمر بمدينة بعلبك ، بقصد الالتفاف على الجيوش الإسلامية المتوغلة في أعماق الشام ، وتطويقهم ، وقطع الطريق عليهم ...

ولكنه خالد ... الستراتيجي ، العملاق ، الذي لا تفوته صغيرة ولا كبيرة في أرض الميدان ، أدرك ببداهته العسكرية ، ما يرمي إليه الروم ، فاستجمع جيوش الشام كلها ، وتحرّك إلى الجنوب يسابق الريح ، حتى طلع على جيوش الروم في اليرموك.

وكانت ملحمة ( اليرموك ) الرائعة ، التي سحق فيها المسلمون الروم سحقاً ، بحيث لم تقم لهم بعدها في الشام قائمة ...!!!

والتي خرج على إثرها هرقل من أنطاكية وهو ينظر إلى الشام ويقول في حسرة وألم : ( وداعاً يا سورية ، وداعاً لا لقاء بعده )...!!!

3. وكان القادة العرب الفاتحون ، يحتفظون بقوة عسكرية ستراتيجية يحركونها بشكل سريع لتغطية أي خلل طارئ في جبهات القتال  المحتدمة ( وهي التي يسمونها اليوم قوات المغاوير أو قوات التدخّل السريع ) ...

* فلقد حرّك القائد الستراتيجي المبدع ( أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ) قائده الميداني المبدع ( خالد بن الوليد رضي الله عنه ) من جبهة العراق الهادئة نسبيّاً إلى جبهة الشام الملتهبة على رأس قوّة من الفرسان ( قوات التدخّل السريع ) فعبر صحراء السماوة من العراق إلى الشام في أعجب عبور للصحراء عرفه تاريخ الحروب ...!!!

* وحرّك القائد العام المبدع ( خالد بن الوليد ) زميله القائد المبدع ( القعقاع بن عمرو التميمي ) من جبهة الشام التي هدأت بعد ملحمة ( اليرموك ) إلى العراق مرّة ثانية لإنقاذ ( القادسية ) التي حدثت بعد أربعين يوم من ( اليرموك ) ، فسحق المسلمون الفرسَ فيها ، وكسروا ظهرهم ، ودقّوا عظمهم ، ولا يزال الفرس يحقدون على العرب من ذلك اليوم حتى هذه اللحظة ، فيقيمون المآتم ، ويشقّون الجيوب ، ويلطمون الخدود في الخامس عشر من شعبان من كل عام ، وهو تاريخ ( القادسية ) ، ولا يزال حقدهم على العرب متأججاً لم ينطفيء منذ أربعة عشر قرناً ، ولعل جرائمهم في العراق والشام التي ترونها هي  بعض  نفثات من ذلك الحقد الأسود  ... !!!

ليس حقدهم هو ما يقلقني .!!!

ما يقلقني هو لماذا لا يستفيد المجاهدون في وطني ( الشام ) ، وهم أحفاد قادتنا العمالقة أمثال خالد ، وأبي عبيدة ، والقعقاع ، وغيرهم ، رضوان الله عليهم  من تاريخهم الجهادي الباهر ، الذي غيّروا به خارطة العالم ، وعدّلوا مسار التاريخ .!؟

لماذا .!؟

4. ومن المباديء العسكرية الرائعة التي كان يطبّقها الفاتحون المسلمون مبدأ

( إستثمار الفوز ) ، وهو يعني أن يستثمر القائد لحظة انكسار العدوّ ، وما يتبعه من تدهور في معنوياته ، ليضغط عليه أكثر وأكثر حتى يلحق به الهزيمة الكاملة ، التي لا تقوم له بعدها قائمة ، حصل هذا في اليرموك ، كما رأينا ، فاستثمر خالد لحظة ضعف وتخلخل في صفوف أعدائه ، فسحقهم ، وألقى بهم من شاهق ، ثمّ تتبع فلولهم فقتلهم في كل سهل ، وكل واد ، حتى أقاصي شمال سورية .!!

وكذلك فعل سعد بعد القادسية ، حيث استثمر لحظ انهيار معنويات أعدائه ، فطاردهم يقتل بهم ويأسر حتى قذف بملكهم يزدجرد في أراضي الصين ...!!!

ألا فما أروع هذا التاريخ الباهر ، وما أعظم هذه السيرة العطرة .!؟

فهل نقتدي بهم ، ونسير على دربهم ، ونجاهد جهادهم .!؟

هذا ما نرجوه مخلصين ، ونعمل من أجله جاهدين ...

(( والله غالبٌ على أمره ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون )) . صدق الله العظيم