سوريا ...بين شهوة السلطة وغياب العقل السياسي

سوريا ...بين شهوة السلطة وغياب العقل السياسي

كاظم عايش

(اجا دورك يا دكتور ) , عبارة كتبها طفل درعاوي على حائط منزو , فتداعت الاحداث في سوريا الى أن وصلت الى الحالة البائسة التي نشاهدها جميعا .

كان بإمكان النظام المتغطرس أن يرسل شخصا بعلبة دهان ويطمس العبارة , ويستدعي الوجهاء وذوي الرأي ويحذرهم من مثل هذه التصرفات وينتهي الامر , ولكنه بدافع الشعور بالسطوة والكبر , قام بتصرفات شاذة رعناء اججت مشاعر الغضب والتمرد , واخرجت مكنونات الحقد الذي ترسب في النفوس خلال عشرات السنين من القهر والظلم والفساد والاستبداد الذي كانت تمارسه عصابات النظام دون ان يرف لها جفن .

وحين خرج مئات يحتجون على سلوك وتصرفات حاكم اداري , وبدلا من ان يتم مساءلته أو نقله , قام النظام المسكون بعقدة التسلط والاستعلاء بفتح النار على المتظاهرين , كأنهم مجرد حيوانات ضالة , أو ما شابه , متجاهلا ما يجري حوله من ثورات الشعوب التي ملت الظلم والاستبداد والقهر , ظانا ان سجله في الممانعة , وانتماءه الى محور المقاومة سيعفيه من تبعات ذلك التصرف الارعن الذي لا يبرره كل الامجاد الزائفة التي يتبجح بها النظام , ولا تغفره كل العلاقات مع المحور الطائفي المختبيء بعباءة المقاومة التجارية , محسوبة الخطوات , البعيدة عن كل القيم والمباديء الانسانية .

المشهد السوري قبل الثورة لم يكن مشهدا ديمقراطيا ولا حكما رشيدا , والنظام السوري لم يكن يحسب للشعب اي حساب , ولا يعامله بالحد الادنى من الاحترام , , انتخابات اشبه ما تكون بالتعيين الذي يمارسه الحزب المحكوم بعصابة تدير الامور من وراء الكواليس , حتى المنظمات الدولية مثل الانروا والتي كانت تمارس قدرا من الديمقراطية بين موظفيها , لم يكن يتجرأ على الترشح لممثلي الموظفين فيها سوى من يرضى عنهم ممثل النظام داخل الانروا , وحين كنا نطلب منهم الوقوف الى جانب زملائهم في مناطق العمليات الاخرى كانوا يعتذرون بادب , لعدم رغبتهم في ازعاج النظام السوري في مثل هذه المواقف .سجون النظام اشتهر عنها ان الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود , ولا يجرؤ احد عن السؤال عن نزلائها حتى لو كانوا من الحزب الواحد الذي يحكم سوريا صوريا , الثروة دولة بين محاسيب النظام , وبقية الشعب يتسول السائحين جهارا نهارا ابتداءا من الرتب العسكرية المرموقة وانتهاء باصغر الموظفين الذين لا يكفيهم راتبهم لايام من الشهر .قانون 49 الذي يحكم على كل من ينتمي لجماعة الاخوان المسلمين بالاعدام , هو ايضا انعكاس لغطرسة النظام وعداءه للاسلام , فقد كان بامكان النظام بعد مرور اكثر من ثلاثين سنة على احداث ارتكب فيها ابشع المجازر في حماة وتدمر وسائر انحاء سوريا ردا على افعال قام بها نفر من الاخوان خارج اطار القرار التنظيمي , كان بامكانه طي هذه الصفحة السوداء وفتح حوار وعمل مصالحة سعى بها الكثير من الوسطاء , لكن عنجهية النظام وتغطرسه وتعاليه حال دون حدوث ذلك , رغم التنازلات التي قدمها الاخوان له .

ليس المقام الآن مقام لفتح الملفات ولا للوم احد و وانما هي محاولة لفهم ما يجري على الساحة السورية , فالنظام فقد منذ فترة طويلة شرعيته ومبررات وجوده , فلا عدل ولا مساواة ولا تكافؤ فرص , بل تحيز وفساد وطائفية زكمت الانوف , شأن انظمة أخرى تساقطت من حوله , أو هي على وشك السقوط .

المتربصون بالنظام السوري كثر , منهم انظمة دولية واخرى عربية , قوى داخلية وخارجية , والنظام يعرف ذلك , ورغم هشاشته فانه لم ينتبه الى المخاطر التي تحيط به , وركب رأسه , ولم يأخذ بالنصائح التي قدمها له كثيرون ممن كانوا يحرصون عليه , لاسباب تتعلق بقضية المقاومة والممانعة التي اعطته نوعا من المصداقية والقبول , ولكنه لم يستثمر الفرصة , ولم يقرأ المشهد بعيون باصرة , وإنما أعماه الغرور وظن انه يأوي الى ركن شديد من الدول الداعمة كروسيا وايران وحزب الله , وخوف يستبد بالعصابة المتنفذة حوله من اصحاب السلطة والثروة الحرام .

المشهد السوري الآن غاية في التعقيد , فالمجتمع الدولي والعربي لا يرغب ببقاء هذا النظام , ويسعى الى تقويضه بكل جدية , والذي يؤخر ذلك هو بديل النظام , وخاصة في ظل وجود المجموعات المتشددة في صفوف المعارضة المسلحة , مما سبب المعاناة وسقوط الضحايا والمجازر التي ترتكب بحق الشعب السوري من قبل الشبيحة الطائفية وبدعم كامل من النظام المتهاوي , ومن ايران وحزب الله وروسيا التي تسعى كل منها لتحقيق مصالحها الاقليمية والمذهبية والسياسية .

المشهد السوري بائس , تداعت عليه كل القوى , واجتمعت عليه كل السكاكين , وهو بموقفه الشاذ اعطى الفرصة للجميع وخاصة المشروع الصهيوني ومن يقف معه , فلقد اخرج بحمقه سوريا من المشهد العالمي والعربي لفترة طويلة من الزمن , وافقد القضية الفلسطينية عمقا استراتيجيا وحاضنا مهما . واوقع سوريا في مشكلة لن تنهض منها الا بعد زمن طويل .

أسوأ ما في المشهد السوري في قادم الايام , هو الاحتراب الداخلي بين قوى المعارضة التقليدية والطرف المتهم بالتشدد مثل جبهة النصرة ومن يدور في فلكها , فهؤلاء رغم ما قدموه لسوريا من التضحيات , فانهم لن يكونوا بمأمن من انقلاب القوى التقليدية ضدهم , مثل السوري الحر وبقية الفصائل المرتبطة باجندات المحيط العربي والنظام نفسه وحلفائه الطائفيين , فالجبهة اصبحت على قائمة الارهاب الامريكية , وهذا يعني ان تصفيتها مطلب سابق لاي دعم حقيقي للمعارضة لانهاء النظام , وهذا يزيد المشهد بؤسا , كما يزيد من معاناة الشعب السوري , ويوجه ضربة قوية للمعارضة بشكل عام , ويدعم موقف النظام السوري المتهالك ويزيد في مدة بقاءه , اي يؤخر تحقيق مطالب الشعب السوري بالحرية والتخلص من الظلم والاستبداد والفساد , الذي طال انتظاره , ولم تتبين ملامحه حتى اللحظة .