حديث الآباء إلى الأبناء... في الوصايا العشر 2

د. عبد الرحمن الحطيبات

حديث الآباء إلى الأبناء... في الوصايا العشر

الرسالة الثانية

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

أبنائي الأحبة ,

سلام الله عليكم وأنتم تستعدون لإجازة الصيف لا -أجاز الله عقولكم , ولا عطل ضمائركم - وبارك الله فيكم وجعل أيامكم أيام خير وعطاء متواصل إلى أن تلقوا ربكم, وجعل الله لكم في كل يوم عيداً, وفي كل عيدٍ بهجة, ومع كل بهجة فرحتان: فرحة لكم في الدنيا , وفرحة عند لقاء ربكم" يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "

أبنائي الأحبة

 الوقتُ في حياةِ المسلمِ عبادةٌ ممتدَّةٌ، " الوقت هو المال " وإذا وَازَنَّا هذه العبارةَ بقولِ الحسنِ البصري رحمه الله تعالى: أدركتُ أقواماً كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على دراهمه ودنانيره، نَستنتجُ أنّ الوقتَ عندَ المسلمِ أغلى مِنَ المالِ، ذلك أنّ المسلمَ يُدرك أنّ المالَ يمكنُ تعويضُه، بينما الوقتُ لا يمكن تعويضُه. والوقت أثمن من المال , فالإنسانُ حينما يَحرقُ مبلغاً كبيراً مِنَ المال يُحكَم عليه بالسَّفَهِ، ويُحْجَر على تصرفاتِه، ولأنه مركَّبٌ في أعماقِ الإنسانِ أنّ الوقتَ أثمنُ مِنَ المالِ، بدليلِ أنه يبيعُ بيتَه الذي يسكنُه ولا يملكُ شيًا سِوَاهُ ليُجريَ بثمنِه عمليةً جراحيةً، متوهِّمًا أنّها تزيدُ في حياتِه سنواتٍ عدةً، فالوقتُ عندَ كلّ إنسانٍ أثمنُ مِنَ المال، وبناءً على هذه المُسَلَّمَةِ فإنّ الذي يُتلفُ وقتَه أشدُّ سَفَهاً مِنَ الذي يُتْلِفُ مالَه. ومِنْ هذا المنطلقِ يعدُّ الوقتُ أساسَ الحياةِ، وعليه تقومُ الحياة ، فصحيحٌ أنّ الوقتَ لا يمكن شراؤُه، ولا بيعُه، ولا تأجيرُه، ولا استعارتُه، ولا مضاعفتُه، ولا توفيرُه، ولا تصنيعُه، ولكن يمكن استثمارُه وتوظيفُه، أولئك الذين لديهم الوقتُ لإنجازِ أعمالِهم، ولديهم أيضاً الوقتُ لمعرفةِ ربِّهم، وعبادتِه، والتقرّبِ إليه، عرفوا قيمتَه، هم يستثمرون كلَّ دقيقةٍ مِن وقتهم فأنتم مع موعد لإعداد برنامج أسري وفردي للإفادة من إجازتكم ومن كل لحظة تم بكم تدرجون من خلاله قراءة سير العظماء والصالحين والأخذا بأحسنها, .....وإن بحث الناس في التراب عن الدفائن, فلتبحثوا في العظمة وأسباب العظمة , وجوانب الصلاح.... وعن معان جديدة لحياتكم , وقيم لوجودكم , وأسوة لكم .. وإن ربح أهل الدنيا دنياهم , ولعل أكثرهم قد خسروا ؛ فلتربحوا الدنيا والآخرة: ولتبحثوا في كتاب الله..., وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم .... عن عجائب الحكمة والبدائع واللطائف والفرائد ؛ ما تحركون به القلوب, وتنيرون به العقول, ويهديكم سواء السبيل .

 أولادي الأحبة,

حقيق بكم أن تسمعوا إلى كتاب ربكم ووصيته فيكم, ؛ ومع هذه الدرة الثمينة والوصية النافعة أوصيكم بتلاوتها وحفظها و وتدبرها والعمل بها وتبليغها لزملائكم فهي منهج للآداب السامية التي يؤدب الله بها عباده ؛ لأن في امتثالها فلاحهم دنيا وآخرة, ولها آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم وتماسك, وها أنا أوصيكم بهذه الوصايا ليخصكم ربكم بالحكمة, وليمن من منه وكرمه بالهداية علينا وعلى الناس إنها وصايا لقمان الحكيم والتي بين الله عز وجل في هذه الوصيايا العظيمة من العظيم جل في علاه , والأعطية الكريمة من الكريم الذي لا تحد عطاياه , امتنانه على عبده لقمان بالحكمة. و المشهور عن جمهور المفسرين أن لقمان كان حكيما وليا ولم يكن نبيا وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز ؛ فأثنى عليه و حكى من كلامه فيما وعظ به ولده , الذي هو أحب الخلق إليه, وهو أشفق الناس عليه , فكان من أول ما وعظ به: يا بني, لا تشرك بالله, إن الشرك لظلم عظيم. فنهاه عن الشرك ,وحذره منه.

وفي اللغة أن الحَكِيمَ ذو الحِكمة، والحِكْمَةُ عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.

ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ، والحَكِيمُ يجوز أن يكون بمعنى الحاكِمِ مثل قَدِير بمعنى قادر وعَلِيمٍ بمعنى عالِمٍ. وقال الجوهري: الحُكْم الحِكْمَةُ من العلم، والحَكِيمُ العالِم وصاحب الحِكْمَة. و لقمان: اسم علم مادته مادة عربية ، مشتق من اللقم ، و الأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم ، كما عربوا شاول باسم طالوت(1)

- و هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح وهو آزر أبو إبراهيم -عليه السلام -وتؤكد كثير الروايات أنه أسود اللون غليظ الشفتين مصفح القدمين أي عريضهما ، مشقق الرجلين ذا مشافر (أي عظيم الشفتين) قصير القامة أفطس.

 وكان من خير الناس صالحًا حكيمًا و فطينًا رقيق القلب صادق الحديث، صاحب أمانة و عفة ، وعقل و إصابة في القول ، كان رجلا سكيتا طويل التفكر ، عميق النظر ، لم ينم نهارًا قط ، و لم يره أحد يبزق و لا يتنخم ، و لا يبول و لا يتغوط ، و لا يغتسل ، و لا يعبث و لا يضحك ، و كان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه ، و كان قد تزوج وولد له أولاد, فماتوا فلم يبك عليهم ، و كان يغشى السلطان و يأتي الحكماء ، لينظر و يتفكر و يعتبر ، فبذلك أوتي ما أوتي و قيل: إنه من النوبة ، و قيل من الحبشة ، و قيل من سودان مصر وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان لقمان عبدًا حبشيًا ، و كان سعيد بن المسيب يقول: كان لقمان الحكيم أسود من سودان مصر.

 و اختلف في صناعته ، فقيل كان خياطا ، و قيل كان نجارا ، و قيل كان راعيا و قيل إنه كان قاضيًا على بني إسرائيل. واختلف السلف في كونه نبيًا أم حكيمًا ، فمنهم من قال أن الله تعالى أعطاه الحكمة و منعه النبوة ، و على هذا اتفق جمهور أهل التأويل إنه كان وليًا و لم يكن نبيًا. وقيل : إنه كان نبيًا ، و قال بنبوته عكرمة و الشعبي ، و على هذا تكون الحكمة هي النبوة.

 وأرى أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى . و الحكمة هي العقل و الفهم و الفطنة في غير نبوة و هي العلم المؤيد بالعمل ، و العمل المحكم بالعلم . قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيما حتى تجتمع له الحكمة في القول و الفعل ، و لا يسمى المتكلم بالحكمة حكيما حتى يكون عاملًا بها.

 وقيل: إنه عاش ألف سنة و أدركه داود عليه السلام ، و أخذ عنه العلم. وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال و المقربة للخفيات بأحسن الأمثال ، و قد عني بها كثير من الباحثين وأهل القرآن ، و ذكر القران منها ما في هذه السورة ، و ذكر منها الإمام مالك في الموطأ بلاغين في كتاب الجامع ، و ذكر حكمة له في كتاب جامع العتبية ، وذكر منها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، وذكر الطاهر بن عاشور أنه لما كتب تفسيره التحرير و التنوير انتهت إليه من حكم لقمان المأثورة ثمان و ثلاثون حكمة غير ما ذكر في هذه الآيات التي نحن بصدد تأملها. و من حكم لقمان عليه السلام :

- يا بني ، اتخذ تقوى الله تجارة يأتك الربح من غير بضاعة.

- يا بني ، إذا انتهيت إلى قوم فارمهم بسهم الإسلام, ثم اجلس في ناحيتهم ، فإن أفاضوا في ذكر الله فاجلس معهم ، و إن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم.

- ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: الحليم عند الغضب ، و الشجاع عند الحرب ، و أخوك عند حاجتك إليه.

-قيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. و قال له داود عليه السلام يوما : كيف أصبحت؟ قال أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود فيه فصعق صعقة.

- أي بني إن الدنيا بحر عميق ، و قد غرق فيها ناس كثيرون ، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله ، و حشوها الإيمان، و شراعها التوكل على الله ، لعلك تنجو و لا أراك ناجيا.

- من كان له من نفسه واعظ ، كان له من الله حافظ ، و من أنصف الناس من نفسه ، زاده الله بذلك عزا، والذل في طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية.

- يا بني لا تكن حلوًا فتبلع ، و لا مرًا فتلفظ.

- يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلًا فأغضبه قبل ذلك ، فان أنصفك عند غضبه فآخه، و إلا فاحذره.

- يا بني ... أكلت الحنظل و ذقت الصبر؛ فلم أر شيئًا أمر من الفقر ، فان افتقرت فلا تحدث به الناس كيلا ينتقصوك ، و لكن اسأل الله تعالى من فضله ، فمن ذا الذي سأل الله فلم يعطه ، أو دعاه فلم يجبه ، أو تضرع إليه فلم يكشف ما به.

- مر رجل بلقمان و الناس عنده فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: ألست الذي كنت ترعى عند جبل كذا و كذا؟ قال : بلى ، قال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: تقوى الله و صدق الحديث ، و أداء الأمانة ، و طول السكوت عما لا يعنيني.

- يا بني عليك بمجالس العلماء ، و استمع كلام الحكماء ، فان الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.

- يا بني ، ارج الله رجاء لا ثامن فيه مكره ، و خف الله مخافة لا تيأس بها من رحمته ، قال : يا أبتاه ، و كيف أستطيع ذلك و إنما لي قلب واحد ؟ قال : المؤمن كذا له قلبان ، قلب يرجو به ، و قلب يخاف به.

أبنائي الأحبة

بين يدي النص

 أحببت أن نتأمل وإياكم هذه الآيات العظيمة التي أثنى الله فيها على لقمان بأن وهبه الحكمة وذكر هذه القاعدة العظيمة ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ) ثم بين بعض الحكمة التي آتاها الله لقمان والتي جمعت بين العقيدة والعبادة والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهي من أعظم الآيات التي ينبغي أن نتدبرها ونستفيد منها عقيدةً وعبادةً وأخلاقا؛ لأننا نتعلم العلم لنعمل ولنتخلق بما نعرفه من كتاب الله ومن سنة رسول الله وسيرته صلى الله عليه وسلم .

قال الله تعالى: } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{ (سورة لقمان: 12-19)

أبنائي الأحبة ,

 أستوقف نفسي وإياكم مع هذا الحوار الراقي بين الأب ولده، وبين الولد والده، تحمل في طياتها كثيراً من الدلالات والمضامين والأساليب التربوية :

1- الوصية الأولى: " يا بني لا تشرك بالله ، إن الشرك لظلم عظيم" ( لقمان 13)

وعظ لقمان ابنه أولا بعدم الشرك بالله عز و جل ، و توحيده سبحانه و تعالى و إفراده بالعبادة وحده لا شريك له في ذلك ، و يحذره من الشرك الذي هو ظلم عظيم.

2- الوصية الثانية: " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ، و فصاله في عامين أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير" ( لقمان 14 ) وَصَّاهُ بحقِّ والِدَيْه أنْ يُحسن إليهما، وبين الأسباب التي تحتم عليه أن يشكر لهما ويعرف حقهما، أشار إلى ماذا تعاني الأم التي أوصاك الله بالإحسان إليها " حَمَلتْهُ أُمُّه وهنًا عَلى وهنٍ " يعني؛ ضعفاً على ضعف؛ هي ضعيفة البنية وتزيدها آلام الحمل ومشاكله ومشاقّه من الغثيان ومن الدوران ومن الوحم كما يسمونه إلى آخره، آلام ومشقات، وبعد هذا آلام الوضع : " حَمَلتهُ كُرهاً وَوَضَعَتْهُ كُرهاً " مَشقة وتَعب وأخطار وقد تموت، ثم بعد ذلك تربيك وتسهر عليك، ويحول الله دمها إلى حليب لترضعه منها، وخير شيء لتربية الولد ونمو جسمه أن يرضع من لبن أمه؛ حمل وولادة؛ حمل على كره وعلى ضعف وعلى مشقّات، والولادة كذلك، وبعد ذلك التربية والحضانة والرعاية وسهر وتعب وبكاء وآلام فعليك أن تكافئها، ولهذا قرن الله شكرهما بشكره " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ".

أبنائي الأحبة ,

 إن لم تقوموا بحق الله وشكره وشكر والديكم فسوف يعاقبكم على عدم القيام بحق الله وبحق الوالدين أو التقصير في أيهما

3- الوصية الثالثة: " و اتبع سبيل من أناب إلي" ( لقمان, 15 ) الأمر باتباع طريق أهل الصلاح.

4- الوصية الرابعة: " يا بني, إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير" ( لقمان, 16 ) ففي هذه الوصايا وجوب مراقبة الله تعالى في الحركات و السكنات و كافة الأحوال و الأعمال ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء.

5- الوصية الخامسة: " يا بني, اقم الصلاة" ( لقمان, 17 ) "يابنيّ أقم الصلاة" لأنّ الصلاة أهمّ علاقة وارتباط مع الخالق عز وجل ، والصلاة تنوّر قلوبكم، وتصفّي أرواحكم ، وتضيء حياتكم، وتطهّر أرواحكم من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودكم، وتمنعكم من الفحشاء والمنكر . وإقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده، وقيامه على الحق، وإخلاصه لله, إن الصلاة فيما أرى منهج متناسق لتربية الفرد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، و تمده بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات في الحياة الدنيا، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [ سورة البقرة, 153]. والصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني.

 6- الوصية السادسة: " وأمر بالمعروف و انه عن المنكر " ( لقمان 17 ). وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهمّ دستور اجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر).

7- الوصية السابعة: " و اصبر على ما أصابك " ( لقمان 17 ) ومما يلفت النظر في الوصية الصبر والذي هو يعد زاداً حقيقياً للمؤمن والمتعلم والمعلم و الداعية في سبيل ما يلقاه كل منهم في حياته : ولهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر يقول الحق تبارك وتعالى على لسان لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، لأن الإنسان عندما يتعرض للتعامل مع الناس من خلال لدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يتصدى له أهل الشر، ويناله منهم أذى؛ وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتزان، وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب، بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب الحكيم، بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرع والعجلة، فيضع الإِنسان الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق، أو يريد الخير، فيغدو جانياً، أو مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك.

أبنائي الأعزاء, إن الصبر على المصائب يبقى للفعل نوره، ويبقى للشخص وقاره، ولذا كان الصبر من الآداب الرفيعة والأخلاق القويمة، و صفة من صفات المؤمن، وسمة من سمات المبشرين بالأجر العظيم من الله عز وجل قال تعالى: "... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [10] " [سورة الزمر].

8- الوصية الثامنة: " و لا تصعر خدك للناس" ( لقمان 18 ).

واستوقفكم مع جوانب من الآداب التي لا غنى لكم عنها ومنها عدم التعالي على الناس والتطاول على الناس باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى أن يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل. فاسمعوا بآذان قلوبكم " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19 " . النهي عن الإعراض عن الناس أثناء حديثه معهم ، أو حديثهم معه تكبرا عليهم و احتقارا لهم ، بل يجب الإقبال عليهم بوجه طليق مع وجوب التواضع لهم و إلانة الجانب.

9- الوصية التاسعة: " و لا تمش في الأرض مرحا ، و اقصد في مشيك" ( لقمان 18-19 ) النهي عن المشي بتكبر و خيلاء؛ إعجابا بالنفس ، وافتخارا على الغير ، ووجوب المشي باعتدال.

10- الوصية العاشرة: " واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" ( لقمان 19 )

 فهذه عشرة الوصايا في الحث على خفض الصوت و عدم رفعه فوق الحاجة لئلا يؤذي السامع ، مشبها رفع الصوت فوق الحاجة بصوت الحمير الذي يعد أقبح الأصوات كونه مرتفعا. ولا أنسى يا أبنائي من تذكيركم بضرورة خفض أصواتكم والتوسط في أفعالكم وأقوالكم, وأن لا تميلوا ولا تنحرفوا في المغالاة ؛ لتتميزوا في ذلك بالأدب الراقي وصفة المتقين والعقلاء , وتكونوا ممن كرمكم الله من خلقه , وفي ذلك تتمايزوا عن غير العقلاء.

 أولادي الأحبة,

 إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تغيير المنكر بالنصيحة، وبالطرق العملية المثمرة؛ مساهمة جليلة في صيانة المجتمع وتقويمه و إصلاحه، وكل مساهمة في إصلاح المجتمعات، وتقويمها، وصيانتها أعمال أخلاقية فاضلة, فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكاره ومحاولة تغييره من مكارم الأخلاق الإيمانية؛ لما فيها من خدمة اجتماعية، وصيانة للمجتمعات عن الانزلاق في مزالق الانحراف، ولذلك حرص ديننا الحنيف حرصا شديداً على جعل كل فرد مسلم ومسلمة وبشكل متعاون جنوداً يشد بعضهم بعضا لحرّاسة أسوار الفضيلة وتعاليم الدين الحنيف والحكمة ، فمن جاهد منهم المنحرفين بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

فلذة كبدي وقرة عيني

لو تأملنا قليلا في أسلوب لقمان حينما قال لابنه : " يا بني " فإننا نرى فيه عاطفة الأبوة , في استخدم أسلوب محبب لنفوس أبنائه ، وكأني به ... أستشعر ذلك الحب الدافق الذي يدفع الأب إلى الخوف وشدة الحرص على أولاده ؛ وأنه لا ينصحه إلا من باب الخوف على أولاده وحرصه على مصلحتهم، وهنا عليكم أن تتنبهوا إلى الأساليب الراقية في التعامل فيما بينكم, وإلى التلفظ بالكلمات والمعاني الجميلة الراقية الدالة على الاحترام والإشفاق والصادرة عن المحبة والإخلاص لله عز وجل في جميع أعمالكم البارزة والخفية , وعدم استخدام الألفاظ النابية ً، ... واستوقفكم مع هذه الوصية الخالدة لضرورة الإتيان بالبدائل عند نهي الآخرين عن سلوك بغيض و خلق ذميم برسم لوحة من التواضع الجم وحسن الخلق اسمعوا إليه في قوله : " واقصد في مشيك " بعدما قال : " ولا تمش في الأرضِ مرحاً " ،

 واستوقف نفسي مع ضرورة مراجعة ومحاسبة نفسي ... وأنفسكم فلربما سألت نفسي كثيراً .. وسألتكم .. وتساءلت ..عن كثير من تلكم الخواطر الواردة والشاردة التي قد تسيطر علينا أحياناً؛ فالله خبيرٌ بكل ما يجول في النفس وإن كان بقدر حبة الخردل .

(يا بنيّ إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) "يوم القيامة" ويضعها للحساب

أبنائي الأحبة,

 لقد رتبت لكم هذه الوصية الجامعة الأمور بحسب أهميتها من حيث الابتداء بتربية النفس على طاعة الله و التوحيد ومحاربة الشرك وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخلاق الفاضلة العالية؛ محاربة الكبر والفخر والخيلاء ، وتعلموا الحلم والأناة وكل الأخلاق الفاضلة، ادرسوها من كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن هذه الأخلاق جانب مهم من جوانب الإسلام ومن صميم الإيمان، ومن ملامح الأذكياء, وصفات العظماء بها تنتشر الدعوة إلى الله ويرفع الله مكانتكم عند خلقه ، وبخلافها توضع هذه الدعوة وتشوه أمام الناس.

فأحسنوا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " (النحل 125):

وهكذا يتربي الإنسان المسلم يا أبنائي على الوعي الفكري الدائم، وهذا ما يجعله يقظًا ومنطقياً في كل سلوك يسلكه وفي كل أمر من أمور حياته، ولا يقوم بعمل إلا ضمن خطة ووعي وتفكير، إلى جانب ذلك فهو في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله " إن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسؤولاً" .

 وأضيف إلى ما قدمت أن عباداتنا وصلاتنا وذكرنا لله وجميع أعملنا التي نستشعر فيه معية الله تربي فينا الشعور بالعزة والكرامة، قال تعالى " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ"( سورة المنافقون, 8 ).

 أبنائي الأحبة , اعلموا أني أرى فيكم وأخاطب بكم أمل الأمة وسواعدها الفتية وعقولها المنيرة ومستقبلها الزاهر وأملها الزاهر وقوتها المنتظرة ، وهذا هو قدْركم وقدَرَكم, وتلك هي مسئوليتكم وأمانتكم أمام الله ثم أمام أمتكم وأنفسكم، ووصية الله وصيتي فيكم أشهد الله عليها وهو خير الشاهدين , أنتم عُدَّةُ المستقبل، ومعقدُ الأمل في النهوضِ بأمتكم والله معكم ويحفظكم ,

 . ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وجعلنا للمتقين إماما استودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم .... إن ربنا سميع الدعاء

 وعلى أمل اللقاء بكم في أحاديث أخر, و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

أبوكم

أبو محمد