رمضان والثورات والمبتغى

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...))البقرة: 185

1_ مقدمة:

ما بالنا تحولنا تابعين، نقيس كل أحوالنا بأمتار الآخرين! هل نحن أمة بزغ وجودها اليوم مع ظهور الثورات؟ أم أن عراقتنا راسخة، تمتد جذورها في عمق أرضها، وتتسلق أغصانها وأفنانها قرون التاريخ، الذي عبقت أرجاؤه بفكرنا واجتماعنا واقتصادنا وعسكرنا وسياساتنا؟ لقد حمل رمضان منذ بدر والخندق وفتح مكة وعمورية واليرموك وحطين وحتى عين جالوت روح عمر الفاروق، ليقول للقدس وما حولها ومن حولها: أنتِ لله وبالله. ونحن بفكر الإسلام وعبق محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بزنود رمضانات الفتح وبشذى عطرها الجهادي نحرس أرضك وفكرك، فقد علمنا الله ذلك بقوله جل من قائل: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ))، ثم إن الأيام والخبرات والتجارب أكدت ووقعت على ذلك بدماء الملايين، الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وتقدموا بها في ساحات الوغى؛ ليحققوا وجود هذه الأمة المحمي بالإسلام، المكرم بإحياء عبقه، كلما حاول المبطلون إبعادنا عن روحانيات رمضان وعزماته واجتماعياته واقتصادياته وسياساته المنتصرة أبداً بنصر الله.

2_ والثورات ما بالها؟

لقد تفجرت الثورات من أنين جسم للأمة، الذي أثقله الاستبداد العلماني، وعوّقه الفساد، وأنهكت قواه الفكرية والثقافية التبعية وضياع الهُوية، وأفسد اجتماعه التزوير في كل شيء والقمع بلا حدود، لكن قول ربنا جل في علاه: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)) الشورى:39، ظلّ يعمل في وعي الجماهير، ليفجر فيها عودات وعودات إلى روح النهوض وإلى اعتلاء ذرى الفوز، وكان العاشر من رمضان عام 1973م عبق من ذلك الروح الرمضاني، انتصرت فيه (الله أكبر)، المنطلقة من أفواه الجند، حيث صبت عزماتها في زنودهم. لكن من أرادوها حرب تحريك لا حرب تحرير أردوها قتيلة على بوابات علمانية احتكار السلطة، وقمع الهَبّات الشعبية الحقة، وقد غادر هؤلاء بأفعالهم وأدوارهم قول الشاعر: (وكل الذي فوق التراب تراب)، وهم من قبل كانوا قد غادروا: ((فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) ص:26 ، فما بالكم لا تعقلون؟.

وها هي ثوراتنا المباركة التي أدركت رمضان هذا العام، و هي بعد غضة طرية، تروم الخروج من عقود الظلمات الساداتية والمباركية والأسدية وغيرها؟ وهي تحمل في جوانحها روح رمضان المضيئة بالانتصارات، لكن فلول التبعية الحاملة بالعلمانية والليبرالية الرأسمالية، المختزنة لاقتصاد السوق وهيمنة العولمة المتوحشة، فهي تحاول كبح جماح مخزونات رمضان الانتصارية، بهدف إلقائنا في حومة الظلمات السابقة، ولكن بشكليات تغييرية تصرخ في وجوهنا: أن هذه هي الحداثة، وإلا فإنكم من دون الدولة المدنية المنمطة على مزاج هؤلاء، سوف تقبعون تحت خمار دولة الإخوان الدينية!! إنهم يريدوننا على سكة المثل القائل: (كأنك يا أبا زيد ما غزيت)..!

3_ وإذن، أين المسار الحق؟

يقول الحق جلت قدرته: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) الأنعام: 153 . إن الأساسات التي تسير عليها أية أمة لا يتناولها العبث الحداثي وغير الحداثي، فهي راسخة تجمع الناس، وتصل الحاضر بالماضي والمستقبل، وفيها عناصر البقاء والحضور، وتحمل الخصوصية والتميز. أما الوسائل وآليات التنفيذ فهي مناط القول والاجتهاد والأفكار وتلاقحها والحوار الذي يشكل الحراك في المجتمعات؛ فهذا الغرب تحمله خصوصية الرأسمالية كأساس، لكن مجتمعاته تمور بكيفية إنفاذ الرأسمالية، ووسائل ذلك الإنفاذ وذلك مع وجود الأفكار الأخرى، ولكنها معزولة لا يعمل بها، فهل نحن بدعاً من الأمم لنجد فينا من يدعو  إلى السبل ومغادرة الصراط المستقيم، الذي هو أساس وجذر وجود هذه الأمة وحضورها؟ وهؤلاء قلة يدّعون أن اتباع الصراط يعني دولة دينية، مع أن التاريخ لم يسجل أن أمتنا اتبعت دولة دينية بمعنى: (الثيوقراطية الكنسية).

 غير أننا نقول لهؤلاء: إن المسار الناجح لأمتنا هو مسار الصراط المستقيم: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ...)) الذي يدعو إلى الحرية والتعددية في الآليات والوسائل، كما يدعو إلى  تداول السلطة سلمياً، وإلى حقوق المواطنة الكاملة لجميع مكونات الأمة، دون إقصاء لأحد، وكل ذلك تحت سقف صراط مستقيم واحد، وهذا هو موقف الأكثرية، فلماذا تتخوفون منه؟ وتريدون تعويق صراطه، وها هو تاريخنا يشهد شهادة عملية على احترام الأقليات وحمايتها ومشاركتها، باعتبار أنها مكون أساسي من المجتمع. أليست الديمقراطية هي حكم الأكثرية؟ فهذه أمريكا الديموقراطية نَصَّ العرف فيها على أن الرئيس يجب أن يكون مسيحياً بروتستنتينياً، فلا يحق ليهودي أو مسلم أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، وهذه معظم دول أوروبا يحمل علمها الصليب بغض النظر عن رأي الأقليات. وإذن لماذا عندنا فقط يراد للأقلية أن تحكم دستورنا وتوجهاتنا وسياساتنا: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))؟! الصافات:154