الدولة.. رؤية فلسطينية

همسة .....

د. لطفي زغلول /نابلس

[email protected]

في زيارته الأخيرة للمنطقة، تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما عن دولة فلسطينية، وعن حل الدولتين، متجاهلا عمدا حقيقة أن الإستيطان قد افترس إمكانيات هذه الدولة، وأن هذا الإستيطان قد استشرى في الجغرافية الفلسطينية إلى الحد الذي يستغرب أي إنسان عاقل ويتساءل: عن أية دولة يتحدث أوباما، وما هي مقوماتها فيما لو كتب لها أن تقوم؟. وتساءل أيضا كيف له أن يتجاهل الإحتلال وما يفرزه من مآس تطال الشعب الفلسطيني التواق للتحرر.

هنا نتذكر تصريحا أدلى به الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإبن حول رؤيته عن الدولة الفلسطينية التي وصفها آنذاك بأنها تأتي على رأس أولوياته، قائلا إنه يأمل أن لا تنتهي ولايته في نهاية العام 2008، إلا وقد تم استصدار تعريف لهذه الدولة، وتحديد لمعالمها، وإنه سيعمل بكل قوة للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وحقيقة الأمر إن ما صرح به الرئيس الأميركي باراك أوباما، يكاد يكون نسخة مطابقة لما قاله سلفه. سواء هذا أو ذاك فكلامهما لا ينطلي على الشعب الفلسطيني، وليس فيه جديد لا من حيث الشكل ولا المضمون، ولا حتى استخدامه مصطلحي  الدولة، ولا تحديد معالمها. لقد بات الفلسطينيون صغيرهم قبل كبيرهم يدركون أن هناك عدم جدية أو مصداقية في طرح الموضوع، فلطالما تحدث عنه الأميركيون في كل مناسبة، وعلى كل منبر سياسي. وصدق المثل القائل نسمع قرقعة ولا نرى طحنا.

لا أحد ينكر أن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإبن كان أول من "بشر" الفلسطينيين بالدولة، ووعدهم بها غداة أحداث الحادي عشر من إيلول / سبتمبر 2001. إلا أن هذه الدولة منذ ذلك التاريخ حتى اللحظة الراهنة ما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي، ظلت خلالها حبيسة في قمقمها الذي أعد لها مسبقا.

إن الشعب الفلسطيني من الذكاء بحيث أدرك في حينه أن هناك "دوافع" تقف وراء اضطرار الرئيس الأميركي على طرح مثل هذه الرؤية متمثلة في كسب ود العرب والمسلمين في السعي لإنشاء تحالف لمحاربة ما تسميه أميركا إرهابا دوليا بدءا بأفغانستان. ولم يكن يخطر في بال أحد أن فلسطين أرضا وشعبا ستكون هي النموذج المصغر المحتذى لهذه الحرب من قبل إسرائيل. أو أنها بعبارة أخرى المرحلة الثانية لها.

عودة إلى الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما الذي يزور المنطقة. إنه في حقيقة الأمر لا يحمل في جعبته أي مشروع لإقامة دولة فلسطينية حقيقية. إلا أن الأغرب من هذا كله أن هذه "الدولة" التي مر أوباما على ذكرها مرور الكرام، لم تحظ بتعريف لها، ولا بتحديد لمعالمها، ولا ذكر لعاصمتها، ولا حدودها، ولا مصير مئات المستوطنات المقامة على أراض اغتصبت من الفلسطينيين أصحابها الشرعيين، ولا مياهها، ولا هوائها، ولا ثرواتها الأخرى.

وانطلاقا من هذا الواقع، فإن هذه الدولة من منظورين أميركي وإسرائيلي لها، إذا ما كتب لها أن تقوم، فإنها دون أدنى شك لا تنطلق من حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967. وهي دون أدنى شك أيضا تستثني حق العودة، وتخرج القدس من معادلتها. وبمعنى آخر وأدق ستكون منقوصة السيادة برا وبحرا وجوا. وعلى الأرجح فإنها تجسد فكرة اللجوء إلى ما يسمى الدولة المؤقتة التي هي أشبه ما تكون بالكنتونات المقطعة الأوصال التي يرفضها الشعب الفلسطيني قلبا وقالبا.

إن ما يدور في فكر الرئيس الأميركي لم يأت مطابقا وترجمة فعلية لما يحدث على أرض الواقع الفلسطيني. إن المشروعات الإستيطانية لم تتوقف لحظة واحدة، بل إن وتيرتها قد تجاوزت كل الأرقام القياسية، وهذه المشروعات هي التي يغض الرئيس أوباما النظر عنها، ويتجاهلها، ظانا أن الفلسطينيين يمكن أن يتجاهلوها. أو أنهم سوف يتجاهلون الإحتلال برمته، وما ينجم عنه من انتهاك لحقوقهم الإنسانية، واجتياحات لمدنهم وقراهم ومخيمات لاجئيهم، واعتقالات لأبنائهم الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية.

السؤال العريض المتعدد الأبعاد الذي يفرض نفسه هنا: ماذا تبقى من الأرض الفلسطينية لإقامة أي شكل من أشكال الدول عليها، وقد صبغت بالمستوطنات بطولها وعرضها؟. هل هي دولة للمستوطنين؟ أم دولة للمواطنين الفلسطينيين الشرعيين؟. كيف تكون دولة حقيقية، وهي مقطعة الأوصال، محاصرة من كل جهاتها بمد إستيطاني، ومئات الحواجز العسكرية، والسواتر الترابية، وكافة أشكال الإغلاقات والمداهمات؟ . وهذا غيض من فيض .

إن الشعب الفلسطيني يعتبر أن إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة على أراضيه هو بمثابة تصحيح لخطأ تاريخي، وخطيئة إنسانية وأخلاقية ارتكبت بحقه يوم اقتلع من وطنه التاريخي، وشتت في المنافي المختلفة، فتقطعت أوصاله السياسية والإجتماعية والثقافية. وأما من بقي منه على أرض الوطن، فقد سامهم آخر احتلال بقي على وجه الأرض كافة أشكال الخسف والعسف والظلم والقمع والقهر والعذاب.

إن الشعب الفلسطيني أيضا ينظر إلى الدولة على أنها حق لا منة من أحد، ويأبى أن تدخل في مزادات سياسات الآخرين، أو أن تكون مجرد كيان ما يحمل مسمى دولة أو مصطلحه. إن الشعب الفلسطيني الذي كانت مأساته جغرافية وديموغرافية يدرك أن هدفه لا ينحصر في مجرد مسمى جغرافي أيا كان. إن الدولة من منظوره، ووفق رؤيته ذات ثلاثة أبعاد لا تنفصل عن بعضها البعض ويكمل الواحد منها الآخر .

 البعد الأول يخص الدولة والعناصر المفترض أن تكونها. وهي في علم الجغرافيا السياسية الأرض ما فوقها وما تحتها وما عليها، والسماء والماء والهواء والحدود والمعابر بكافة أشكالها، مضافا إلى كل ذلك العاصمة وهي قدس التاريخ والعقيدة. وأما البعد الثاني فيخص السيادة المطلقة من قبل أصحابها الشرعيين عليها.

وإذا كان هذان البعدان هما الأساس في قيام أية دولة على وجه البسيطة، فثمة بعد ثالث هو جزء لا يتجزء من البعدين المذكورين. هناك منظومة من الإستحقاقات والحقوق الشرعية تخص فلسطينيي الشتات. وإذا كان خيار السلام العربي، قد قبل بتقاسم الأرض مع الإسرائيليين في فلسطين، فلا يعني هذا بأية حال من الأحوال أن تتقاسم الدول العربية المضيفة للفلسطينيين المهجرين من وطنهم أراضيها معهم. فبلاد الفلسطينيين أولى بهم، وهي أحق. إن الفلسطينيين لا يقبلون أي وطن بديل غير وطنهم الأصلي.

إن الحديث عن إنهاء فوري لاحتلال الأراضي الفلسطينية، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني جراء ممارساته التعسفية من خلال الإجتياحات المتكررة لمدنه وقراه ومخيماته، وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية، مضافا إلى كل ذلك ضمان دولي بعدم تكرار هذه السيناريوهات الإحتلالية بكل مشاهدها الملونة بلون الدم والدمار والخراب، إن الحديث عن هذا وذاك، ينبغي وحده أن يكون فصل المقدمة من كتاب الدولة الفلسطينية حتى تكون الفصول التالية مبنية على أسس عقلانية ونوايا طيبة جادة بعيدة كل البعد عن أجواء الإلهاء والمماطلة والخداع واللف والدوران.

على الصعيد الوطني والقومي معا، فإن الفلسطينيين، يعون دروس التاريخ جيدا، ولا يزالون يتذكرون الوعود المكالة لهم من قبل بريطانيا في مطلع القرن العشرين المنصرم، تشجيعا لهم لمحاربة الدولة العثمانية. والنتيجة كانت اتفاقية سايكس – بيكو 1915 التي أسفرت عن تقسيم بلاد الشام ثم استعمارها، إضافة إلى وعد بلفور 1917 الذي أفرز القضية الفلسطينية بكل أبعادها المأساوية في العام 1948 وما بعده. وهم أيضا يتذكرون وعد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن للجنرال شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه بإخراج حق العودة، واستثناء الكتل الإستيطانية الست الكبرى في الضفة، والقدس من أية تسوية مع الفلسطينيين.

كلمة أخيرة نقولها للرئيس الأميركي أوباما قبل رجوعه إلى البيت الأبيض. إن تعريف الدولة الفلسطينية، إذا ما خلصت النوايا، بسيط للغاية. إنها دولة كبقية الدول السيادية في العالم، لها حدود دولية معترف بها. وهي مستقلة ذات سيادة. لها علمها وعاصمتها "القدس" وشعبها ولها أرضها وسماؤها وهواؤها وماؤها. تبسط سيادتها على كل معابرها البرية والبحرية والجوية.

وإذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما، لم يأت على ذكر الإحتلال، ولم يتوصل إلى تصور تعريف لهذه الدولة، فلكونه وإدارته منحازين قلبا وقالبا إلى إسرائيل. ولكونهما لا يريان إلا ما تراه إسرائيل. ولكونهما غير جادين في أي طرح يخص دولة الفلسطينيين. ولكونهما يراهنان على إضاعة الوقت والتسويف والمماطلة.

أما الشعب الفلسطيني، وهو يستعد لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والستين لنكبته التاريخية التي حلت بأرضه وشعبه عام 1948، والخامسة والأربعين لاحتلال باقي ترابه الوطني عام 1967، ما يزال متمسكا بحقه المشروع، وثوابته الوطنية، لا يفرط بأي منها رغم كل التحديات والصعاب والمحن. وهو قادر على الصمود حتى تحين ساعة خلاصه وتحرره. وإن غدا لناظره قريب.