جناح اللؤلؤ

عبد الحكيم الأنيس

عبد الحكيم الأنيس

أجملُ حديثٍ في الدنيا هو الحديثُ عن الأم.

وما أظنُّ أحداً يعارِض في هذا أبداً.

فالأمُّ زينة الحياة, وسلوة الهموم, ومَفزَع الإنسان كلما نالتْ منه الآلام, واعترضتْ طريقَه المتاعب.

لا يُمكن للرجلِ أَنْ يبكي على صدر زوجته, ولا أَنْ يظهر ضعفَه أمامها, ولكنّه لا يتحرج أنْ يرمي برأسه على صدر أمه, ويبكي ويبثها همَّه, ويُخرج ما في قلبه من شجن حارٍّ, وهمٍّ مقيم, مهما كان عمرُه، ومهما كانتْ منزلته.

ويمرضُ الإنسانُ، وقد يطولُ مرضُه، فيملُّه أقربُ الناس إليه، مِن زوجة وولد، إلا الأم التي حملتْه في أحشائها تسعة أشهر, فإنها تحمُل همَّه مدى الحياة.

عشتُ مغترباً بعيداً عن بلدي أكثرَ العمر, وكنتُ ألتقي بأمِّي في بلاد مختلفة, وسنوات متباعدة, ولا أنسى أبداً أنّني ودعتُها مرة في أحد المطارات وسرتُ لأستقل سيارة إلى البلد الذي أقيم فيه, ولم أكن أدري أنها نسيتْ نفسها فتبعتني - وأنا لا ألتفتُ حتى لا أرى دموعها- ومشتْ حتى تاهتْ وضيعتْ مكانَ انطلاقها.

الأمُّ هي القلب الذي لا يَنبِض بغير الحب, وهي الوفية التي لا تُغيِّرها الأيام, وهي الصديقُ الذي لا يُمكن أنْ يغدر مطلقاً.

جرِّب أنْ تتصل بأمِّك وتشعر في صوتك أثرَ ضعفٍ أو مرضٍ وانظر حتى يكون قلقُها عليك، وانشغالُها بك.

أخبرْها أنّك في ضيقٍ نفسي أو مادي, حسي أو معنوي, وانظرْ كيف تضعُ أمامَك كل ما تملك من الدنيا.

الأمُّ معجزة ربانية تدلنا على عظمة الخالق الذي أوجدَ هذا الكائن، الذي لا يشبهه شيء أبداً.

ويُحدِّثنا التاريخُ أنَّ رجلاً في بغداد ضاقتْ به الدنيا, ونال منه الفقرُ, وأمضَّه الجوعُ فخرج يمشي هائماً على وجهه, وإذا بامرأة من الجيران تناديه وتسألُه: ما بالكَ مغموماً؟ فأخبرها بحاله ، فقالت له: إنَّ أمَّك أودعتْ عندي قبل موتها ثلاث مئة درهم، وقالت: إذا رأيتِ ولدي في شدة فادفعيها إليه.

يا الله تحملُ همَّ ولدِها حتى بعد موتها... وتُسعفُهُ وهي في برزخها.

نعم إنّها الأم: الحبُّ والحنانُ والوفاءُ والإيثارُ والصدقُ والنبلُ والجمالُ والخيرُ والعطاءُ والرجاءُ والغيثُ.

إنّها السماءُ الزاخرة بالأمل الممدود, والأزهارُ الفيّاضة بالعطر الأخّاذ.

وحديثُ الأم في الإسلام صفحة مشرقة, فقد جَعَلَ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أرباع البر, وأخبر أنَّ الجنة عند رجليها:

جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو وقد جئتُ أستشيرك, فقال: هل لك مِن أم؟ قال: نعم, قال: فالزمها فإِنَّ الجنةَ عند رجليها.

وحين نقرأ القرآن نجدُ للأم من التكريم والتعظيم ورفعة الشأن ما يثير العجَبَ, ويبعث على الإعجاب.

انظروا إلى قول الله مخاطباً موسى: (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن). وتأملوا في هذا التعبير... إنَّ قرةَ عينِ الأمِ وعدمَ حزنها إرادةٌ ربانيةٌ عظمى.

ومِن الجميل جداً إذا قرأنا القرآنَ أنْ نتوقف عند الأمهات لنرى بأنفسنا كيف تحدَّث الخالقُ عنهن, وكيف قرَنَ رضاه برضاهن.

ويحدِّثنا الصحابيُّ الجليل معاذ بن جبل أنّ الله كلّم موسى ثلاثة آلاف وخمس مئة كلمة, فكان آخر كلامه: يارب أوصني. قال: أوصيك بأمك. حتى قال له سبع مرات، ثم قال: يا موسى ألا إنَّ رضاها رضاي, وسخطها سخطي.

وأدركَ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة فكانوا في البر رموزاً تتلألأ في سماء العرفان.

قال رجلٌ لعمر بن الخطاب: إنَّ لي أماً بلغ بها الكِبَرُ أنها لا تقضي حاجتها إلا وأنا أحملها على ظهري, فهل أديتُ حقَّها؟

قال: لا, إنها كانت تصنعُ بك ذلك وهي تتمنى بقاءَك, وأنت تصنعه بها, وتتمنى فراقها !

وكان أعرابيٌّ يطوف بالكعبة وهو يقول:

أحمِلُ أمِّي وهي الحمّالة ترضعني الدَّرة والعُلالة

فقال عمرُ: لَأَنْ أكونَ أدركتُ أمِّي فصنعتُ بها ما تصنعُ بأمِّك لكان أحبَّ إليَّ من حُمْر النَّعم.. أحب إلي من النوق الحمر- وهي أعز مال عند العرب-...

وحدَّثني مَنْ حجَّ في الموسم الأخير أنَّ الحجيجَ رأوا رجلاً يحملُ أمَّه على كتفيه ويطوفُ بها فاغرورقت العيونُ بالدموع تأثراً بهذا المشهد الإنساني النبيل...

أيتها الأمُّ يا مُربية الرجال، وصانعة الأبطال.

أيتها الأمُّ يا مضربَ الأمثال، ومفزَع الأجيال.

أيتها الأمُّ يا أُنس الجـمـال، ونـظـرة الـجـلال.

أيتها الأمُّ يا جناحاً ملائكياً ينثر اللؤلؤ في كل رفة من رفّاته.

عيشي مُكللة بأكاليل الغار.

وفسَحَ اللهُ في حياتك، لأنَّ رحيلك أشدُّ مصيبة تنزل على القلوب.

هذا أحمد أمين يقولُ عن أمِّه: "فقدتُها وأنا كبيرٌ ولي زوجة وأولاد, ومع هذا أحسستُ بفقدها فراغاً لم يملأه شيء".

وهذا الشاعر عبد الهادي حرب يقول:

ما عشتُ بعدَكِ إنما أنا ميِّتٌ                        أبكيكِ يا أمّاه حتى نلتقي...