السعودية وأنا ... و«الحياة»

من قرأ في حقبة الحرب العالمية الثانية، فغالباً ما وقف على «انسحاب دنكرك»، الذي نفذه الحلفاء لإنقاذ ما تبقى من قواتهم المحاصرة أمام القنال الإنكليزي، حيث يتهددهم زحف الجيش النازي، فتم إنقاذ ما يزيد على 300 ألف مقاتل عبر السفن والعبّارات وقوارب الصيد، فقيل إنه من أعظم الانسحابات العسكرية في التاريخ.

في الحرب ذاتها شهدت أرض العلمين المصرية معركة كبرى بين قوات الذئب البريطاني مونتغمري، وثعلب الصحراء الألماني روميل، وانتهت بانسحاب الأخير، وفق خطة صنفها القادة العسكريون وخبراء العلوم السياسية بأنها أعظم خطة انسحاب في التاريخ، حتى قيل إن انسحاب روميل كان أعظم من انتصار مونتغمري.

وهكذا لا يعد الانسحاب في المعارك الحربية هزيمة في بعض الأحيان، أما ساحة الآراء والأفكار والتوجهات فيبدو أن الانسحاب منها جد عسير، وأن الكاتب يظل في عين القارئ سجين حروف سطرها قلمه في حقبة ما وفق توافر معطيات وغياب أخرى.

يؤلم الكاتب أن يجد نفسه مضطراً إلى الانسحاب برهة من الشأن العام، ليصول ويجول في شأنه الخاص، لكنه قد يلجأ إلى ذلك لوضع النقاط على الحروف، وحسم نقاط الجدل حوله.

ما إن ارتقيت منبر «&» المرة الأولى حتى فوجئت بسيل من الدعوات لمقاطعة الصحيفة، لا لشيء إلا أنها استضافت قلماً مغضوباً عليه، انتقد يوماً سياسات خارجية صدرت عن حكومتهم.

هؤلاء الذين وضعوني في طاحونة التصنيف لم يتغير موقفهم تجاهي اليوم عن ذي قبل، على رغم التباين الشديد في توجهاتي الفكرية والسياسية، خلال مدى زمني تلاحقت فيه الأحداث في الأمة، تفاعلت معها بتكثيف المطالعة والتعمق وطول التأمل ومد الجسور مع النخب، فاستضاء جانب مظلم في رأسي، وانكشف الغطاء عن معطيات جديدة بنيت عليها توجهاتي الأخيرة.

هوجمت حين سها قلمي وحين يقظته أيضاً! فهي الإخوانية الداعشية عندما سلّت قلمها ببضع كلمات، ربما خرجت من رحم قراءة غاضبة للواقع، وضبابية خلط الأوراق، وجرح ما زلت أستشعر سكاكينه وأوجاعه تنخر عظمي، كلما تذكرت إخوة لي تمت شيطنتهم وتشويههم بمبررات مختلفة.

ثم هي المأجورة عاشقة «الأرز»، عندما انحازت إلى قضايا المملكة باعتبارها جزءاً من قضايا الأمة، وأخذت على عاتقها الدفاع بقلمها المتواضع عنها، وقضت شهوراً تقرأ وتكتب عن عدوها وعدوكم، وتشرفت بزيارة رسمية للحد الجنوبي، تجري اللقاءات مع المرابطين على الثغور، ونقلت إلى الأمة عبر ما تيسر لها من منابر - بشفافية من دون مجاملة أو مداهنة - مشاهداتها في مركز الملك سلمان الإغاثي، ومركز محمد بن نايف للمناصحة، وسجن الحاير بالرياض، إلى حد جعل من هذه الكاتبة هدفاً ومرمى للرشق بالعمالة والمأجورية للسعودية، من قِبل الأضداد.

وحاشا لله أن أسوق ما أسوق في موضع منة، فلست أدافع عن تلك الأرض إلا لأنها قلب الأمة النابض، لكن كما قلت آنفاً: وضع النقاط على الحروف، ليدرك مقالتي من أدركها عن بينة، ويخوض في شرفي المهني من يخوض عن بينة. نعم انتقدت السعودية يوماً ما، ولا ضير في ذلك، فليس هناك فرد ولا دولة تعلو على مستوى النقد، خصوصاً أنه كان مبنياً على ما توافر لديّ من معطيات جاهدت في الوصول إليها بـ«عزف منفرد».

لكنني لا أدري؛ هل فات من هاجمني والصحيفة الوقوف على محطتي الأخيرة، التي ألقيت فيها متاعي الفكري والسياسي؟

عجباً لمن يطالب الكاتب بالعودة والأوبة إلى الصواب، ثم يغلق أمامه الباب ولا يقبل تصويبه حتى "يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ".

أجد نفسي شجاعة في أن غيرتُ مواقفي، ولم ألتفت إلى فزاعة التشغيب عبر عرض عبارات الماضي، فتغيير المواقف وارد، وقد يقع بمنزلة الضرورة، لكن المبادئ لا تتغير، فهل كان الأولى بي أن أقبع في ثبات الأموات؟

يطالعني أرنست هيمنغواي، الذي خطت أنامله رائعة «الشيخ والبحر»، بقوله: «إن الموتى والحمقى هم الذين لا يغيرون آراءهم أبداً».

عندما أقرأ تلك الكلمات، التي أكتبها الآن، أدرك وتدركون أنني في تعداد الأحياء، وقلمي وعقلي أراهما ودَّعا الحماقة منذ زمن، فلست بميتة ولا حمقاء.

فأرجو أن يكون لي من نصيحة الفاروق سهم ونصيب، إذ قال لأبي موسى الأشعري: «ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل».

لو قطعنا الطريق على كل من يصوّب خطأه، حتماً سيخلو خندقنا من الأصدقاء، ولن يبقى لنا إلا التماس الوفاق مع الأعداء.

كنا نقرأ في دراسة كتب الفقه عبارة «قال الشافعي في الجديد» وتارة «في القديم»، فعلمنا أن الإمام له آراء في الفتيا قبل دخوله مصر، عدل عنها بعد دخوله إليها، وهو ما استقر عليه رأيه، فلم أجد من يعيب عليه تبدل آرائه.

خلال قراءتي عن «ثورة 23 تموز (يوليو) المصرية» التي أطاحت بالملك فاروق - بغض النظر عن تقويمها - وجدت أن الشخص الأوحد الذي أجمع المصريون على نزاهته في مجلس قيادة الثورة هو اللواء محمد نجيب، الذي اتخذه عبدالناصر ورفاقه رمزاً للثورة، لثقله وعلو رتبته العسكرية.

وقرأت في المقابل أن اللواء نجيب قدم استقالته إلى الملك قبل ذلك بـ10 سنوات، بعدما حوصر القصر من قبل بريطانيا لإجباره على تشكيل حكومة برئاسة النحاس باشا، وكان سبب الاستقالة شعوره بالخجل أمام مليكه لأنه لم يستطع حمايته، إلا أن القصر رفض الاستقالة وشكره.

لكن اللواء نجيب كان أسعد حظاً، فلم يجد من يرميه بالتناقض وتغيير المبادئ، ولم يقع تحت أضراس القسمة الظالمة التي تحاسب على الماضي وتضرب بالحاضر عرض الحائط، ولا تفرق بين النقد والخيانة.

أرسطو قال قديماً: «النقد أمر نستطيع تفاديه بسهولة، بألّا نقول شيئاً، وألّا نفعل شيئاً، وأن نكون لا شيء»، لكنني انعقد عزمي على الانحياز إلى الحق أينما كان، وسأقول شيئاً، وأفعل أشياء، وأكون ما شاء الله لي أن أكون.

أما وطنكم يا أهل السعودية، فإني أقاسمكم الانتماء إليه ولن أستأذنكم، فإنما كانت تلك الأرض مأوى طفولتي، وفيها حفظت كتاب الله، ولي فيها ذكريات في القلب أُنشبت.

وتباً لمن سخّر مهاراته في التلفيق والتزوير، ليلصق بي تهمة الإساءة إلى من صعدت روحه إلى بارئها، وغفر الله لمن صدقه وهو يعلم حجم التلاعب في عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، من خلال برامج الفوتوشوب وغيرها، وفتح حسابات مستعارة لا تمت للكاتب بصلة.

لديّ من الخطوط الحمراء ما لديّ، فلست أسب ميتاً، أو أنهش عرض امرأة ولو أساءت إليّ، أو أنال من شيخ كبير، فشيئاً من خصومة الفرسان يا قوم. أولى لنا فأولى، ثم أولى لنا فأولى أن يكون الاصطفاف مقصدنا وغايتنا، فلتتسع خنادقنا، وقبلها قلوبنا، الأمر جدٌ وما هو بالهزل، والوقت يضيق ولا مناص من المقاربة واختزال المسافات والتوافق على المشتركات.

وسوم: العدد 694