دمشق الشام

د. أمان الدين محمد حتحات

الشام شامي وإن هُزَّتْ عوارضُها /// والشعب يبني وإن مادت مبانيها

 حين وقف المجد يرسم خطوط أحلامه عبر الزمن جال بناظريه على طول المدى، واحتار في بلاد الشام، أيُّها أكثرُ جمالاً، ولأول مرّة يحار المجد في ملكوت الله، فكلُّ الشام مفخرةٌ تتنافس في الفتنة والبهاء والضياء، هنا سوريَةُ، وهنا فلسطينُ والأردنُّ وهنا لبنانُ، اختزل المجدُ جمال بلاد الشام في دمشق وسمّاها "الشامَ".

 حطّتْ رحالُ المجد فوق أرضِك يا دمشقُ، فشرع يُنزِل أحمالَه وبدأ البناءَ، فلماّ بنى المجدُ قلاعَه وحصونه؛ ليصدَّ بها عواديَ الزمن وهجماتِ المغيرين والغائرين نمّقَ خطوطه الأولى على أعتاب ثوبك يا غاليتي، فانتخب من تاريخ الدنيا حجارةً لك، وأخذ من ملامحِ وجوه الملائكةِ والحَوَاريّين الذين لم أرَهُمْ ملامحَ حوارِيْك وأزقَّتِكِ، فلماّ انتهى من سبكها وحَبكِها عَرَفتِ المعمورةُ أولَ صورة من صور الجنّة التي وَعَد بها الباري خلقَه المخلصين المتعبّدين الصّابِرين الشهداءَ المبشَّريْن بالْجَنّة المُلْتَحِقِيْن بالعَشْرةِ الّذين بَشّرهم سَيّدُ الخَلْق.

 دمشقُ يا شامُ لقد أحبّكِ اللهُ وحماك من الغزاة عبر الدهور، وصان جِيْدَكِ وقَوَامَكِ والثغورَ، لقد كنتِ مهداً للدياناتِ، ومَعْرِجاً للأنبياء وآخرَ مَوْطِئِ قدمٍ للنبيّ العربيّ قبلَ أنْ يُكَلّمَ ربَّه، فكيف لا تغارُ منكِ نساءُ الدنيا ورجالُها الذين حاولوا تسلّق ظهرَك المنتصِبَ وجبينَكِ المرفوعَ فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وكم لَوَوا ذراعَك ومرّغوكِ بالتراب، وضمّخوكِ بالدَّمِ، لكنَّك على الدوام تقفِين من جديد شامخةً مرفوعةَ الرأسِ مرهوبةَ الجانبِ بأبنائِكِ الغُرِّ وأرضِكِ التي خيّرَ اللهُ بها نبيَّهُ محمداً؛ لتكونَ قِنَّسرينُ مكاناً لهجرتِهِ.

 الأنبياءُ كلُّهم وطِئوا أرضَكِ، ومسحوا الحزنَ عن وجهِكِ، واغتسلوا من مائِكِ، وتيمّموا بترابِكِ حتى صرتِ أنموذجاً للعفّةِ والطهرِ والنقاء، وصار أبناؤك سليلي الأنبياءِ والمرسلَيْن، حتّى حجّ إليك الناسُ منْ كلّ فجّ عميقٍ، يَنْشُدُون تفيّؤَ ظِلِّكِ وطِيبَ الإقامةِ في ربوعكِ، فلم تردّي قاصداً، ولم تتبرّمي في وجه محتاجٍ، وتلكَ صفاتُ الأنبياء.

 يا شامُ لمّا تلصّصَ الياسمينُ المتسلقُ سطحَ منزلِكِ لم يقصِدْ بك ضرراً، وما رامَ مفسدةً، إنّما هَدَفَ ابتسامةً يمسحُ بها ضوءَ الكونِ؛ ليكون صباحُ الدنيا أكثرَ إشراقاً؛ لذلك سأغيّرُ يا شامُ خطوطَ الطولِ والعرضِ في العالم؛ لأجعلَ مشرقَ الشمسِ يبدأُ منْ تحتِ قدميْكِ، وطلبِي مُؤيّدٌ من عندِ اللهِ لمّا جعلكِ تغْفِيْنَ على خطّ الطولِ مع مكّةَ المكرّمةِ.

 دمشقُ يا أرجوحةَ الربيعِ، يلهو بها؛ لتتمتّعَ الدنيا بالصفاءِ والبهجةِ والحبورِ، ويا شتاءَ الرابضين على الثغورِ يحمونها إنْ عَبَسَ الزمانُ في وجهِهَا، ويا خريفَ الكونِ الذي يخلعُ ثوبَ الهزيمةِ على الدوام؛ ليتباهى بالنصرِ الموعود، ويا صيفاً يتسابق الناسُ للوقوفِ تحتَ ظلِّكِ إذا ما زُلزِلَتْ الأرضُ زلزالَها.

 كم تربّصتْ بكِ الدوائرُ، وكنتِ مَطْمَعاً للكثيرين، خطَبوا وِدَّك حيناً، وقصدوا سَبْيَك أحياناً، لكنّك كنتِ محميّةً بسياجِ أبنائِكِ، يَصُدّون عنكِ المنايا بصدورٍ مكشوفةٍ، وأيادٍ ممدودةٍ، وجباهٍ مرفوعةٍ، وإنْ بدَتْ عليهم نَزْعاتٌ أو نِزاعاتٌ، فَهُمْ مجمِعون على حمايتِكِ، ومُتَّفِقُون على الذَّوْدِ عنكِ.

 لمّا وقفتِ يا دمشقُ شامخةً تمشّطين شعرَك الذهبيَّ كنتِ تَنْشُدِين إزالةَ أدرانِ الماضي؛ لتعطيَ التاريخَ درساً في الصمود والاستمرار والبقاء، وعندما غسلتِ وجهَك أشرقتِ الشمسُ من جديد أكثرَ بهاءً وضياءً.

 دمشقُ، كنتِ معلِّمةً للبشريةِ على مرّ الدهور، وقفتِ؛ لتلقّني طلبتَكِ الأبجديّةَ حرفاً حرفاً، وأنتِ تُمْسِكِيْن بدفّةِ الدّنيا تقودينها يمنةً ويسرةً أينما، ومتى، وكيفما تشائين، وتُنْعِمِيْن عليهمْ عزّةً ورخاء؛ لتُوصِلِي سفينةَ الحضارةِ إلى برّ الأمان، والاطمئنان.

 إذا ابتسمتِ يا دمشقُ عمّ الحبورُ أنحاءَ السِّماكَيْن، وإذا انتكسْتِ قُلِب ظهرُ المِجَنّ لمنْ يريدُ بكِ سوءاً، بقيتِ طوال حياتِكِ بُوصِلةً يهتدي بها الرَّبابنةُ إنْ عصفتِ الرِّيحُ، وزَمجرَت الأعاصيرُ، لم تكوني قطّ في يوم من الأيام إلاّ منارةً للشعوبِ تمدُّ يدَها للقاصي والدَّاني، ولكلّ مَنْ يَنْشدُ الحريّةَ والخلاصَ؛ لذا كانَ لا بدّ لكِ من دفعِ الثمنِ على الدوام، لكنَّك في كلِّ مِحْنَةٍ تخرجِيْنَ أقوى شكيمةً وأمْضى بلاءً وأصلبَ عوداً، بعد أنْ يلتفّ حولَك أبناؤك على اختلافِ انتماءاتِهم ومشاربِهم.

 دمشقُ يا صاحبةَ القلبِ الكبير يا طيبةَ السَّرِيرةِ، يا رائعةَ المَخْبَرِ والمَنْظَر، تَحْضُنِيْنَ الجميعَ مهما علَتْ أصواتُهم، وبُحّت حناجرُهُمْ، وأنتِ تُدركِين أنّهم أبناءُ هذا الوطنِ، ورجالُه، وهم يقفون حولَكِ إذا دَعَاهم خَطْبٌ ألَمّ بكِ، لا يَخذِلُونَك ـ واللهِ ـ لأنَّهم رضَعوا حليبَكِ صافياً، فالوفاءُ سوريٌّ والإخلاصُ سوريٌّ والشهامةُ سوريّةٌ يا أبناءَ الشَّام.

وسوم: العدد 721