أين يبيعون الحياء؟

إذا سألت عن معنى الحياء فلن تجد صعوبة في تحديد المقصود به، هو في صورته القريبة والمبسطة؛ يعني عدم المجاهرة بما يعيب أو يستنكره الناس والأعراف والتقاليد فضلا عن الدين والأخلاق. وكان الحياء مقياسا للجمال. وقد شاع المثل المعروف قديما: اللي اختشوا ماتوا! أي إن من يستحون ماتوا بسبب الحياء. يروى أن حماما للسيدات شبّت فيه النار، وصارت حياة من بداخله مهددة بالحرق، فخرج فريق من النساء عرايا، ولم يبال بظهوره عاريا أمام الناس، أما الفريق الآخر الذي استحى من رؤية الناس لعورته فبقي حتى أكلته النار دون أن تأكله العيون!

ظلت فضيلة الحياء سائدة في المجتمع المصري حتى تبدلت الأحوال، وانتشرت الأفكار المادية التي تناغي البطن دون الروح، فصار البحث عن المال والشهرة والسلطة والمتعة الحرام دون قيود أو شروط من الأمور المشروعة التي تستبيح كل القيم وفي مقدمتها الحياء. لا بأس عند كثير من الناس أن يجاهروا بكل ما هو معيب وشائه وقبيح من أجل المصلحة المادية. وصار الكذب والنفاق والتدليس والتضليل جهارا نهارا مسائل لا تثير الغضب أو السخط أو الاحتجاج، فأصحاب الحياء صاروا قلة قليلة لا تملك تأثيرا أو ردعا في الأغلبية المتبجحة الصفيقة!

أشعل التوجه نحو البجاحة مناخا عاما صنعه الحكم العسكري منذ انقلاب 1952، حيث تم تقسيم الشعب إلى قسمين: ثوريين ورجعيين. الثوريون من يعتنقون فكر المادة، والرجعيون من يؤمنون بالإسلام، واستطاع فريق الثورة المادي أن يجند الإعلام والصحافة والتعليم والثقافة والفنون المختلفة مثل السينما والمسرح والدراما والأدب للتخلص مما سموه المواريث الرجعية أي الإسلام، وفي مرحلة لا حقة شيطنوا الإسلام والمسلمين، وجعلوا ما يأتي من الغرب ولو كان يمثل الجانب الفاسد لديه هو النموذج والقدوة، وهنا سقط فيما سقط الحياء!

كان في طليعة العناصر التي جندتها سلطة الحكم العسكري من يسمون بأهل الفن من الطبالين والزمارين والعوالم والغوازي وأشباههم، وهم في الحقيقة- إلا قليلا- أهل الهلس الذين لم ينتجوا طوال عقود إلا الغثاء الذي يخجل منه أهل الفطرة البدائية ولا أقول الأديان وأصحاب التحضر.

في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". كما ورد في الحديث الشريف: "إن لكل دين خُلقًا، وخُلُقُ الإسلام الحياء". وفي الحديث كذلك: "الحياء والإيمان قرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر". وورد عنه صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".

هذه النصوص وأمثالها لا تلقى أذنا واعية في دست الحكم العسكري الفاشي، بل تلقى مقاومة عنيفة في وسائل التثقيف والترفيه جميعا! انظر مثلا إلى فيلم ما وتأمل طبيعة الشخصيات والعلاقات والأفكار واللغة؛ تجد مجتمعا مختلفا عن المجتمع المسلم. إنه مجتمع الغاية تبرر الوسيلة، البطل يحتسي الخمر مثلما نتناول الشاي، وللخمر ركن مخصوص في البيت اسمه البار، وكأن بيوت المصريين كلها مصممه على أن يكون فيها هذا الركن، وعندما يفشل البطل في حبه أو يخيب في عمله يتوجه على الفور إلى خمارات شارع الهرم أو غيره ويحتسي ما يشاء لينسى. وأضحي عاديا أن تجد علاقات مفتوحة بين الجنسين، وأن تقوم الفتاة بمبادأة الفتى، وأن تجد شخصيات الفيلم جميعا لا تعرف شيئا اسمه الله أو النبي أو الصلاة أو الزكاة أو.. أما الشخص الممثل لصورة الإسلام، فهو قبيح الشكل والسلوك، فصامي الفكر والعمل، متخلف وغبي...

في أيامنا خرجت البجاحة والصفاقة من المجال الفني أو بالأحرى مجال الهلس إلى الواقع لتحقق ما يسمى اللهو العلني الذي يشغل الشعب عن آلامه ومعاناته في الطعام  والشراب والكهرباء والمياه والغاز والخبز والحرية والكرامة والأمل..

نشرت على الناس صورة إحداهن في قميص النوم حيث يبرز منه عضو حساس،  وتعيش صاحبته سمادير الخمر. تعامل قادة الفكر والثقافة المستنيرين في زماننا مع الموضوع بكل أريحية، ومنهم من التمس للمذكورة الأعذار والأسباب.. وفي الوقت ذاته تحتفي بها صحف النظام الانقلابي العسكري، وترصد إطلالاتها وملابسها وتقدمها بوصفها  ثروة قيمة فيما يسمونه القوة الناعمة! أخرى تؤدي كلاما اسمه (عندي ظروف) ينضح بالإيحاءات الجنسية الفجة، وتقول لمخرجها : مزيدا من العري لأشتهر وأكون نجمة! ثالثة تفعل مثل السابقة وتؤدي ما هو أقبح، وتزعم أنها لم تكن تدري أن ما تفعله فيه خروج أو شطط.. ورابعة تقيم علاقة سرية مع آخر وتدعي أنها زواج عرفي، و...

في الأحياء الشعبية تنتشر ظاهرة تسمى أغاني المهرجان، ويتجلى صداها في كاسيتات التوك توك.. سألت عنها فقيل لي: إنها أسوأ مظاهر الانحطاط، حيث يقوم المؤدي بأداء كلام مبتذل يتناول الجنس والحشيش والخمر، وتسانده في العادة راقصة شبه عارية تردد كلاما وتؤدي حركات لا تجري  إلا في غرف النوم، ويحدث ذلك على مرأى ومسمع من جمهور يحتسي المسكرات ويتناول المخدرات وتمتد أمامه الشيشة في مشهد كريه! وامتد الأمر إلى التسول حيث صار طلب "الحسنة" واجبا أو إتاوة لا بد من الوفاء بها للسادة المتسولين!

قد يسقط بعض هؤلاء بفعل القانون، وينال شيئا من العقوبة، ويخرج بعدها، ولكنه لا يتوب، لأن المناخ العام يحرض على إحياء البجاحة وقتل الحياء.. في قريتي يأتي متسول يركب عربة يجرها حمار، وقد وضع ساقه في جبيرة من الجبس مصطنعة، وينادي بميكروفون كي يعطيه الناس، فيجمع العشرات من الجنيهات، وأكياس القمح والأرز والذرة، وعندما يفرغ في آخر النهار ينطلق إلى الطريق الخالي فيفك الجبيرة المزيفة، ويقهقه مع سائقه، ويبدأ في عد الحصيلة اليومية! أين هو من المتسول القديم الذي كان يستحي، ويغلف حياءه بالدعوات لمن يطلب منه؟

هناك رأي للدكتور عبد الوهاب المسيري- رحمه الله-  يتناول فيه بعض ظواهر الهلس التي خيمت على ثقافتنا المعاصرة، ويشير إلى أن من يؤدون ما يسمى بالأغاني يقدمون أنفسهم بوصفهم مفعولا به لا فاعلا، وشيئا يتمتع به الإنسان، وهذا الشيء يختزل في عالم الجسد فقط. وهذا كان أحد اعتراضاته الأساسية على الأغاني المصورة، ولذلك طالب جماعات الدفاع عن حقوق المرأة بالاحتجاج لأنه امتهان للمرأة، ولأنه يخاطب غرائز الشباب.

والسؤال الذي يتردد الآن على ألسنة الطيبين في المجتمع : أين يبيعون الحياء؟

إنهم يريدون توزيعه على من تبجحوا إلى حد الصفاقة، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم! ثم ينوح المستنيرون على عدم الانتماء، ويدينون الشباب، وهم الذين علموه أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الخوف من الله رجعية، ومراعاة الآداب العامة تزمت وتشدد وتطرف؟ لا ريب أن الصراع بين قيم الحياء وممارسات البجاحة سينتهي في يوم ما لصالح الفطرة الإنسانية النقية، وذلك بزوال عناصر البغي والطغيان والبؤس الإنساني!

الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 754