علاقات المسلمين بالفرنجة أيام الحروب الصليبية من خلال رحلة ابن جبير..

أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني المعروف باسم ابن جبير الأندلسي، ولد في بلنسية بالأندلس عام 540ﻫ/1145م، وهو جغرافي، رحالة، كاتب وشاعر. توفي عام 614ﻫ/1217م.

 سافر من غرناطة إلى تونس ومنها إلى مصر. كما زار جدة والحرم المكي والمدينة المنورة، ثم رحل إلى العراق، وقدم من الموصل إلى حلب الشهباء، ووصل إلى دمشق الفيحاء فالبانياس، ثم عكا التي كانت تحت الحكم الصيليبي، ومنها قفل راجعًا بالسفينة إلى تونس الخضراء.

لقد سجل وقائع ما شاهده، بشكل مذكرات يومية، عن كل بلد ومشهد مر به باليوم والشهر والسنة، وكانت سجلاته على أوراق قام بجمعها أحد تلامذته وأسماها :" تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، وعرفها المستشرقون برحلة ابن جبير الأندلسي.

في الطريق إلى عكا وبلاد الفرنجة:

في عام 579ه/1183م خرج ابن جبير من دمشق متوجهًا إلى داريا، وكان صلاح الدين قد استولى على حصن الكرك وطرد الصليبيين منه، ورغم ذلك بقيت العلاقات التجارية بين المسلمين والفرنجة جيدة وعن ذلك يقول ابن جبير: "ولحق السلطان صلاح الدين بدمشق يوم السبت بعدنا، وأعلمنا أنه يُجمّ عسكره قليلاً ويعود إلى الحصن المذكور، فالله يعينه ويفتح عليه بعزته وقدرته. وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين. وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة. فكان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية، وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف. ثم رحلنا منها صبيحة يوم الجمعة بعده إلى قرية تعرف ببيت جن، وهي بين جبال. ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت إلى مدينة بانياس، واعترضنا في نفس الطريق شجرة بلوط عظيمة الحرم متسعة التدويح. أُعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان، فسألنا عن ذلك، فقيل لنا: هي حد بين الأمن والخوف في هذه الطريق لحرامية الإفرنج، وهم الحواسة والقطاع، من أخذوه وراءها إلى جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أُسر، ومن أُخذ دونها إلى جهة بلاد الإفرنج بقدر ذلك، أطلق سبيله، لهم في ذلك عهد يوفون به، وهو من أظرف الإرتباطات الإفرنجية وأغربها".(ص 275)

التجارة في زمن الحرب والفتنة:

استمرت التجارة بين المسلمين في مصر والشام والفرنجة في فلسطين دون انقطاع رغم الحروب القائمة بينهم، ورغم الحروب الداخلية بين الأمراء المسلمين، وكان ذلك يجري نظير دفع التجار مكوسًا(ضرائب) على بضائعهم.

وعن ذلك يقول ابن جبير: " من أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم.

واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكا كذلك، وتجار النصارى أيضًا لا يُمنع أحدٌ منهم ولا يُعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الآمنة على غاية. وتجار النصارى أيضًا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب، هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا يعترض الرعايا ولا التجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلمًا، أو حربًا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه". (ص 260-261)

حالة المسلمين الاقتصادية في ظل حكم الفرنجة أفضل من حال إخوانهم في ظل السلطان المسلم:

يقول ابن جبير: " ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الإثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة(المحصول) عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط، ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضًا. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه أخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمّالهم(ولاتهم)، لأنهم على ضد، وهذه من الفظائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، أحوالهم من الترفيه والرفق ويحمد سيرة ضده وعدوه الملك له من الإفرنج، ويأنس بعدله، فالله المشتكى من هذه الحال. وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء.

فنزلنا يوم الإثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة، على مقدار فرسخ، ورئيسها الناظر فيها من المسلمين مقدم من جهة الإفرنج على من فيها من عمّارها من المسلمين. فأضاف جميع أهل القافلة حفيلة أحضرهم صغيرًا وكبيرًا في غرفة متسعة بمنزله، وأنالهم ألوانًا من الطعام قدّمها لهم، فعمّهم بتكرمه، وكنا فيمن حضر هذه الدعوة".(ص 273-275).

كتبة الصليبيين يكتبون بالعربية ويتكلمون بها:

في فترة الحروب الصليبية كانت اللغة العربية لغة التخاطب بين الناس واللغة السائدة في المؤسسات الرسمية الإفرنجية (الدواوين). وعن ذلك يقول ابن جبير: " وبتنا تلك الليلة، وصبّحنا يوم الثلاثاء العاشر من الشهر المذكور، وهو الثامن عشر لسبتمبر، مدينة عكة، دمّرها الله، وحُملنا إلى الديوان، وهو خان معدّ لنزول القافلة، وأمام بابه مصاطب مفروشة، فيها كُتّاب الديوان من النصارى بمحابر الأبنوس المذهب الحلي، وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له يُعرف بالصاحب، لقب وقع عليه لمكاننه من الخطة، وهم يُعرّفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند. وكل ما يجبى عندهم راجع إلى الضمان، وضمان هذا الديوان بمال عظيم. فأنزل التجار رحالهم به ونزلوا في أعلاه، وطُلِبَ رحل من لا سلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبوءة فيه، وأُطلق سبيله فأنزل حيث شاء. وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولا حمل. فنزلنا بها في بيت أكتريناه من نصرانية بإزاء البحر، وسألنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة" . (ص 275-276)

وسوم: العدد 755