قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص (6)

لستر زليخة  فضيحتها والمحافظة على  كرامتها  وكبريائها 

وهبتها ، وحتى لا تسقط  في أعين خدم وعبيد القصر  وتهان ، وحتى توقف وتحد من  القيل والقال ، وتقطع الألسن ، التي تلوك عرضها ، اختارت  زليخة وسيدها  سجن  يوسف عليه السلام  إلى حين ،  إلى أن تنسى الفضيحة ، ويهدأ القيل والقال ، وينصرف النظر إلى السجن ، عوض زليخة  والقصر . [ ثم بدا لهم من بعد ما  رأوا الآيات ليسجننه  حتى حين ] ( يوسف آية  35 ) .

 كان الأحرى أن تعتذر زليخة  ليوسف وتنهي المشكل  وتسيطر على الوضع فيسكت الناس عن القيل والقال وتخرس الألسن ،  وتهدأ النفوس . ولا سيما وأنهم كانوا على يقين  ببراءة  يوسف ، لقوة الحجة ودليل القميص القاطع  الفاصل بين الحق والباطل .  ولكن النفس البشرية عنيدة  في  مثل هذه المواقف  ، تميل إلى الكبر ، ويعز عليها الاعتراف بالخطيئة  والتوبة والرجوع إلى الحق .

قضي الأمر ، ونفذ الحكم ظلما وعدوانا ، ودخل السجن مع يوسف فتيان ، علم السجينان ، بأن ليوسف علم  التأويل ، وله مقدرة على تعبير الرؤيا ، فأحسنا به الضن  وتوسما فيه الصلاح والخير ، فقص كل  منهما رؤياه عليه  ، ولا يهم ، إن كانا  قد رأيا بالفعل الرؤية  في المنام ، أم أنهما اختلقا القصة ونسجاها من  محظ الخيال فقط  ، أم هي من أحلام اليقظة .  المهم أن يوسف عليه السلام  ، فسر لهما الحلم ، وأكد لهما أنه قادر على التأويل والتعبير للأحلام وأنه يستطيع أن ينبئ الرائي  للحلم بما سيأتيه في المستقبل ولم ينسب ذلك لنفسه  أو لسر عنده ، بل رد تلك المقدرة وذلك العلم  وتلك الموهبة ، لربه الذي علمه  علم التأويل ،  والعبرة هنا ، أن يوسف عليه السلام ،  قبل أن يفسر للسجينين  الرؤية  ، عرفهما على نفسه وأطلعهما على شخصيته  ودينه  وبأنه مؤمن بالله  ، وبالبعث واليوم الآخر ، وأنه ليس على ملة قوم السجينين  الكافر ، الذي لا يؤمن باليوم الآخر ولا بالبعث . بل هو من أتباع  ديانة  آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب المؤمنين الموحدين ، الذين لا يشركون بالله من شيء وذلك بفضل الله وتوفيقه .

 بعد هذا التمهيد بدأ يوسف عليه السلام دعوة السجينين  إلى التوحيد ، إذ طرح  عليهما سؤالا استنكاريا  ،  ليثير انتباههما ويشدهما إلى أهمية الموضوع ، ويحفزهما  ويزرع فيهما   حب معرفة الدين  الجديد ،  الذي بشرهما به  ،  فيقبلان عليه بتلهف ، وفي نفس الوقت  صحح لهما عقيدتهما  وبين لهما  ، أن الدين  الحقيقي هو دين التوحيد ، الذي يجب أن  يتبعانه  ويتشبثان به ،  لأن  ما يعبدونه من دون الله ، هو مجرد أسماء  اختلقها  الآباء ، واتبعها الأبناء ، ما أنزل الله بها من  سلطان ، وأن الحكم لله وحده ، هو الذي أمر بالدين القيم  ، الذي لا يجعل مع الله إلها آخر ولا يشرك به شيئا . [  ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تاكل الطير منه نبئنا بتاويله إنا نراك من المحسنين قال لا ياتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتاويله قبل  أن ياتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يومنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان  لنا أن نشرك بالله ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون  يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما  فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتاكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ] ( يوسف من آية 36 إلى 42 ) .

إن يوسف عليه السلام  ، لم يبادر بتعبير الرؤيا ، بل أجل التعبير ، وبادر بالدعوة إلى الله ، وإلى نشر ثقافة التوحيد  وتصحيح العقيدة  ، وهذا أسلوب  ناجع  في التبشير وفي نشر الدعوة بين الناس ، على الدعاة  اليوم اتباعه  ونهجه ، فيوسف عليه السلام أشرك السجينين  في الحوار حول موضوع الدعوة  ولم يكتف بالإملاء والتنظير  وعرض وجهة نظره ،  التي آمن بها ،  بل  أقحمهما في نقاش الموضوع  ليشعرهما ، أن  أمر  الاستجابة للدعوة يعود إليهما  وهما اللذان سيقرران إن شاءوا  آمنوا وإن شاءوا ضلوا على كفرهم وليس مفروضا عليهما وأنهما قادران ، إن هما استعملا العقل والمنطق وتخليا عن تقليد الآباء والأجداد ، الوصول إلى حقيقة الدين الصحيح ، الذي فطر الله الناس عليها ، وأن لهما الحرية الكاملة في اختيار الدين الذي عرض عليهما بعد إعطائهما فرصة استعمال عقلهما  وشاركهما الحوار  [  يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ] ( يوسف 39 )  ولك أن تتخيل الحوار الذي جرى بين يوسف عليه السلام مع السجينين والنتائج  التي توصلوا إليها . وهذه هي المنهجية السليمة والصحيحة التي يتبعها  الإسلام في كل زمان وهي  أسلوب يعتمد  الدليل والإقناع ويرفض الإكراه  [  لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ]  ( البقرة آية 256 )  .

في سورة يوسف نلاحظ تكرار الرؤيا ، فمرة  رؤية  يوسف [ إني رأيت  أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ]  ( يوسف آية 4 ) ومرة  رؤية  السجينين [ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تاكل الطير منه نبأنا  بتاويله إنا نراك من المحسنين ] ( يوسف آية 36 ) وثالثة رؤية الملك  [ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ  أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ] ( يوسف آية 43 ) . إن الرؤية الصادقة ، أو الصالحة ، هي أيضا من الظواهر الطبيعية  والنفسية ، التي تتكرر عبر العصور ،  يراها العبد الصالح  وكذا العبد  الطالح ، وهي من المبشرات ،  لأنها  تكون من الله بدليل رؤية يوسف ، الذي كان من الصالحين وكان ربه يتعهده لينتخبه نبيا للمستقبل، ورؤية السجينين والملك ، الذين كانوا من قوم لا يرضى دينهم  ولا عقيدتهم ومع ذلك كانت  رؤياهم  هم الآخرون صادقة . إلا أن الفرق بين يوسف والملك والسجينان  ، هو علم التأويل الذي أوتيه يوسف عليه السلام  [ قال لا ياتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتاويله قبل أن ياتيكما ذلك مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يومنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون   ] ( يوسف  آية 37 )   وحرم هذا العلم منه  الملك والسجينان ، لأنهم كانوا من قوم لا يؤمنون بالله وبالآخرة  ، فهم كافرون  ، وعلم الله لا يؤتى لكافر ولا لعصاة . إن علم تعبير الرؤى  خاص بالأنبياء  وبأولياء الله الصالحين  ، أما غيرهم ممن يزعمون  ويدعون علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا ، إن كان يشك في صلاحهم وعقيدتهم ، فما هم  إلا كذابون ومشعوذون ودجالون  ونصابون  ، يأكلون أموال الناس بالباطل  ولا يحلون لهم المشاكل ولا يصدقونهم  خبر ما يأتيهم  وما ينتظرهم في المستقبل ،  بل لا يستطيعون حتى تفهم  القضايا الحاضرة ، التي تشغلهم ، وحل مشاكلهم الخاصة التي يتخبطون فيها يوميا ، على عكس  ، الذي  عنده  علم التأويل فهو يملك من  القدرة  ما يمكنه من  تدبير وإدارة حل مشاكل الناس والمجتمع بصفة عامة  الشيء الكثير  في وقت وجيز ، وله أيضا  المعرفة الكافية لمعالجة الأزمات الحاضرة والطارئة  والمستقبلية ، فهذا يوسف عليه السلام أنجى أهل مصر من القحط ومن المجاعة  ، التي كانت ستصيبهم حتما ،  أو كانت  شبه حتمية عن طريق ما يمكن أن نسميه بالتعبير المعاصر بعلم المستقبليات وكذا  بنهج علم التخطيط  الاقتصادي ، الذي طبقه على الواقع لمدة سبع سنوات ، والذي يمكن أن نسميه  بالتصميم  أو التخطيط السباعي ، مع العلم أن المجتمعات والبشرية بصفة عامة  المعاصرة ليوسف عليه السلام ، لم تكن تدري ولا علم  لها مطلقا ، عن ما يعرف اليوم بالمخططات الاقتصادية ، التي تعتمد غالبا في مجال الإصلاحات الاقتصادية . وعلى الإنسانية  أن تنتظر العصر المعاصر لكي  يظهر عندها  ما يسمى بالمخطط الاقتصادي الثلاثي والخماسي ،  أما المخطط الاقتصادي السباعي   

وسوم: العدد 798