عابر في الماضي

 "عابر في الماضي" مشروع لرواية ملفتة للنظر، ومنذ العنوان: "عابر في الماضي" يعطينا الكاتب محـمد الرفاعي فكرة أولية أن الحديث سيكون عن شخص ما عبر في الماضي وأتجه للمستقبل منه، وليس عن عملية عبور في الماضي والبقاء فيه وإلا لتغير العنوان إلى: "العبور في الماضي"، وحين الانتقال من العنوان إلى الإهداء نجد أن هناك ما يكرس فكرة العنوان في الذهن، فالإهداء عبارة عن فقرات لقول قالته أنثى ما إلى الكاتب، وكان ذلك "ذات شتاء عابر"، مما يؤكد الفكرة التي خامرت ذهني بمجرد الاطلاع على العنوان ومن ثم على الإهداء. 

   وبما أن الرواية أو العمل الإبداعي بشكل عام يحمل بعض من ملامح شخصية الكاتب أو بعض من تجربته، يشدنا العنوان مع الإهداء أننا بصدد الاطلاع على تجربة ما للكاتب، عكست نفسها بشكل أو آخر، فتحولت لفكرة الرواية، أو هي الرواية بحد ذاتها. 

   في الجزء الأول من الرواية وبمجرد البدء، يلجأ الكاتب إلى أسلوب استدراج الذاكرة، فهو يتحدث عن الماضي، وصيغة الفعل الماضي في هذا الفصل واضحة تماماً، فهو يستخدم هذه الأفعال منذ البدء، فيقول مثلاً وليس على سبيل الحصر: أنهيت، فكرت، رتبت، أضافت، فتحت.. وغيرها من أفعال الماضي، ويشير لذلك بوضوح بعبارات مثل: مطر على ذاكرة المكان، ويشير بوضوح إلى قصة حب تعود للماضي لامرأة تزوجت ورحلت "سنوات أضعتها في حب وزمن لا يعرفان الرحمة"، ويضيف الكاتب لاستدراج الحدث من الذاكرة، استدراج العديد من الكتابات لكتاب آخرين واستخدامها في سياق الفكرة وللتأكيد عليها، فهو يستعيد عبارات للشاعر محـمد الماغوط، رواية الفراشة لهنري شاريير، أدونيس، محمود درويش، ناظم حكمت، عبد الرحمن منيف، ارخنغلسكي، أرسطو، عبد اللطيف عقل، رسول حمزتوف..الخ، ويجعلها في سياق يخدم هدف الرواية. 

   الماضي والارتباط به محور أساسي في الرواية، فالكاتب في حواره من خلال شخصية زياد بدروي مع صديقه عماد القيس، عبر الرسائل المكتوبة والمنصوص عليها يؤكد على ذاكرة المكان، وارتباط هذه الذاكرة بذاكرة إنسان المكان، ولا يعتبر الابتعاد عن المكان حلاً للخلاص من الماضي "الابتعاد يزيدنا شوقاً لعناقه والذوب فيه"، فالماضي يشكل في شخصية زياد بدوري محوراً هاماً في تركيبته النفسية وظروفه، فهو الوحيد "أنا والليل وثالثنا سهر، وثلاثتنا لا أهل له"، ويرفض أن يجلس في مقاهي الثرثرة الفكرية وترهل الحالة الثقافية، يلتجئ للموسيقى والأغنيات، يلتجئ للحبر والورق والحلم، "أشتاق للأهل، للأصدقاء، التفت حولي، أين هم؟"، يخاطب الزمان: "ألا انصرف أيها الزمن، فأنا وإياك خطان لا يتساويان لا نلتقي"، ويلتجئ لدفتره وفيه يكتب. 

   يلتجئ الكاتب إلى تقسيم كل جزء من الكتاب إلى عدة فصول، ويبدأ الفصل عنده بالانتقال من نهاية سردية وحدث، فينتقل إلى سردية وحدث آخر تشكل فصلاً جديداً من الجزء الذي بدأه، دون الإشارة المكتوبة أو المرقمة لهذا الانتقال، تاركاً للقارئ أن يشعر بذلك بنفسه من خلال ترابط الحدث وإن تغيرت الصورة والمكان، فنلمس ذلك بوضوح في الانتقال مثلا من الفصل الأول للثاني من الجزء الأول، فرغم اختلاف المكان والحدث، إلا أن الذاكرة واستعادتها تظل تلعب دورها بقوة، وتمثل القاعدة التي ينتقل منها الكاتب لفصل جديد بدون أن يشعر القارئ بعملية قطع أو بتر في تسلسل الحدث في الرواية.  

   من الماضي وبأسلوب سلس ينتقل الكاتب إلى الحاضر فيعطي للرواية حبكتها وعقدتها، فهو ينقلنا من تداعيات الذاكرة إلى الحاضر وعمله الصحفي من خلال العديد من الشخوص، وكل من هذه الشخوص يمثل حالة وشخصية، فالشاعر نيسان في مناقشته يطرح فكراً وتحليلاً طبقياً يركز على دور الإنسان، مما يستدعي حواراً له علاقة بالثورات والفقر والكادحين، يبحر في أعماق الشخوص، ينتمي للأرض ويعتبر الإنسان سنابل محنية لأنها تحمل البذور، فكأنه ناظم حكمت الشاعر اليساري الذي دفع عمره ثمناً لأفكاره. 

   ومن هنا نجد أن الكاتب لجأ لسعة اطلاعه على الأدب والشعر والفلسفة، بعكسها على شخوص روايته، فكل منها يمثل حالة مختلفة، تتجمع في النهاية بصور إنسانية عديدة، تمثل الإنسان بأفكاره المختلفة، مما يجعل الرواية تحمل هدفاً فكرياً وهدفاً إنسانياً، فمن شخصية زياد البدوري بطل الرواية وشخصيته الأساسية، مروراً بصديقه عماد القيس فالجميلة المجهولة وصولاً للموسيقي أبو المهند حتى شخصية الشاعر والفنان نيسان، وأيضا شخصية المدرس حسن عرفان، ومن خلال شخوصه هذه يلجأ الكاتب وعلى ألسنتهم لإيصال أفكار يحملها، فيقول على لسان زياد: " نحن المهابيل الذين يدركون الحياة ولا يدركون كيف يمكن أن تعاش"، ويقول على لسان أبي المهند: "الموسيقى تخترق جدار صمتنا السميك وتذوبه"، وعلى لسان نيسان: "هذه الثورات أو غالبيتها إلى ماذا انتهت؟ أما طغمة عسكرية، وإما ديكتاتورية، وإما إلى الفشل"، ويقول على لسان المدرس حسن: "لو كنت أعلم أن مهنة المعلم ستصل إلى هذه الدرجة من التدني لما تعلمت أبداً"، وهكذا تتكرر عبارات تحمل أفكاراً وحكمة على ألسنة شخوص الرواية، لو جمعت على شكل عبارات منفردة لكانت فلسفة خاصة في الحياة وجماليتها. 

   وهنا لا بد من أشير أن الكاتب استخدم عبارات وضعت بين أقواس وهي كلمات وردت على لسان المدرس، فخرج المعلم من طور المعلم إلى طور القرف من الواقع الذي وصلت إليه رسالة المعلم، فاستخدم ألفاظاً لا تليق بمعلم، وهي كلمات عامية متدنية المستوى، وفي نفس الوقت أصبح الصحفي زياد هو من يوجه المعلم لكيفية السلوك لنيل الحقوق، وفي هذا استبدال غريب ومقصود لدور المعلم الذي كان يمثل المحرك في المجتمع، فتحول لمن يوجهه ويمنحه النصيحة ويعلمه أسلوب الثورة على الواقع. 

   في الرواية وبأسلوب سلس ينقلنا الكاتب إلى حكايات شخوص روايته، فكل شخص فيهم يحمل قصة، وكل قصة فيها حكايات بين الألم والدموع، فأبو مهند سجين سياسي سابق دفع ثمناً باهظاً، ونيسان شاعر لا يجد أي اهتمام ببلده فيفكر بالهجرة، وزياد العاشق الذي فقد حب الطفولة وفعل به الزمن فعله من تركه وحيداً، يحلم بحب جديد يجعله يجتاز شتاءه العابر، فيلتجئ للكتابة والحلم حتى يظهر حبه القديم فيشكل له مأساة جديدة، والمدرس حسن عرفان الذي ترك التعليم وذهب للترجمة، رنيم التي تزوجت وهاجرت وعانت من زوج أناني لا يقيم للحياة الزوجية أي اعتبار، ولكن المشاعر والرغبة تشتعل في جسدها، نيسان الشاعر والفنان المتمرد الذي عانى من والده المتشدد في مفهوم الدين فطرده صغيراً من البيت، يتعب على نفسه حتى يصبح رجلاً، عاشق بصمت لإمرأة لم يصارحها ولكنها وحي لفنه وشعره، ينتمي للأرض والوطن حتى الجذور، نسرين الفنانة التشكيلية التي بقيت ذاكرتها مرتبطة بالطفولة والمكان والآخر وتحلم بالغائب والغد، رأفت الذي ترك القرية طفلا مع والده ولكنه عاد لجذوره بعد وفاة والده الذي هاجر. 

   زياد بطل الرواية ومحورها الأساس كان المدار للكاتب للحديث عنه وعن معاندة القدر له خلال أجزاء الرواية وفصولها، فالقدر لم يتوقف عن العبث معه عبر حياته منذ الطفولة حتى أصبح الشخصية الرئيسة في الرواية، ومن هنا يمكنني القول أن الكاتب تمكن من إجادة استخدام المفاجئة في الحدث في روايته، فحين تكون الرواية في اتجاه ما، نجد المفاجئة تأتي من اتجاه غير محسوب أبداً، وهذه ميزة تسجل لحساب الكاتب وقدراته. 

   الهم الوطني لم يفارق الكاتب في روايته، لكنه ابتعد عن أسلوب الخطابة والشعارات، لجأ إلى استخدام عبارات دخلت في الأحداث بدون الإشارة المباشرة للوطن، لكنها عبارات حملت معنى وأفكار وخدمت الفكر والوطن، فهو يخاطب أثينا في زيارة لها بقوله: " أنت يا أثينا أريد أن أقبل التراب الذي مشى عليه سقراط، ليس لأنه سقراط بل لأنه من تجرع السم وبكل شجاعة لإيمانه فيما يقول"، ثم يقول بعد مسافة من الكتابة: "بلدي هي الأخرى تضاء بشموع الراحلين والقادمين بعنف البقاء على الأرض، على التراب الذي تخضب بعرق الأجداد، بلادي هي الأخرى كان فيها مليون سقراط"، وفي قسم آخر يخاطب الوطن في نفسه بالقول: "آه يا بلادي رغم الأمل المفقود في واقعنا المتردي لكن تبقى الشموع تضيء حلكة السراديب التي تحاول أن تتطاول على ذاكرة الوطن"، ويرفض الهزيمة تحت شعار التفاوض ويقول على لسان الشاعر نيسان: "الشعوب التي تحترم نفسها ترفض أن تصافح يد قاتل أطفالها"، وعلى لسان الشاعر أمام مخابرات بلاده يقول: "الغير لا يريدوننا أن نحيا على أرضنا هذه التي تستحق الحياة". 

   الكاتب تمكن من وضع كثير من الأفكار من خلال الرواية وأحاديث شخوصها ، فيقول على لسان زياد: " لماذا نختبئ؟ لماذا نهرب من هزائمنا؟"، وعلى لسان رنيم: "أعظم الحب هو الذي تجده في نفسك، في ذاتك التي تحضنك"، ويقول أيضا على لسان زياد: "بات من الصعب أن تحلم في واقع المستحيل، بات الحلم واقعنا المر"، وفي حوار مع نيسان يقول له: "قرفت زياد الذي يحاول أن يكون مثقفاً ويعيش في برج عاجي وينظر إلى الأشياء بدون أن يحرك مؤخرته"، في إشارة واضحة لرفض واقع المثقفين وتناقض القول مع الفعل، وعلى لسان نيسان: "عرفت كيف يكون البعد ملح العاشق في زمن تلاشت فيه حتى الرحمة"، وفي ظل صراع زياد بين الواقع والحلم يقول: "لم تعد الكلمات وحدها تغير معنى واقعنا، لا يوجد أمامنا طريق سوى أن نحمل البندقية حتى نتخلص من وجعنا". 

   وهكذا وجدت نفسي أمام مشروع رواية جميل ومتميز، لغة جميلة وأفكار من واقع الحياة والألم والاحتلال، الصراع ما بين الواقع والحلم، الحب بأشكاله المختلفة، الحبيبة، الجسد، الأم، الأرض، الوطن كفكرة وواقع، الصداقة والخيانة، فامتلك الكاتب أصول العمل الروائي مما يبشر بولادة روائي متميز، وإن كانت الرواية بحاجة لترتيب فني في الفصل بين الأقسام بداخل الجزء الواحد، وما بين الأجزاء نفسها، وإن كنت أرى أن يتم استبدال كلمة الجزء إلى كلمة الفصل، فالجزء يستخدم حين يكون كتاباً من عدة أجزاء، وكل جزء مطبوع بشكل كتاب مستقل، بينما رواية "عابر في الماضي"، رواية متكاملة يمكن تقسيمها لفصول وكل فصل إلى أقسامه المختلفة، مضافاً لذلك ضرورة مراجعة بعض الأخطاء اللغوية والتي ربما يكون قسماً منها يدخل في إطار الأخطاء في الطباعة. 

   وفي النهاية.. آمل أن تطبع وتنشر هذه الرواية، فهي تشكل إضافة نوعية في عالم الرواية الفلسطينية، وخصوصاً في ظل ندرة العمل الروائي الجيد. 

وسوم: العدد 930