حرية الإبداع بين الحقيقة والوهم

د. وليد قصاب

الذين يتحدثون عن حرية للإبداع والفن بلا حد ولا شرط واهمون أو متوهمون، ذلك أن هذه الحرية المزعومة لا وجود لها في القديم ولا في الحديث، لا عند المسلمين ولا عند غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولا عند العرب ولا عند العجم، ولا عند أصحاب التيار الديني ولا عند أصحاب التيار العلماني.

ذلك أن عند هؤلاء جميعاً قيماً معينة – سواء أكانت حقاً أم باطلاً، عقلية أم عاطفية – ينبغي الدفاع عنها، ولا يجوز المساس بها من قريب أو بعيد، لا تلميحاً ولا تصريحاً، وهي لا تدخل عندهم ضمن حرية الإبداع والتعبير، بل تدخل ضمن مسمى "المروق" أو "التجديف".

لقد ضج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وقامت فيه مظاهرات عاصفة، كادت في بعض البلدان تجتاح الأخضر واليابس، عندما أقامت صحيفة دانماركية على نشر صور ورسومات تسيء إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشفع عند ملايين المسلمين – بل عند فئات كثيرة أخرى من غير المسلمين – أن يدرج هذا تحت مسمى "حرية التعبير" أو "ديمقراطية الفكر والصحافة"، ولم يقبل اعتذار الصحيفة نفسها، ولا اعتذار من شايعها، أن يكون هذا الفعل الشنيع داخلاً تحت هذا البند أصلاً، بل عد ذلك من قبيل الاعتداء على مشاعر الآخرين، والإساءة إلى معتقداتهم، وإثارة العداوة والصدام بين الحضارات.

وإن بعض هذا الغرب "المتناقض" الذي أباح نشر مثل هذه الرسومات المسيئة تحت دعوى "حرية الفكر والصحافة" "سيقيم الدنيا ويقعدها لو أقدم شخص من – أية ملة – على الإساءة – لا سمح الله – إلى شخصية النبي "عيسى" أو "موسى" – عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام – بل لو أقدم على أبسط من ذلك بكثير، وعلى ما ليست له أية عصمة أو قداسة، كالتشكيك في "المحرقة اليهودية" أو عدد الضحايا فيها.

ألم يقدم الفكر الفرنسي العالمي الشهير "روجيه غارودي" في بلد الديمقراطية وحرية التعبير إلى المحاكمة – غير شافعة له شهرة ولا مكانة ولا حرية فكر مدعاة – عندما كتب مشككاً في بعض ادعاءات بني صهيون حول المحرقة؟!

لماذا إذن يحاول بعض المثقفين العرب الإيحاء بأن الوقوف "المطلق" في وجه حرية التعبير هو حكر فقط على "أصحاب التيار الديني"، وهو خائف منهم وحدهم على هذه الحرية، وأن هذا التيار – دون غيره – موسوم بهذه الصفة، وكأن الآخرين من ذلك براء، ولم يقفوا أبداً في وجه فكر آخر مخالف، غير تاركين مثلبة إلا ألصقوها به؟

إن مثل هذا الإيحاء بعيد عن الإنصاف، وهو نفسه نوع من مصادرة الرأي الآخر وتسفيهه وتشويهه.

إن التاريخ قديماً وحديثاً لم يعرف أبداً حرية مطلقة متفلتة من كل حد، لا في الأدب، ولا في الفن، ولا في غيرهما، بل كانت كل حرية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر.

إن التطاول على الذات الإلهية مثلاً، وعلى الرسل والأنبياء، وعلى عقائد وأديان يؤمن بها ملايين البشر في أرجاء المعمورة، وإن الاعتداء على القيم الثابتة الأصيلة التي تشكل هوية أمة من الأمم، إن ذلك كله وما شاكله لا يتساهل فيه أحد، لا مسلم، ولا مسيحي، ولا يهودي، ولا عربي، ولا عجمي، ولا يعده أحد من باب حرية الرأي، أو ديمقراطية الفكر، بل إن ذلك كله مما لا يعد قيداً يقف في وجه الإبداع أو الفن، لأنه لا توجد على الإطلاق حرية متفلتة من أية رقابة أو مسؤولية.

وما أكثر القوانين والأنظمة والقواعد التي نخضع لها في كل شأن من شؤون حياتنا، والتي – لولا بعضها على الأقل – ما كانت الحياة إلا فوضى، وضرباً من الفتك والاعتداء.