نظرات لغويّة في رواية المهطوان

صدرت رواية "المهطوان" للأديب رمضان الرواشدة عام 2022، وتقع في 110 صفحات من الحجم المتوسط.

يتبوّأ التحليل اللغويُّ مكانة مرموقة كأداة هامّة من أدوات فهم الأدب ونقده، كما يساعد في فهم رسالة النص التي يريدها الكاتب، وهل النص الأدبي إلا لغة وهل اللغة إلا أصوات متآلفة ومفردات وتراكيب يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم ،لذا سأعرّج في هذه العجالة على بعض الجوانب اللغوية في رواية (المهطوان) للأديب رمضان الرواشدة وسأقف عند جوانب محدّدة من نحو وأسلوب وبلاغة وسمات عامة طغت على لغة الأديب مكتفياً من القلادة بما أحاط بالعنق .

 لعلّ أول شيء يستوقف القارئ لرواية المهطوان العنوان (المهطوان) وهو عنوان فيه مافيه من الجدّة والغرابة اللغوية التي تدفع القارئ دفعاً إلى الولوج في الرواية لفهم المراد ليجد أنّ هذه المفردة بما فيها من مبالغة في زيادة الألف والنون في آخرها وما فيها من جرس قوي ،وصفاً لازماً لبطل الرواية وقد حُوّر اللفظ من مثَل كان يستعمله أهل حيفا حين يقولون:  (فلان طويل مثل مطوان حيفا)  ومطوان حيفا رجل فارع الطول عظيم الجسم، ولا شكّ أن هذا الاسم يحمل من الرمزيّة ما يحمل مثلما حملت أسماء الرواية بعامة كعودة ونضال وعزّام…

ومن حيث الأسلوب نرى ألفاظ الكاتب منتقاة فصيحة في مجملها وقد يستعمل الكاتب بين الفينة والأخرى مفردات عاميّة جعلت الرواية قريبة من نبض الشارع وإيقاع المجتمع،(وين ابوك؟ ،أمي معدّلة ،ياما كنت أعاني ، شو آخر هالقراية )

ومن حيث التراكيب طغت الجمل الفعليّة ولاسيّما الفعل المضارع وبخاصّة في الأشعار المنتقاة، والجملة الفعليّة -لا جرم-تدلّ على التجدّد والتغيّر والحدوث بخلاف الجملة الاسميّة التي تدلّ على الثبوت والاستقرار،وهذا يدركه أكثر ما يدركه أهل البلاغة والأديب منهم ؛ فقد جاءت التراكيب ملائمة للمعنى من جهة وملائمة لديناميكية الأحداث المتماهية مع الواقع السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، كما طغى الأسلوب الإنشائي من أمر ونهي واستفهام وتعجّب ونداء، ولعل الجمل الإنشائية تدلّ على الانفعال العاطفي الموائم للمرحلة المتأزّمة وما يموج فيها من أحداث مفصليّة، وهذا يدلّ على أنّ الرواية تنبض في أسلوبها بإيقاع المجتمع وهذا يشي بامتزاج البعد السياسي والاجتماعي مع البعد اللغوي البنائي.

وأما الوصف فقد تنوّع بين السرد المنوّع غير الرتيب وبين الحوار اللفظي والداخلي "المونولوج" الذي عبّر عنه أحياناً القرين، وهو ابتكار يُحسب للكاتب، وهذا التنوّع في الوصف أعطى حركة بعيدة عن الرتابة فضلاً عن التشويق الذي أخذ بتلابيبنا كقرّاء وأجبرنا ألا نترك الرواية حتّى نرى إلى أين ستنتهي بنا .

ومن حيث اللغةُ البلاغيَة فقد هجعت في الرواية تعابير مجازيّة وبلاغيّة سامقة من استعارة وكناية وتشبيهات ،وماج الشعر المنثور في ثنايا الرواية بصور مجنّحة رفعت من أدبيّة الرواية، وقد قيل: "النثر مشيٌ والشعر رقص"  والكاتب ههنا جمع في نصّه بين المشي النثري والرقص الشعري، لكنه رقصٌ من نوع خاص، رقص يموج بالألم والمعاناة ومعاني الفقد ولوعة اليتم "والطير يرقص مذبوحاً من الألم "

وإذا كانت الرواية قد تناولت مرحلة تاريخية ليست بالقصيرة من عام 1986 حتّى عام 2003 فإن الرواية ناءت بما حشدت من أحداث جسام في مئة ورقة ونيّف ،وهذا جعل لغتها لغة مكثّفة بما حملت ، كما جعل اللغة السياسيّة تطغى على اللغة الأدبيّة في بعض ثنايا الرواية - وهو قليل - وإن حاول الأديب الابتعاد عن ذلك، فيجد القارئ نفسه أمام تقرير صحفي أو سرد إخباري ولا سيّما عند الحديث عن الاحتجاجات والمظاهرات ..

التراث ولغة الرواية :

رغم أنّ لغة الرواية لغة حداثيّة إلا أنها لم تقطع صلتها بالتراث ،فكان الكاتب وفيّاً للموروث بكلّ مافيه غير منسلخ منه، كيف لا وهو ابن هذه البيئة ترعرع فيها وذاق من الكأس التي شربت منها شخصياته، ومن ملامح التراثيّة في لغة الأديب تناصيها مع النصوص الدينيّة سواء في الكتاب المقدّس؛ "نشيد الإنشاد " أو مع القرآن الكريم كقول الكاتب "لماذا لم تضعيه في تابوت وترميه في الماء "وقوله :"كنت في المهد صبيّا" ،وقوله :"سلام عليها يوم كانت ويوم خربت ويوم تصبح ذكرى"، وقوله: " وجاء من أقصى القرية رجلً يسعى "

ومن ملامح التراثيّة في لغة الأديب ذكر الأغاني الشعبيّة (الشيخ إمام وفيروز)  ،وذكر الأكلات الشعبيّة (المجدّرة والجميد) وذكر المعتقدات السائدة آنذاك مع ما فيها من غرابة (طاسة الرعبة وإخراج الأفعى من البطن وما إلى ذلك.. )

فحال أديبنا مع هذه الملامح التراثيّة المتبدّيّة في نصّه الحداثيّ كحال شاعر الهند طاغور حين قال "أفتح النافذة على مصراعيها وأسمح للريح أن تدخل حجرتي على ألا  تقتلعني من جذوري… "

لقد سكبت الرواية بقالب لغوي مبدع معبّر بسبكه وخياله وواقعيته ما يجعلك تتساءل أين يمكن تصنيف هذه الرواية أهي رواية إبداعيّة رومانسية ،أم هي رواية واقعيّة ملتزمة ،أم هي رواية رمزيّة؟! أم هي كلّ هذا؟

وأياً يكن لقد كانت الرواية دفقة شعوريّة عبّرت بلغتها المبدعة عن مرحلة تاريخيّة مفعمة بالأحداث المفصليّة، وربّما لم يخطر في بال أديبنا الرواشدة أيّاً من هذه الاعتبارات عند كتابة هذه التحفة الأدبيّة السامقة، فحاله مع روايته كحال المتنبّي مع قصيدته :

أنام ملء جفوني عن شواردها

                 ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

وسوم: العدد 1046