نافذة على الشعر الشعبي الفلسطيني

جامعة القدس المفتوحة/ نيسان 2024م

يعدّ الشعر الشعبي لوناً من ألوان التراث الذي لا تخلو منه أمة من الأمم، لارتباطه بالإنسان في زمنه ومكانه وحركته وطريقة عيشه. وتطلق كلمة تراث على مجموع نتاج الحضارات السابقة التي توارثها الخلف عن السلف، وهي نتاج تجارب الإنسان ورغباته وأحاسيسه، سواء أكانت في ميادين العلم أم الفكر أم اللغة أم الأدب، ويشمل التراث الموروث المادي والموروث القولي( أبو الغزلان.2009). أما المادي فيشمل الأمور الحسية الملموسة كالمباني القديمة وأنواع الألبسة وأدوات الطعام والشراب والطب الشعبي والزراعة. وأما التراث القولي فيشمل فنون الشعر نحو الشعر الشعبي من قصيد وزجل وأغانٍ شعبية، ويشمل فنّون النثر التي كانت في الأصل شَّفَهيّة نحو السِيَرٍ والقصص والأساطير والحكايات والألغاز والأمثال شعبية (جامعة القدس المفتوحة. 2017).

وتأسيساً على ما تقدم، فإنّ التراث يمثّل الذّاكرة الحيّة للفرد وللمجتمع، ويمثّل هويّةً يتعرّف بها الناس على شعْبٍ من الشعوب؛ كما أن التراث بقيمه الثقافية، والاجتماعية يكون مصدرا تربويا، وعلميا، وفنيا، وثقافيا، واجتماعيا...ذلكم أن تراكم الخبرات يُكوّن الحضارة، وتراكم المعلومات يُكوّن الذاكرة، التي تمكننا من فهم الحياة بوضوح، بتاريخها وحاضرها ومستقبلها أيضاً.

لذا نجدُ الإنسان العربي ينتمي انتماء قوياً إلى تراثه وتاريخه، ويتماهى فيه معنويًّا دون تحفّظٍ، إذ يشعر أن تعلّقه بهذا التراث هو امتدادٌ لتعلّقه بتصوّره للدنيا والكون، وللحياة ولِــما بعد الحياة، فيتخذ التراث بُعْدا روحانيا ونفسياً، الأمر الذي يضعه خارج دائرة التفكير، وداخل دائرة التقليد، فالمساس بالتراث غير وارد عنده، لذا يحظى هذا التراث بقيمة مهمة، فيتعامل معها بمثالية وقداسة (معتوق.2007).

  • الشعر الشعبي الفلسطيني؛ أعلامه وأغراضه:

شاع الشعر الشعبي الفلسطيني منذ أواخر العهد العثماني وفق ما وصلنا، وكان المصدر الرئيسي لبث مشاعر الفلسطينيين ونقل معاناتهم للعالم الآخر عبر السطور والكلمات، بل وكان أكثر صدقا في ذلك. على أنّ الشعر كان ولا يزال أحد الأنواع الأدبية التي تُعد عنصرا مهماً في التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وينقل لنا ما يدور في حياتنا بشكل عام. سواء أكان شعراً فصيحاً، أم شعبياً. ويُعدّ الشعر الشعبي أحد مكونات التراث الفلسطيني فهو الذي ينقل لنا الموضوعات بلغة سهلة بسيطة متداولة بين الناس وهو الذي يعبر عما يجول في خاطر الشاعر، لذا فهو الحس الجماعي الواقعي الذي يصوره الشاعر بقالب لغة الناس.

لذا يعدّ هذا اللون من الشعر الأقرب إلى حياة الناس وقلوبهم، فهم يفهمونه بسرعة ويتفاعلون معه، لأنه مستوحى من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعاداتهم وتقاليدهم، ليس غريباً عنهم، وكأنه سجلُّ أيامهم وتاريخهم جيلا بعد جيل، لذا كان فرعاً مورقاً نضراً من فروع شجرة التراث الشعبي لكل أمّة، وهو جزء من هويتها.

     ربما كانت سمة الشعر الشعبي الأبرز أنه يُغنى ضمن إيقاعات متعددة، وأوزان شعبية معروفة في بلاد العرب، مع خصوصية كل منطقة بقوالب غناء معينة. ومنه ما يُغنى بلسان الشاعر نفسه، ويمكن أن يقع بين شاعرين أو أكثر على سبيل التحاور وبخاصة في الأعراس والمناسبات، ومنه ما يغنى جماعة، وفي كلّ الأحوال فالشعر الشعبي لونٌ مُحببٌ للناس، يقبلون عليه بشغف ويحفظونه بسهولة.

إنّ معظم الشعر الشعبي الفلسطيني ورد بصورة متلازمة مع الغناء والأداء، فضلا عن أن معظم الشعراء الشعبيين هم مغنون أو مؤدون يتقنون تقديم شعرهم وفق قوالبه الغنائية، وإن لم يمتلكوا هذه المهارة استعانوا بالمغنين والمجموعات الغنائية وشعراء الربابة ونحو ذلك من طرق الأداء. فصلاً عن أنّ موهبة الشعر ونظمه وغنائه كانت تنتقل من الجدّ إلى الأب ثم إلى الابن، وأغلب الشعراء الشعبيين الفلسطينيين هم من عائلات عُرفت بحبّ الشعر والغناء وفن الارتجال.

تعددت ألوان غناء الشعر الشعبي الفلسطيني بين العتابا والموال والدبكة والحداء والزجل، وهناك من قاموا بتلحين قصائد شعبية مما أدى إلى شيوعها بين عامة الناس مثل الدلعونا و يا زريف الطول و عاليادي عاليادي(موسى.2007م).

ومن أبرز الشعراء الشعبيين قبل نكسة حزيران 1967م، أبو سعد الحطيني واسمه مصطفى البدوي، شاعر شعبي وكاتب الزجل والعتابا، من حطين قضاء طبريا في فلسطين المحتلة، ولد عام 1900م، وهو لاجئ فلسطيني في سوريا، كان دائم الحضور في كل المناسبات، أنشد في الأعراس والمناسبات الوطنية ونثر عبير صوته في القرى بالأهازيج والهتافات، ورفع الشعر الشعبي المحكي إلى مستوى رفيع وراق وترك وراءه تراثا غنيا من الفنون الشعبية، توفي عام 1975م (أبو الرُّب 2023م). ومنهم أيضاً نوح إبراهيم المولود في1913م والمتوفى ستة 1938م، وهو الشاعر الشعبي لثورة 1936-1939، ولد في مدينة حيفا وتلقى فيها دراسته الابتدائية، ثم ترك الدراسة لحاجة أهله واشتغل عاملا في إحدى المطابع (الموسوعة الفلسطينية1984م). وتفتحت فيه روح الشاعر الشعبي وهو في هذه السن المبكرة فأصبح الروح الحية في الأندية والمنظمات الكشفية ومنظمات الشباب والعمال والميادين الوطنية العامة في فلسطين والأقطار العربية المجاورة كمصر وسوريا، فكان يخطب ويلقي قصائده حول مختلف الأحداث المتلاحقة في تلك الفترة العصيبة، ويدعو إلى مؤازرة شعب فلسطين في نضاله ضد المحتلين. وعرف بأشعاره الشعبية الوطنية، وبخاصة ما كتبه على جدران الزنزانة أيام الاستعمار البريطاني، ثم ما نظمه في إعدام الأبطال الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي.

الشاعر راجح السلفيتي المولود في 14/3/1921 لأسرة فقيرة وتوفي والده وهو في الثانية عشرة من عمره، هو ثائر، شاعر، ومطرب شعبي في الاحتفالات مثل الأعراس والهبات الجماهيرية والمظاهرات.

وشارك في ثورة 1936 وقال أحد الرواة في سلفيت: ( أنّ راجح قضى عمره مناضلا ومشاركا في كل الثورات والهبات الجماهيرية وقال مات الراجح وهو يقول: من حارة لحارة يا حمالة الحجارة ) وتوفي راجح عام 1989 (كبها.2009م). ومنهم أيضاً الشاعر محارب ذيب، الذي ولد في قرية جبع لواء القدس 1914م ونشأ على حب الغناء والشعر الشعبي والعزف على الربابة، وصف معركة العرقوب عام 1936م ومعركة بني نعيم، وله من الشعر الشعبي والشروقي بخاصة الكثير، وتوفي عام 1995م.

وعرفت فلسطين أسماء شعراء شعبيين مشهورين بعد ذلك، كيوسف الحسون وأبي عرب، وظهر في أواخر السبعينيات إلى مطلع الألفية الثانية من هذا القرن، شعراء شعبيون كثر منهم الشاعر المرحوم أبو بسام إبراهيم العراني، وصديقه أبو بسام محمد شعبان الجلماوي، والشاعر يوسف أبو ليل من كفر قرع، وأبو عدنان وأبو أمين من كفردان، وأبو توفيق الجبعي من جبع، وأبو نادر البرقيني وموسى حافظ وكلهم من جنين، وغيرهم كثير.

لقد واكب الشعر الشعبي الفلسطيني الحياة الاجتماعية، فتحدث عن الوالدين والقرابة والطعام والشراب وغلاء الأسعار، والزواج والطلاق والتعليم، وتحدث عن الناحية الاقتصادية كالبيع والشراء والزراعة والتجارة، وعن الناحية الثقافية كالعلم والجهل والأمية، والقراءة والكتابة، وعن الناحية السياسية كحال الوطن والاحتلال والتضحيات التي يقدمها الشعب من اجل الحفاظ على أرضه ووطنه، والأمر الذي لا شك فيه، هو أنّ هذه المضامين قد غلب عليها الجانب السياسي، نتيجة لما عانته فلسطين إبّان الاستعمار البريطاني ثم وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني، لذا جاءت الأشعار الشعبية تعكس طبيعة هذه الحياة وما تضمنته من نضال ومعاناة. ومنها ما عبر عن معاناة اللاجئ الفلسطيني التي نتجت عن النكبة والتهجير ومنها ما أشاد بالقادة الفلسطينيين والعرب ومنها ما كان يتغنى بحلم العودة والحنين إلى الوطن والذكريات الجميلة في ربوعه (أبو هدبا. 2011).

لذا فالشعر الشعبي واكب الواقع الفلسطيني مواكبة يجدها المتتبع للقصائد الشعبية والأغاني المنتشرة بين الناس وعلى موقع اليوتيوب وشبكات المحرك الإلكتروني جوجل، ويلمس أنّ هذه المواكبة قد صنّفت الشعر الشعبي إلى مضامين واضحة، ومعبرة عن حياة الفلسطيني. وهذا يحتاج إلى دراسة وافية، وغربلة للأشعار الشعبية التي قيلت في تلك المضامين، وهي دراسة ستكون ثرية وماتعة في الوقت نفسه، عسى الله أن يهبنا الصحة والوقت لإنجاز ذلك.

الهوامش:

1-جامعة القدس المفتوحة، عماد البحث العلمي، المأثورات الشعبية، ص51، 2017.

2- خلف، بشير، التراث والهوية،2010م، موقع ديوان العرب رابط: https://diwanalarab.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A

3-أبو الرب، حسن، الشاعر الفلسطيني الشعبي أبو عرب: إصدار جامعة القدس المفتوحة/ مركز جفرا، دار الفاروق،2023م.

4- أبو الغزلان، تشي، تعريف التراث الفلسطيني، النسر الأحمر، دار الجليل، 27/1/2009

5-كبها، مصطفى وآخرون، سجل القادة والثوار والمتطوعين لثور 1936-1939، دار الهدى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2009.

6-معتوق، فردريك، مدخل إلى سيسيولوجيا التراث. ط1 دار الحداثة. بيروت،2007م.

7-موسى، أحمد، وكالة الأنباء الفلسطينية وفا،2007م. رابط https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9014

8-الموسوعة الفلسطينية، المجلد الرابع، ط1، بيروت، 1984م، ص508-509.

9- أبو هدبا، عبد العزيز، مقالات في التراث الشعبي الفلسطيني: جمعية إنعاش الأسرة،2011.

وسوم: العدد 1077