لاءات الزينبَين

مجموعة قصصية لفدوى محمد سالم جاموس

نظرات نافذة.. في أعماق الإنسان.. الإنسان هو الهدف هنا .. وهو الغاية .. وهو ميدان الإبداع .. وهو الظالم والمظلوم .. والساحق والمسحوق .. والجاني والمجنيّ عليه .. وهو نبض الأدب .. ونبض الروح ..ونبض الحياة كلّها ..

من هنا ، وجَدت هذه المجموعة القصصيّة نفسَها – بعد أن لَملمَها قلم الكاتبة ، من عيون الناس ، وقلوبهم ، وأرواحهم ، وضحكاتهم، وزفراتهم .. وبَثّها في نسيج إبداعي متفرّد، بين دفّتي كتاب – عالَماً إنسانيّاً فسيحاً عميقاً ، يَبحث فيه كلّ عن كلّ :

القلم الناقد يَبحث عن القلم المبدِع ..

                    والعين تَبحث عن متعتِها ..                           والقلب يبحث عن سكينتِه ..

والروح تَبحث عن دفئها ، وألقِها ، وآفاقِها الرحبة ..

والمظلوم يَرنو إلى الإنصاف ..

والمحاصَر يتلفّت باحثاً عن مَنفذِ نَجاة ..

في هذه المجموعة " لاءات الزينبَين " قصص خمس .. متفاوتة الأعماق والأبعاد ، والمناخات والمسارات ..   بَيدَ أنّها تَدور، جميعاً ، حول مِحور واحد " الإنسان" .. وتَغوص في بحر واحد  "عالَم الإنسان" .. وتَهرب من شرّ واحد " ظلم الإنسان للإنسان ".. وتَلهث وراء هدف واحد " تَحقيق إنسانيّة الإنسان ، في الإنسان .. لتتحقّق بعدئذ في العالم الرحبِ كلّه " .

*

الصِراعات هاهنا ، في هذه المجموعة ، شتّى ..

صراع الإنسان ضدّ نفسه ..

وصراعه ضدّ طباعه ..

وصراعه ضدّ الفقر ، وضدّ الشحّ ، وضدّ الجهل ، وضدّ الهبوط ..

وصراعه ضدّ الفساد ، المزركش المهذّب ، في مجتمعه المحيط به ..

وصراعه ضدّ القهر الذي يَخنق حرّيته ..

وفي هذه الصراعات ، جميعاً ، يبقى الإنسان ، بآفاقه وعوالِمه كلّها، هو الإنسان :

  هو البطل والضحيّة .. وهو الصيّاد والفَريسة .. وهو السبب والنتيجة ..!

أ- قصّة " عَودة الحياة إلى قلبٍ ميّت " مَشحونة بصراعاتٍ شتّى :

- صراع الأسرة " الأمّ وبناتِها " ضدّ الحاجة والجوع والبؤس..  هذه الأمور المتولّدة عن البخل الشديد ، الذي ابتُليَ به ربّ الأسرة .

-  صراع الأمّ الفاضلة المحتسِبة الصابرة ، ضدّ تقلّبات الأيام،   ومحنةِ غياب الزوج .. وتَصدّيها لحَملِ أعباء جِسام ، في تربية بناتِها، وتَعليمهنّ.. بينما هنّ ، جميعاً، بين أنياب الفاقة والجوع.

- صراع الرجل الشحيح ، ضدّ طلبات أسرته ، التي تقتضي منه أن يَدفع لها مالاً يَدرأ عنها غائلة الفقر والتعاسة .. فيَهرب من البيت ، تاركاً أسرتَه في مهبّ الرياح ، كيلا ينفق عليها شيئاً من ماله ، الذي اتّخذَه صنَماً، وبات يقدّسه ، ضارباً عرضَ الحائط بكلّ قيمةٍ سواه..!

إلاّ أنّ القيمة الإنسانيّة تنتصر في النهاية .. تنتصر البناتُ وأمّهنّ ، بصبرهنّ وجلَدهنّ ، ومساعدةِ العمّة الفاضلة " بَشيرة ".. وينتصرالأب على شحّه ، بعد أن يَخسر صنمَه المقدّس " المال " ، بحيلةٍ يمارسها معه أحد أصدقائه .. فيصاب بذبحة صدريّة ، تضعه وجهاً لوجه أمام الموت ، فتثور أريَحيّـته، ويَجود ببيته ، ليبني في مكانه مستشفى ، يخصّص قسم من نشاطه للفقراء والمحتاجين ، وأوصى ابنَه الطبيب بذلك ..

لقد ساعدته يد القدر الرحيمة ، في الانتصار على نفسه الشحيحة ؛ إذ سلَبت منه صنمَه الذهبيّ المقدّس ، لتَقسره قسراً ، على إعادة النظر في حياته ، وفي علاقاته مع أسرته خاصّةً ، ومع الناس عامّة ، ولتذكّره بأنّ له ربّاً، هو وحدَه الذي يستحقّ العبادة ..

" لقد عاش بقلبٍ ميت ، إلاّ أنّه مات بقلبٍ حيّ " ..!

ب- قصّة " الهالة " : تدور حول صراع داخليّ " في أعماق نفسٍ ساذَجة " بين منظومة القيَم المتوارثة ، وبين قيمة حسيّة واحدة ، هي الجَمال ، أو بمعنى أدقّ : " الإحساس بالتفوّق في ميدان الجَمال الإنسانيّ " ..

إنّها صراع ، بين نزعَة " تَصنيمِ " الجَمال – جَمال الشكلِ – وعبادتِه من ناحية ، وبين إرادة الحياة الإنسانيّة الفاضلة ، من ناحية ثانية ..

ولقد انتصرت الأولى رَدحاً من الزمن ، فخَلخلَت من كيان الفتاة البائسة ما خَلخلَت ، وصدّعت ما صدّعت .. ثمَّ جاءت يد القدر الرحيمة  لتنتصر للثانية ، لتَهزّها هزّاً ، وتَبعثها من الاعماق السحيقة التي رقَدت فيها ، لتتَعملقَ ، فتَعصفَ بالأولى  وتلقي بها في زوايا النسيان!

وما كان ذلك ليَتمّ بسعيٍ فَرديّ من الفتاة نفسها ، ولا بتصميمٍ واعٍ منها ، إنّما جاء قسراً :غَيّرت يدُ القدر الظروفَ الرتيبة ، التي " تَصنّم" فيها الجمال .. بَعثَرت الترتيباتِ النفسيّةَ ، والبيئيّةَ.. غيّرت حالَ الزوج  فحالَ الأسرة ، بهزّة قويّة ، فتبعثَرت الأوراق المنضّدة القديمة ، ليعادَ ترتيبها من جديد

على النحو الذي أرادته يد القدر الحكيمة، لهذه الفتاة الساذجة،  فأبدعتْ لها من الحالة الجديدة ، التي حسبتْها شرّاً محضاً ، أبدعت لها خيراً لم تكن لتحلمَ بالوصول إليه ، أو حتّى التفكير فيه ..!

لقد كرهتْ ، بدايةً ، الانقلابَ الذي طرأ على حال زوجها ، دون أن تَدري ما وراءه .. فإذا القدر يخبّىء لها انقلاباً رائعاً، يَطرأ على حياتها هيَ ، بسبب الانقلاب الأول ، فيجعل منها إنسانةً سويّة حقيقيّة ..

ألم يقلْ العليّ القدير : { فعَسى أن تَكرهوا شيئاً وهو خير لكم.. } !؟

ج-  قصّة  " لاءات الزينبَين "  فيها صراع من نوع آخر،  بل ، ربّما ، صراعات شتّى ، من أنواع مختلفة :

- صراع بين الحَماسات الفارغة ، والدعاوَى المزيّـفة ، والشعارات الرنّانة من ناحية .. وبين الوعي الهادىء ، والإرادة المصمّمة، والصلابة الحكيمة .. من ناحية أخرى . وهذا ما تجلّى في حوارات    " الزينبَين " ابنتي الخالة ..

- صراع بين الإرادة الحرّة ، الفرديّة والاجتماعيّة ، من ناحية .. وبين قوَى القهرالشَبَحيّة المتَعملِقة المتجبّرة ، التي دأبتْ على سحق إنسانيّة الإنسان ، وسَحق كلّ ذرّةٍ للكرامة ، أو الإحساس بالكرامة لديه .. من ناحية ثانية ..

وفي نهاية القصّة ، تنتصر الإرادة الحرّة – في المعركة الصغيرة التي اضطرّت إلى خَوضها – على قوَى الظلم والبطش والتجبّر ، وتُرغِمَها على الخضوع لإرادتها .. بعد أن كَشفتْ زيفَها وفسادَها ، أمامَ نفسها وأمامَ العالَم .

د- قصّة " ملعون الوالدين " تتضمّن نموذجّاً من الصراع مختلفاً عمّا ألِفَه كثير من الناس : إنّه صراع الرجل الواعي المصمّم ، ضدّ الآثار التي تركَتها شقاوةُ الولدِ العابث ..

لقد اكتسب الولد الشقيّ ، بسفاهته وطَيشه ، صفةَ " ملعون الوالدين " ، مِن قِبل المجتمع المحيط به . وحين صار شابّاً، ونضجَ عقله، وحَسنَ سلوكه ، وبدأ يحِسّ بثِقل الصفة التي سبّبتْها له شَقاوةُ طفولته .. قرّر أن يزيل عنه هذه الصفة ..

وأفلَح في هذا ، لكن بعد أن دفع الثمن ؛ إذ تَشاجَرمع رجل ، فكان سبباً في موته . وأعلَن في المحكمة ، أنّ كلّ مَن يلعن والدَيه ، سيكون مصيره كمصير الحانوتيّ القتيل ..

لقد غيّر ما بنفسه ، فحضّته النفس الجديدة ، على تغيير ما علِق بنفوس الناس ، من آثار نفسه " الشقيّة " القديمة .. ففعل.. ونَجح .

هـ- قصّة  " الإنسانة الهرّة " هي قصّة الصراع المرير، الدائر منذ قرون طويلة ، في ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة ، إن لم يكن في أرباعها كلّها ! إنّها قصّة صراع الفرد الأعزل ، صاحبِ الرأي .. ضدّ أجهزة القمع ، التي سخّرتها السلطات الحاكمة،لإعدام الرأي المخالف ، أيّا كان ، ومهما كان شأن صاحبه .. رجلاً أو امرأة .. شابّاً أو كهلاً أو شيخاً..!

تعاني الفتاة البريئة ، بين مخالب الجلاّدين " قامِعي الرأي "، من العذاب ، ما يحطّم ركائز شخصيّـتها الإنسانيّة ، ويجعلها تُوازن بين واقعها البائس ، وواقع هرّةٍ منكودة ، وضعَها حظّها العاثر، بين أيدي صِبيةٍ عابثين ، كانوا يسومونها سوءَ العذاب . ولقد جاء مَن أنقذَ تلك الهرّة المسكينة ، مِن عبث الصِبية الصغار، فهل يأتي هذا المنقذ نفسُه ، لإنقاذ الفتاة من براثن الصِبية الكبار المتوحّشين ..!؟ هل يعود الحاجّ محمود منقذُ الهرّة ، لينقذ الفتاة !؟ إنّه هاجَر من بلاده ، منذ سنين .. ولكنّه سيَعود ..هكذا أخبرهم ، سيَعود ..

لقد انتصرت هنا الإرادة ..الإرادة المصمّمة ، المتشبّـثة بالأمل ، والغدِ المشرق ، الذي ينتصر فيه المظلوم من ظالمه ، وترفرِف فيه أجنحة العدل، بدلاً من سياط الجلاّدين المجرمين!

***

العرض الفنيّ في هذه المجموعة ، اعتمد ، في غالبيته ، على السرد .. السرد البسيط المباشر أحياناً ، والمفعَم بروح شعريّة شفّافة أحياناً ، والمغلّف بشيء من الرمزيّة في بعض الأحيان..

وهو في هذا ، وذاك ، وذلك ، يَسلك داخل العقل والقلب والوجدان ، مسالكَ ليّنة سهلة ، فلا يَستعصي على فهم ، مهما كان بسيطاً ، ولا يَمنع متعته الفنيّة، عن ذائقة جماليّه ، مهما تكن قدرتها على تذوّق النصّ الأدبيّ. وكلّ يأخذ منها بحسَبِه ،

على مذهب مََن قال:

ولكنْ تأخذ الأذهانُ منها     على قَدْرِ القَرائحِ والفُهومِ

*    *     *

وفي الختام : يمكن تلخيص الخصائص الأساسيّة لهذه المجموعة، بما يلي :

- الموضوعات : إنسانيّة ، تَتمحور حول الإنسان ، وتَدور في فلَكه ، وتَسعى إلى انتصاره ، وتَطمح إلى تحقيق أهدافه السامية النبيلة .

- اللغة سليمة نقيّة ، خالية من شَوائب اللحْن والركاكة والابتذال .. سلِسة .. حارّة حيناً، دافئة حيناً.. متدفّقةٌ أبداً : ساقيةً آناً ، ونهراً آناً، وشلالاً آناً آخر ..

*    *     *

إنّها المجموعة الأولى ، للقاصّة السيّدة فدوَى جاموس ، ونأمل أن تَتلوها مجموعات أخرى مِن مثلها ، في قابل الأيام .

وسوم: العدد 664