الموسيقى في الغناء والإنشاد، بين متطلبات الدين وضرورات الفن

1- الشعر والغناء والإنشاد في حياة العربي:

من الحقائق المعروفة في تاريخ العرب، أن غناء الشعر وإنشاده هو رفيق العربي في حياته وسهره وسفره، حيث كان الحادي يرافق قوافل المسافرين بصوته الجميل الأخاذ، للترويح عن المرافقين للقافلة; ولهذا جاء قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (الغناء زادُ الراكب) لأنه يروح عن نفسه ويطرد منها الملل والتعب، ويبث فيها النشاط والحيوية والقدرة على المواصلة والإستمرار، وقد اعتبر العرب الحداة الذين يرافقون قوافل السفر والتجارة من الطاقم الإداري الذي لا يُستغني عنه، حيث كانت القافلة تحوي في داخلها (التجار والحراس والعمال والحداة والمسافرين) ويمكننا أن نطلق عليه وصفا لطيفا، هو وصف الحادي بأنه (حامل القافلة)  في السفر، لأنه يحملهم في السير تشبيها له بمن يحمل الشيء على ظهره، وفي الحقيقة هو ما حملهم على ظهره،  ولكنه وَلّـدَ فيهم من النشاط ما يدفعهم إلى سهولة حمل أنفسهم على متابعة السفر، والتحامل على متاعب الطريق، فكأنه حملهم، والمعنى فيه تشبيه وتقريب، وقد ورد ذلك في قصة المثل العربي المشهور (وافق شن طبقه); ولهذا لا نستغرب أن تكون الموسيقى حاضرة في جميع أنواع الشعر العربي قديمه وحديثه: (العمودي والتفعيلة والمرسل والرباعية والموشح) وقد وصلنا من الشعر إنتاج ما يقرب من 400 شاعر في العصر الجاهلي، فلا يعقل أن يكون (الحس الموسيقي) قد ظهر مرة واحدة، والدليل على ذلك هذا العدد الضخم من الشعراء، بل هناك مراحل تطور فيها هذا (الحس الموسيقي) فيما سبق، وتم البناء عليها. ويلاحظ أن الشعر العربي مغموس بالموسيقى الفطرية الساحرة، سواء كانت ظاهرة أو خفية. حيث كانت ترسم أحاسيس الشاعر وتجربته، وهذا يؤكد أن الشعر العربي لا يستغني عن الموسيقى والإيقاع والأنغام، ويؤكد أن الحياة محكومة بالنظام والإيقاع والغناء، ولا توجد فيها فوضى الأصوات إلا في حالات الانفلات، وفي ضجيج الصناعة وصخب الأسواق، وإذا حصل انحسار في الإحساس والإيقاع وجفاف  في المشاعر على المستوى العالمي في ثقافة العصور وآدابها، فإن شعراء الجاهلية كانوا يجهلون الموسيقى، ولكن صفاء فطرتهم دفعهم إلى تسجيل توتر مشاعرهم تجاه أحداث حياتهم في قصائدهم، فقدموا لنا 16 بحراً ووزنا شعرياً، وفي ذلك إشارة إلى أن عالم الإيقاع والموسيقى في الشعر لا ينضب، مادامت هناك قلوب تنبض متأثرة بالحياة وبما يدور من حولها، وهاهو الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وفي الإسلام، حسان بن ثابت أمير شعراء الدعوة، رضي الله عنه يؤكد ذلك بقوله:

       (تغن بالشعر إما كنت قائله            إن الغناء لهذا الشعر مضمار)،

 ومن خلال ما سبق، يستطيع الباحث المدقق أن يرى أن العرب لم يبرعوا في صناعة الآلات الموسيقية، في جاهليتهم ولا في صدر الإسلام، وإنما ظهرت عبقرية العربي في فن الموسيقى حيث نبتت موسيقاه من داخل قلبه ومشاعره وتوترها، وبان (الحس الموسيقي) عنده من خلال فنه المفضل (فن الشعر) وما يحمل في داخله من ينابيع الموسيقى في أوزانها المتعددة، وتأكد ذلك حين تمكن عالم عبقري هو (الخليل بن أحمد الفراهيدي) من اكتشاف السجل العظيم والكنز الثمين للموسيقى العربية، وحلل رموزها وفك شيفرتها في الوزن والإيقاع من خلال علم العروض، الذي حفظ نبضات قلب العربي وموسيقى ذاته، لأنه كان يملك (أذنا موسيقية) مرهفة تحس بنغمات المحيط والحياة من حولها، وكان علم العروض هو السجل التاريخي الراصد لاستجابة هذا العربي، وذلك من خلال فن الشعر، وهذا هو مربط الفرس: (أذن موسيقية وحس مرهف) يسكب نفسه في وعاء اسمه (الشعر العربي) وتواجد في حياته على شكل مجموعة من فنون الأداء (الإنشاد والغناء والإلقاء).

2- مقدمات مختزلة من تاريخ الإنشاد والغناء:

* إذا حاولنا العودة إلى (المعجم الوسيط) وجدنا أن الغناء والإنشاد يدلان على شئ واحد، هو (أداء الشعر بالصوت الجميل المطرب) ولكننا وجدنا أن الأمر في العصور المتأخرة قد تغير، حيث استقل الإنشاد عن الغناء وأصبح يدل على الغناء الديني الذي يهتم بالمدائح النبوية والمواعظ والمناسبات الدينية كالحج والعمرة، ثم جاء الغناء الصوفي فخلط نفسه مع الإنشاد الديني  وغلب عليه، واخترقه وأفسده بالانحرافات الصوفية. وأحيانا بالكلمات المصفوفة الفارغة من المعنى لإتمام حالة الرقص التي تسيطر على فنهم.

* يقول الباحث التونسي الصادق الرزقي (كانت العرب لا تلقى الشعر إلا إنشاداً، وتدع فيه لأصواتها حركات، وتموجها بخفة وحدة وثقل ورخاوة ولين وتقطيع وترديد...)(1) وقد كان إنشاد الشعر هو أول أنواع الغناء، وكانوا يسمون الترنم بالشعر غناء، وحيث يقوم الغناء على الإيقاع الموزون في الجاهلية.

* أما في صدر الإسلام، فقد كان الإنشاد مقصوراً على (اللحن الحسن) أي الصوت الجميل في أداء الآذان وإنشاد الشعر، ونشأ فن آخر اسمه علم التجويد لخدمة القرآن الكريم بصوت جميل في القراءات القرآنية المختلفة، وأقدم من ضرب (بالدف) عند ظهور الإسلام بالمدينة فتيات من بني النجار، في استقبال الرسول r عند قدومه مهاجراً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهن ينشدن:

نحن صبايا من بني النجار يا حبذا محمداً من جار

وكذلك نشيد الإسلام الخالد:

طلع البدر علينا                من ثنيات الوداع

وجب الشكر           علينا ما دعا لله داع

وتطور الإنشاد بالمدائح النبوية، وبالألحان الحسنة، في حدود ما تألف الأذن العربية من غناء الشعر وإنشاده ضمن البحور العروضية السهلة كالرجز والمتقارب وغيرها، ثم ظهر (الغناء المتقن)  في العصر الأموي على يد (سائب خاثر) مؤسس الغناء العربي الذي استقل به عن الغناء الديني، واستمر تطور هذا الفن في بالعصور التالية، من خلال الأوزان العروضية والزحافات والعلل التي تطرأ عليها، وخاصة بعد اكتشاف تفاصيل علم العروض في العصر العباسي، وامتد تطور هذا الفن على يد اسحق وإبراهيم الموصلي وتلميذه زرياب الذي امتد به إلى الأندلس.

* ومن الأمور التي استجدت على الغناء والإنشاد في العصر العباسي بالذات، هو اختلاط هذا الفن بغناء الطرق الصوفية، التي اخترقت هذا الفن وأفسدته بمقولاتها وأغرقته بعقائدها المنحرفة، وقد أشار الإمام الشافعي إلى ذلك عند سفره إلى مصر بقوله ـ تركت بغداد وقد أحدث فيها الزنادقة (الصوفية) شيئاً اسمه السماع)(2) وتأتي شهادة الإمام الشافعي هذه من القرن الثاني الهجري فيما  أفسدته الصوفية          (الزنادقة) من الغناء حين ربطت الغناء بالرقص والطرب والمعاني المخالفة للشرع.

* ولما جاء العصر الحديث انطلقت الأنشودة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، من تراث بسيط يعتمد على بعض الابتهالات والتواشيح الدينية، وكانت بداياتها متقطعة بل مضطربة، ولا تسير على وتيرة واحدة، ولا تملك فقها يُرشد خطاها، ويضبط مسيرة تطويرها، وكانت في أكثرها تعتمد على المنتقى من الأناشيد الصوفية، ثم تطورت بأسلوب القفزات المتباعدة مما أدى إلى تشظيها، لأنها لم ترافقها حركة نقدية تأخذ بيدها وتحاكم خطواتها، وتبين هفواتها، ولا يزال المنشد الإسلامي مستمراً في هذا النهج، لأننا لا نجد نقدا يرافق خطاه، مما يشعرنا بالقلق على مستقبل هذه الأنشودة، أن تصل إلى الطريق المسدود الذي ينهي وجودها.

ولذلك فهي بحاجة إلى وعي الذات، وإعادة البناء على أسس إسلامية مدروسة، بجميع الجوانب الأدبية والفنية والشرعية، حتى تستقل عن انحرافات الأنشودة الصوفية، واعتزالها للحياة العملية ومواجع المسلمين وأحوالهم، وكذلك عن انحرافات الغناء المعاصر، الذي حصر نفسه في الأمور العاطفية، وضخمها في حياة الأمة.

وحتى تحقق هذه الأنشودة متطلبات الدين، ولا تتنازل عن ضرورات الفن الممتع الراقي، وإلا فأنها تفقد مبرر وجودها ودلالة اسمها، وقناعة الناس بها، بعد أن أصبح البحث عن الأنشودة الإسلامية الصافية في وسط هذا الكم المُـنشد، أشبه بالبحث عن دينار من الذهب في وسط كومة من القش.

إن وظيفة المنشد المسلم أن يكشف عن الجمال المخبوء، وسط هذا الركام من الأصوات وأحداث الحياة، من خلال تجليه وظهوره في منهج الإسلام، وفهمه للفن والجمال والحياة.

وبذلك يستطيع الفنان المسلم أن يفك الإرتباط مع الفن الهابط والرقص الصوفي المنحرف، ليحقق طموحه في الاستقلال، عن أمراض الواقع التي علقت في حياة المسلمين في عهود التخلف والإنحراف، ويصنع الفرح في قلب جمهوره، بما يملك من تحقيق الشروط الفنية والشرعية في فنه، وسوف ينجح إذا انطلق من ذاته، وأهمل تقاليد هذا الفن عند غيره، وصنع له تقاليد تتناسب مع قيمه ودينه، لأنه إذا قلد غيره، جعل من هذا الغير وسلوكه قاعدة، وبذلك يبني على باطل ويخدع نفسه عند النتائج، والبحث عن الثمار، ويصنع الغش في ذوق الأمة وإقبالها على الأمور.

3- عتبات الفقه:

أ- العتبة الأولى: (خلاصات مختارة)

من بحث للأستاذ عبدالجبار سعيد / ماجستير في العلوم الشرعية / نشره في جريدة الرباط حول الموسيقى والسماع والحكم الشرعي، استطاع هذا الباحث أن يعطينا الخلاصة العلمية لهذا الموضوع التي نتوقع معالجته بشكل جيد من خلال النقاط التالية:

(1- البعض اجتهد في فهم آية من القرآن الكريم هي ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)(3) وهي آية لم تصرح من بعيد أو قريب بحرمة الموسيقى، ولا حرمة الآلات الموسيقية ولا حرمة السماع، وإنما هو فهم تفسيري لبعض التابعين أو المفسرين، وكلها لا ترقى إلى مستوى الدليل المحرم.

2- أما أدلة التحريم من السنة، والتي يسوقها القائلون بالحرمة، فهي في غالبها لا ترقى إلى مستوى الدليل، إما لضعفه كالحديث الذي يتوعد السامع (بالآنك) أي الرصاص المذاب، وغيره من الأحاديث التي في رجالها أكثر من مطعن.

3- إن أقوى الأحاديث الواردة في هذا الباب، ما رواه الإمام البخاري (معلقا)  بصيغة الجزم عن شيخه هشام بن عمار، ومن المعلوم أن ما كان معلقاً فلا يصل إلى مرحلة الحديث الصحيح، وهو الذي نصه (ليكونن من أمتي من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف......).

4- القائلون بحرمة الآلات الموسيقية، لم يجدوا علة التحريم، وبعضهم قال: العلة في أنها قد تكون سببا لشرب الخمر وقد تكون سببا للزنا، وهي علل غير منضبطة، ولا تستحق أن تسمى بالعلة، وحتى من اعتبر العزف صفة للآلات فهي غير مقنعة.

5- وأخيراً وليس آخرا، إذا كانت حرمة الآلات الموسيقية قطعية الثبوت واضحة العلة، فلماذا كثرت فيها الاستثناءات، فبعضهم استثنى من الآلات (الدف)، ومنهم من استثنى (الطبل) ومنهم من استثنى (الدربكة) و (المزمار) حتى وصل الأمر إلى استثناء (العود) عند الفقيه ابن العربي المالكي الإمام التقي الورع)(4).

ب- العتبة الثانية: (خلاصة على شكل فتوى)

وهي عبارة عن خلاصة علمية لفقه الموضوع على شكل فتوى، كانت إجابة على سؤال من فتاة مسلمة لباب الإفتاء في جريدة الدستور الأردنية تقول فيه، أنا فتاة ملتزمة بالصلاة والواجبات المفروضة، ولكني استمع للأغاني، فما حكم ذلك؟

فكان الجواب:

(1- اختلف الفقهاء القدماء والمحدثون في موضوع  السماع والغناء، فمنهم من أباحه بشروط، ومنهم من حرمه، وقد جاء في كتاب الفتاوى للشيخ محمود شلتوت الحنفي ما نصه ( الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارة الشوق إلى الحج والعمرة وفي تحريض الغزاة على القتال وفي مناسبات السرور المألوف: كالعيد والعرس واستقبال الغائب).

2- وذهب بعض الفقهاء على أن (ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات) وقد تعقبوا جميع أدلة القائلين بالحرمة وقالوا: (أنه  لا يصح منها شيء).

3- وذكر بعض الفقهاء (أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم على فرض صحتها، مقيدة بذكر الملاهي وذكر الخمر والفسوق والفجور) وعليه فسماع الأغاني والآلات ذات النغمات الجميلة، لا يمكن أن يحرم باعتباره صوت آله أو صوت إنسان أو صوت حيوان، وإنما يحرم إذا استعين به على محرم، أو اتخذ وسيلة إلى محرم، أو ألهى عن واجب)(5) . والله أعلم.

4- ويقاس على ذلك الأناشيد التي تعبر عن فرح المسلمين بانتصار الإسلام ودعوته أو  تحرض على نصرته، كما حصل في استقبال الرسول r في يوم هجرته، ومن نفي دخول الرسول r من منطقة ثنيات الوداع، وقع في فخ التحقيق التاريخي لحدث الهجرة، لكنه نسي الجانب الفني والبلاغي في النشيد، الذي شبه قدوم الرسول r ودخوله إلى المدينة بظهور البدر الطالع من منطقة ثنيات الوداع في نشيد الإسلام الخالد الذي مطلعه:

طلع البدر علينا     من ثنيات الوداع

لأن الرسول يطرد ظلام الجاهلية والوثنية، ويضيء طريق الهدى للسالكين كما يطرد البدر الطالع من ثنيات الوداع الظلمة ويضيء  طريق المسافرين والطراق والعابرين.

وهذا النشيد له تميز خاص في ذاكرة المسلم، لأنه يربطه بالهجرة وانتصار الدعوة على من حاول حصارها وخنقها في مكة.

وهو في مصطلح الأدب يمثل (الأدب الشعبي) الذي لا ينتمي إلى قائل محدد، لأن الذي صاغه هو الوجدان الجماعي للأمة، فهو لا ينسب إلى شاعر معين، وإنما ينسب إلى الأمة ومن خلال الروح الجماعية لها، وانظر إليه في بداياته فهو لا يتجاوز الأربعة من الأبيات، ولكنه الآن يزيد على عشرات الأبيات، فمن أين أتت هذه الزيادة؟ نعم ومع توالي الأيام كانت الأجيال تضيف في المناسبات المختلفة من قرائحها ما يعبر عن حبها لهذه الدعوة وعلى منوال ما سبق ووزنه، حتى أصبح نشيداً شعبيا تشارك فيه أجيال الأمة، وتبقى الزيادة فيه مفتوحة إلى يوم الدين.

جـ- عتبة التناصح والشورى في قضايا الأمة

إن التناصح في الأمور الضرورية، من قضايا الفقه الذي يبصر الأمة بأمور دينها ودنياها، بما يصلح أحوالها ومعاشها أمر ضروري، لما فيه من الفائدة العظمى، وفي هذا الموضوع بالذات، أقيمت ندوات في الصحف، في سنوات سابقة، واستعمل فيها أسلوب طرح آراء المعارضين والمؤيدين من خلال فهمهم للنصوص، ومع ذلك بقي القراء في حيرة من أمرهم، لأنهم لم يقتنعوا بأي من الرأيين على إطلاقه، ثم نام الاهتمام بالموضوع أو القضية، فظل المنشدون يمارسون الفقه الفردي للإنشاد والذي لا يلقي بالاً لوضوح الأمور، وكأن الأمة أصبحت زاهدة في القضايا التي تؤصل للمسلم فقه أمور حياته بما يتناسب مع شريعة دينه.

وها نحن نعيد فتح هذا الملف الذي أغلقه الإهمال والنسيان، أو قل ما يحيط بالأمة من الأمور العظام، وفي إحياء طرح هذا الموضوع من جديد، يطيب لنا أن نسجل الملاحظات التالية:

1- إن فقهاء الطرفين المحرمين للموسيقى والمؤيدين لحلها، نلاحظ أنهم لم يستشيروا أهل الشعر ونقاد الأدب، لعل عندهم ما ينير الطريق لفقه أفضل، ولكنها إشكالية صعبه نشأت في عصور التخلف، أدت إلى الإنفصال بين دعاة الأدب ودعاة الفقه، حين أصبح عندنا فقهاء لا يتأدبون وأدباء لا يتفقهون.

2- وقد نسي هؤلاء الفقهاء أن النصوص المنقولة سوف تطبق على نصوص شعرية، وهم لم يطلبوا العون من أهل الأدب في كيفية تنزيل معاني التحليل والتحريم في هذه الأحاديث على الشعر، بصفتهم من أهل التخصص الذين يعرفون أسرار صنعتهم.

3- ولذلك بقي الأمر غامضاً، يجعل الكثير من الناس غير قادرين على اتخاذ القرار الذي يرونه مناسبا لفقه هذا الأمر، وربما دفعوا الناس إلى إهمال القضية وعدم المبالاة بها.

4- دوافع البحث.

ومن الدوافع التي تجعلنا نخوض غمار هذا الأمر، هو الرغبة الملحة في إيضاح فقه الغناء والإنشاد، الذي يساعد الفقيه في جلاء طبيعة النصوص الأدبية الشعرية،التي تنزل عليها الأحكام، وشعورنا أن الناقد الأدبي الخبير بتحليل النصوص الشعرية المغناة، وهو من أهل التخصص الذي يضيء للفقيه الشرعي فهم النصوص الأدبية في واقعها التخصصي، لأنه يكشف كنه الموسيقى الفطرية ويعرف دور الموسيقى الإضافية في بناء الغناء، وما تضيفه إلى النص، ثم يأتي دور الفقيه الشرعي ليعطيها الصياغة الفقهية والضوابط اللازمة لإضفاء اللمسات الأخيرة، التي يراها مناسبة، يحكمه في ذلك تقوى الله وتحري مصلحة المسلمين، وفهم دنياهم بعيداً عن التشدد المنفر أو التنازل الذي يميع الأمور، وذلك من خلال الخضوع لقواعد الحياد العلمي، الذي يتجرد للبحث عن الحق، حماية لمقاصد الشرع من التحريف، وبذلك نؤكد أن على أهل الفقه ضرورة الاستنارة بأهل التخصص في إيضاح الأحكام الفقهية، كقاعدة عامة يخضع لها الفقهاء وهي قاعدة معروفة من قواعد فقهنا الإسلامي، وعلى الفقيه أن لا يستعجل في قراءة النصوص الشرعية وإصدار الأحكام، قبل أن يدرك أن لدى المتخصصين ما ينفع.

ولذلك  نحن بحاجة إلى تحليل يعرفنا بهذا الفن ومكوناته، يبصرنا بمعرفة المواطن الخطرة وطرائق تصحيحها، أو التحكم بها ويكون ذلك من خلال التعرف على الطبقات المكونة للنص الغنائي، حتى نجمع بين متطلبات الدين وضرورات الفن، الذي ينضبط بأمر الله سبحانه وتعالى.

5- الفن في خدمة الأدب وإيصاله إلى الجمهور.

الإنشاد والغناء والموسيقى والمسرح والسينما والتلفاز وجميع فنون الأداء والإلقاء، كلها من الفنون التي تخدم الأدب وفنونه المختلفة (الشعر والقصة والمسرحية والرواية والخطبة.....) بشكل عام، لأنها تتفاعل معه وتحببه وتسوقه وتوصله إلى قطاعات واسعة من الجماهير المتذوقة، وتصنع من حوله حالة وهالة من الجذب والاهتمام والحب، لأن الجمهور بطبعه يحب جمال الأدب، وتجذبه حالة الطرب، والصوت الجميل والمعاني الجميلة، التي يصنعها الغناء في الإنشاد، من خلال مكونات هذا الفن المركب من عدة فنون (فن الشعر، وفن الصوت الجميل، وفن الموسيقى، وفن بلاغة اللغة) لتشكل فنا واحد مركبا منها جميعا اسمه: (فن الغناء والإنشاد) من خلال طبقاته الأربع: 1- طبقة موسيقى الشعر 2- طبقة الصوت الغنائي الجميل 3- طبقة الأصوات الموسيقية 4- طبقة اللغة والمعنى.

6- طبقات الإنشاد:

ومع أن الجمهور لا يرى هذه الطبقات لأول وهلة، إلا أنه يحس بها، وهنا يحسن بنا تفكيك نموذج النصوص المغناة، للتعرف على مكوناتها، تسهيلاً لفهمها ولإيضاح الفكرة التي تسعى إليها الدراسة من خلال ما أسميناه بطبقات نص الإنشاد:

1- الطبقة الأولى: طبقة الوزن الشعري (موسيقى الشعر):

وتشكل هذه الطبقة الأصل الفطري الداخلي في عمق النفس البشرية لفن الموسيقى، وعلى وزنها يتكئ الإنشاد والغناء، لأنها تمثل حالة التوتر والاستجابة، التي تحدث في الجهاز العصبي للإنسان، عند مواجهة الظروف والأحداث والتقلبات، التي تحدث في النفس أثناء ردود فعلها على معايشة الحياة، ومن خلال التفاعل الذي يحدث على شكل قمة وقاع، وبخاصة عند الإنسان المبدع، الذي كتب النص الشعري ورسم حركية هذا التوتر وحاله وانسيابه وتوزع هذه الانسياب، حيث تقوم موسيقى الشعر بضبطه من خلال الأوزان العروضية، وما يتبعها من الزحافات والعلل، التي تسجل هذا التوتر وحالته، ومع الزمن تمر السنون، وقد تذهب التجربة الشعرية لتلك القصيدة وقد تنسى، ولكن موسيقى الشعر حفظت هذه التجربة وخلدت التوتر الذي رافقها على مر العصور، وبذلك يستطيع القارئ أن يسترجع التوتر الذي رافقها رغم تباعد الزمان والمكان بينهما. ويتعاطف مع الشاعر وشعره، بفضل هذه الموسيقى التي سجلت هذا التوتر وخلدته، وموسيقى الشعر - كما قلنا سابقا – هي موقف فطري طبيعي من داخل النفس، جاء على شكل توتر، وهو استجابة لمحرك خارجي، فالخوف مثلاً هو موقف داخلي حركته حالة الشعور بوجود خطر خارجي، لأن الجهاز العصبي يتفاعل مع الأحداث الخارجية بتوتره ويرسم درجات هذا التوتر ارتفاعاً وتدرجاً وانخفاضاً، على شكل قمة وقاع في الرهب والرغب بالتوتر المناسب، فارتعاد الفرائص في حالة الخوف مثلاً، يصنع إيقاع الخوف، وانفراج الأسارير يصنع التوتر الذي يفرز إيقاع السرور، وعلم العروض (موسيقى الشعر) يسجل حركة التوتر والإيقاع ويرسمها بالقمة والقاع المناسب، كما يرسم جهاز تخطيط القلب حالته ونبضاته، ومن عجائب علم العروض أن يسجل لحظات الإبداع، ويحافظ على نقل حيويتها في قلب الشاعر من خلال أوزانه الدقيقة في التفاعيل والزحافات والعلل التي ترصد التعبيرات في التوتر الشعوري بدقة متناهية، ليحمي الإبداع من الضياع في زحمة الحياة وأحداثها، ويقف سدا في وجه النسيان والاندثار بفضل هذه الموازين الدقيقة.

2- الطبقة الثانية (طبقة الصوت الجميل)

ومع أن الصوت الجميل عندما ينشد النص أو يغنيه، هو صوت يأتي من خارج النص، إلا أنه يتماهي مع النص في أصواته ومبناه ومعناه، ويخضع للتفاعيل والزحافات والعلل التي تحكمه، حتى يصبح كأنه من داخله، وهو بهذا الصوت الجميل ينقل الوزن والإيقاع من حالة الكمون والاختباء ويحمله إلى أذن السامع ليتفاعل معه.

والسؤال المطروح هنا هو: ماذا يضيف صوت الإنشاد أو الغناء للوزن الشعري؟ والجواب هو أن الإنشاد والغناء يضيف الصوت الجميل للوزن الشعري ويوضحه ويزيده جمالا حين يستخرج موسيقى الشعر من عمق النص وداخله، ويحملها هذا حين يتفاعل مع معانيها ويحولها إلى صوت جميل مسموع، جمع بين (موسيقى الشعر والصوت الجميل) وكأن الغناء والإنشاد جاء فطرح النص بطريقة جميلة تجذب قلوب السامعين، وتحببهم في هذا النص الشعري، وترفع حالة التمتع والتذوق عند السامعين.

ويمكن إحداث ما يشابه الغناء والإنشاد في خدمة الشعر وإيصاله عن طريق فن آخر هو (فن الإلقاء) حيث يعطي قراءة الشعر والإيقاع نبرات صوتية تناسب المعنى، وتخدم موسيقى الشعر وتعرض جمالها أمام السامعين، وفي العصر الحديث أضيفت الموسيقي المرافقة لفن الإلقاء، لإضفاء الرونق والأجواء الجمالية بما يناسب معاني النص من خلال الصوت الذي يتمتع به الملقي.

وهذا معناه أن (موسيقى الشعر) تشكل الطبقة الأولى و (الصوت الجميل) يشكل الطبقة الثانية للإنشاد أو الغناء، وكلاهما حلال لا خلاف في حلهما بين علماء الأمة، فلا خلاف حول موسيقى الشعر الداخلية النابعة من توتر الجهاز العصبي في تفاعله مع حدث خارجي في لحظة الإبداع، ولا اعترض أحد من علماء الأمة على الطبقة الثانية، طبقة الصوت الجميل الذي أضافه الإنشاد والغناء الخالص المتقن، الذي تصنعه حالة الطرب والمتعة المنضبطة بالشرع، ويخدم الشعر ويحبب الناس فيه، ما دام خاليا من الآلات الموسيقية التي اعترض عليها عدد من علماء الأمة، بناء على ما فهموا من الدليل النقلي في الأحاديث الشريفة، وهو الأمر الذي نفاه علماء آخرون ضعفوا هذه الأحاديث، أو قيدوا فهمها بشروط معلومة ومحددة، تم ذكرها في الخلاصات الفقهية السابقة.

3- الطبقة الثالثة (طبقة الأصوات التي تصدرها الآلات الموسيقية)

في مرافقة الإنشاد والغناء.

وهي التي تشكل الطبقة الثالثة بالإضافة إلى ما سبق (طبقة الوزن الشعري وطبقة الصوت الجميل) وهنا نسأل ماذا تضيف الآلات الموسيقية للغناء والإنشاد من مؤثرات؟

فالطبقة الثالثة حين تجتمع مع (موسيقى الشعر + الصوت الجميل + صوت الآلات الموسيقية)، فإن صوت الآلات الموسيقية يضيف تضخيما خارجيا يتوائم مع الوزن الشعري والصوت الجميل، ويصنع حالة طرب عالية الوتيرة، مما يدفع إلى تسريع الاستجابة والاندفاع إلى طرب غير منضبط في كثير من الأحيان، والمعلوم أن الموسيقى العالية الصاخبة، تضعف الانضباط، عند السامع، وتصنع عنده حالة من الطرب الأرعن، حيث يخرج الإنسان عن الإتزان ويبعده عن طوره وأخلاقه الطبيعية، ويدفع به إلى حالة من الفوضى والاستهتار تحت تأثير هذه الموسيقى وتحديدا عندما ترافقها مكبرات الصوت، وهي حالة يجب أن يحتاط منها، وهذا الأمر يجعل العلماء والفقهاء يبحثون لها عن الضوابط التي تحمي الإنسان من هذا الطرب المنفلت والفوضى، وممارسة ما لا تحمد عقباه، وذلك من خلال الاحتكام للضوابط الشرعية، حتى لا تكون القضية تابعة لتقلب مزاج الأفراد ومذاقاتهم الفنية المتفاوتة، التي قد تدفع بعض الناس للتساهل إلى حد الانفلات، أو تدفع بعض الناس إلى التعنت والجمود، الذي يحرمنا من توظيف مواهب شبابنا في أمور ثقافية وتربوية ودينية وتعبوية، مفيدة للأمة في صناعة حياتها، لأن هذه الطبقة (صوت الآلات الموسيقية) تمثل الطبقة الحرجة والصعبة والمختلف عليها وفيها عند العلماء، والتي تؤتي الأخطاء والفوضى من قبلها، ولذا وجب ضبطها بالقواعد الصارمة وضرورة نظافة البيئة الفنية من دواعي الانحراف وأسبابه، وتركيز الإرشاد الفني للمنشد والملحن في هذه الطبقة.

4- الطبقة الرابعة: (وهي طبقة اللغة وعاء المعنى)

وهي الطبقة الحاملة للشعر والموسيقى والصوت الجميل، كما أن اللغة هي وعاء المعنى والحضارة والثقافة والفكر والفن.

تحتوي في بحرها أسرار اللغة وعبقريتها ودقائقها وخصائصها، وتأتي اللغة الشعرية حاملة للبناء الفني ومضامين المعنى والإيقاع والوزن، حتى أن تفاعيل العروض التي تحفظ الأوزان وتخلدها على شكل قمة وقاع ومن خلال الزحافات والعلل، هي من حروف هذه اللغة، التي تمثل الطاقات الصوتية للجهاز اللغوي الذي يمتد من الشفتين حتى اللهاة، ويشكل المدرج الصوتي لحروف اللغة العربية أفضل مدرج صوتي من بين لغات العالم، لأنه يمكن الإنسان العربي من نطق جميع لغات الأرض كما ينطقها أهلها، بينما لا يستطيع غيره نطق بعض حروف العربية وهذا يساعد العربي على تشكيل صوته والتحكم بدرجاته بما يتناسب مع معاني النص من خلال تنويع النغمات وسهولة الأداء ويسره.

إن التكلم عن هذه الطبقة معناه التكلم عن مضامين الفن، ومدى قدرة المنشد على اختيار النص الذي يريد أن يتغني به على مسامع الناس، وكما أن الموسيقى لها علاقة بصناعة الهياج والإثارة أو الرزانة والهدوء، فكذلك طبقة اللغة تشارك في صناعة هذا التأثير، والتحكم في إدارة هذا التأثير من خلال المعاني التي يخاطب بها الجمهور.

وهذا المعنى الذي تحمله اللغة إلى قلب السامع في الطبقة الرابعة، حيث اللغة والخيال الشعري والطبقات الثلاث (الوزن والصوت الجميل والصوت الموسيقي) جميعها تشارك في إيصال المعنى مجتمعة، إلى قلب السامع من خلال هذا المركب المعقد المتداخل من (الوزن والصوت الجميل وصوت الآلة الموسيقية واللغة التي تحمل المعنى) ومن خلال الحناجر الموهوبة التي تصدح بالألحان والأصوات العذبة، التي تحدث الإعجاب والإنجذاب لفن يروحُ عن الناس، ويؤثر في سلوكهم واختيارهم، هذه الطبقة تحملها لغة البيان (علمه البيان) ويوصلها (الصوت الجميل) وتحركها      (أدوات الإيقاع) تحمل (المعاني) التي يفترض أن تنسجم مع قيم ومعتقد الأمة وتحبب الناس فيها، وإذا خالفت قيم الأمة وعقيدتها نسقط هذا الفن، ولا يغرينا ما فيه من عناصر الجمال، حتى نحمي الأمة من عبث العابثين، لأن الجمال إذا خالط الباطل فقد وظف في غش الأمة وخداعها وإفسادها، وحري بنا أن نعامله معاملة من يسكب وعاء الزيت بما فيه، لما خالطه من نجاسة الفأر الذي وقع في الإناء، والفن وعاء جميل يجمل مضمونه الجميل أو السيئ، ونحن إما أن نستمتع بجماله النظيف، أو أن نكتشف السوء فيه، فنرمي به في الهاوية غير آسفين عليه .

7- الكل يبحث عن الدليل الشرعي.

إنقسم علماء الأمة في قضية حكم الغناء والإنشاد في الإسلام إلى عدة أقسام، ولكل قسم منهم أدلته الشرعية في التحريم أو التحليل، والمهم عندنا في هذه القضية هو ضرورة طرح جميع الآراء الفقهية، وعدم حجب  أو إخفاء أي منها عن الناس، لان في حجب الآراء تضييق على الأمة، وتزكي من الحاجب لحقيقة نفس وهو أمر مرفوض شرعاً، وفيه إخفاء لحقائق الفقه، وحرمان للناس من حقهم في العلم والمعرفة والاختيار في القضايا الخلافية، وفي هذا السلوك الفقهي انتصار لفقه الذات وحجب لفقه الآخر المقابل، الذي ربما يكون عنده من الفقه والعلم أفضل مما تريد فرضه على الناس من فقهك الذي اخترت لهم.

أما أقسام العلماء في قضية البحث عن الدليل الشرعي فهي كما يلي:

1- فريق أراد الأخذ بظاهر النصوص الشرعي، التي تفيد تحريم إدخال الموسيقى على القصائد الشعرية المغناة، والاكتفاء بقصرهم (الغناء والإنشاد)  على (موسيقى الشعر وطبقة الصوت الجميل) في أحسن حالات السماح بالإنشاد في فقههم.

2- وفريق مال إلى نصوص شرعية، تقول بإباحة عنصر موسيقى محدد هو (الدف) لضبط الإيقاع والوقوف  عند هذا الحد، وقد اختلف معه كثيرون في قضية تحديد الآله وذكروا آلات أخرى أباحها العلماء، وكثر الاستثناء في ذلك مما يشكك في قوة هذا الطرح.

3- وقسم رأى أن الفتوى يجب أن تفصل لصناعة الفقه الصحيح الذي لايضيق الطريق أمام هذا الفن في هذا العصر، ويقيد استعمال الموسيقى في حدود الحاجة والضرورة، وذلك لأهمية الموسيقى في عصر أدخلت فيه الموسيقى في صياغة الثقافة والتربية والإعلام والفنون وغيره، وهذا الفريق من العلماء يرى أن استعمال الموسيقى بضوابط شرعية ومفصلة من الأمور الضرورية للأمة، واعتمد أسسا لهذا الفقه يقوم على:

1- أن فقه النصوص الشرعية الواردة في هذا الباب لا يفيد التحريم في (الآية) التي ذكرت لذلك (ومن الناس من يشتري لهو الحديث........) والأحاديث التي استشهد بها في هذا الباب فيها ضعف وعلل لا ترقى بها إلى مستوي الحديث الصحيح. الذي يعتمد عليه كدليل شرعي.

2- يجب أن ينظر إلى النص الذي يراد إنشاده وما يحمل من المعاني، فقد يكون النص محملا بالمعاني الجميلة التي تنصر الدين، وقد يكون النص محملا بالمعاني السيئة التي تخالف شريعة الأمة، ومخالفة شريعة الأمة علة كافيه لتحريمه.

3- عدم الإسراف في استعمال الموسيقى الخارجية (صوت الآلات الموسيقية) والاكتفاء من الإيقاع بالدف وبعض الآلات الأخرى التي تساعد في خدمة معاني الشعر الراقية ويحبب الناس في السماع لها، وهذا الاتجاه من العلماء انتصر لفقه مجموعة من العلماء في هذا الموضوع أمثال: إبن حزم الظاهر والفقيه إبن العربي المالكي والأمام الغزالي والقرضاوي والطنطاوي وغيرهم، ليسهل على أهل المواهب من أبناء الأمة صناعة الفن الإسلامي،الذي يواجه الفن الهابط الذي يعصف بأخلاق شباب الأمة.

4- من الأمور الضرورية في هذا المجال ربط الممارسة الفنية بالأجواء الرزينة الجادة، التي تساعد على التمتع بهذا الفن من خلال الطرب العاقل النظيف من أجواء الفتنة وأوساخها، وبهذا فهو يطالب بممارسة الفن النظيف في البيئة النظيفة من خلال طرب يحافظ على الأخلاق، ويبتعد عن تقليد السائد من الفن الهابط في هذا العصر، كالملابس الفاضحة التي تستجيب للطرب الأرعن والأحمق عند الشباب، ويخالف بذلك مقتضيات الشرع، كما تفعل فضائيات الأطفال، التي تقلد الملابس العارية لأهل الفن الهابط، بحجة براءة الأطفال والطفولة، بدلا من تعويد الطفلات المنشدات منهن على اللباس الساتر، الذي يصنع الحياء المبكر لديهن، ويعممه على البيوت التي يصلها بث هذه القنوات. ويواجه حالة التعري التي يصنعها هذا الفن الحديث والتي أدت إلى اختراق أخلاق الأمة، لأننا عندما نقلد لباس هؤلاء القوم، نكون كأننا اعتبرنا سلوكهم هو القاعدة وأخضعنا أنفسنا لهم، ثم لا بد من منع الطفلات من الإنشاد إذا اقتربن من سن البلوغ، والاكتفاء بالصوت الطفولي البريء، حتى لا نقع في الحرمة ونقع في صناعة جيل جديد من القيان.

8- الصيد المستخرج من هذا البحث على مائدة

التناصح (للمنشد والملحن والشاعر والفقيه والمتلقي)

1- إنتقاء القصائد ذات المعاني الراقية، والألحان السلسة التي تتناسب مع قيم الإسلام السامقة، وتنظيف  الإنشاد من الشطحات الصوفية وانحرافاتها في الكلمات وكذلك ما يرافقها من سلوكيات الرقص والتمايل والهوس المخالفة للدين في جميع أحوالها، يضاف إلى ذلك تنظيف ما أضافه الغناء الحديث من المعاني الغثة والمشاعر الرخيصة التافهة.

2- البدء باختيار القصائد التراثية المغناة، والتميز ين غثها وسمينها للاستفادة من خبراتها الأدائية ورفع الذائقة الفنية لدى الجمهور والمنشدين.

3- ثم يتبعها انتقاء النماذج الممتازة من الشعر المعاصر، الذي يرفع الذائقة الفنية وتربية الأبناء ويتناسب مع مزاجها الأخلاقي، ويخدم مكونها الثقافي من (الدين واللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والقيم والمصالح المشتركة) لأبناء الأمة.

4- تفضيل إنشاد النص الفصيح، وتقديمه على غيره لفائدته العظمى في ربط أجيال الأمة الجديدة بلغتهم، التي تشكل الوعاء الثقافي والحضاري، وهي الحافظة التي تحفظ على الأمة وحدتها في الدلالة الموحدة في ألفاظها ومصطلحاتها في فهمها وفكرها، وألا تقبل على إنشاد النصوص العامية إلا في الحدود الضيقة حتى لا تغرق الأمة فيما يشتتها ويباعد بين أجيالها.

5- الابتعاد عن أنانية الاحتكار، التي تجعل بعض المنشدين من أصحاب الأصوات الجميلة تستجيب للغرور القاتل الذي يدفعه إلى أن يصبح هو كاتب النص ومنشده وهو الذي يلحنه، لأن ذلك يوقعه في تكرار الذات والضعف، ولذلك يجب على المنشد أن لا يتعب نفسه إلا في الدربة والأداء والإتقان، وأن يختار نصا مناسبا لصوته، ويترك لملحن آخر يفيد في اللحن والأداء، حتى يحصل الإبداع من خلال توزيع الأدوار والتقاء المواهب وتبادل الخبرات بينها.

6- القرآن الكريم هو البحر المحيط، الذي يمد الأصوات الجميلة بمخزون من الخبرات التدريبية، التي تصقل جهازهم الصوتي، وتعلمهم النطق الجميل للحروف من مخارجها وعلى أصولها، ولسنا بحاجة إلى خلط مدرجنا الصوتي بالألحان الأجنبية، ومخارج حروفها التي تخالف ذوقنا وإيقاع لغتنا.

7- من الأمور الضرورية للمنشد أن يتعلم شرح النص الذي يرغب في إنشاده، ويتبحر في فهم معانيه قبل إنشاده، لأن ذلك يعمق من تفاعله مع النص،  أثناء عملية الإنشاد، ويزيد من استجابة الموهبة للعطاء والتفاعل بأعلى درجاته الظاهرة، وربما يكشف عن الطاقات المخبوءة في الخامة الصوتية وتجلياتها عند صاحب الموهبة.

8- على المنشد أن يتذكر أن هذا الصوت الجميل هو عطاء ونعمة من الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يتقى الله في هذه الموهبة ويحميها من التوظيف في العبث واللهو الضار بالأمة، لأن ذلك من شكر النعمة ومن دواعي تمامها.

9- على الملحن أن يدرك أن القليل من أصوات الآلات الموسيقية التي تخدم اللحن يسد الحاجة، وأن الموسيقى في الإنشاد والغناء، مثل استعمال الملح أو السكر في الطعام، قليله يسد الحاجة وكثيرة يصنع المرض، وكذلك كثرة الموسيقى تصنع الضجيج وتضيع الانتباه إلى المعنى، وأن قليلها يسد الحاجة في المتعة والطرب العاقل الرزين بعيدا عن الغناء الأهوج والموسيقى الصاخبة التي تصم الآذان وتصنع الصداع في الرأس، ومما يساعد على الهدوء والسماع المتزن ضبط مكبرات الصوت والتحكم في وتيرتها؛ لمنعها من التضخيم والصخب المزعج.

10- إن غياب (حالة الأستاذية) التي تفيد في تعلم الفن وأصوله من أستاذ خبير صاحب دين وعلم بتأثير الموسيقى على نفوس السامعين وتجربة ناضجة يقدمها للجمهور، يفقد المنشد البداية الصحيحة الواعية، التي تبصره بالمسار السليم، لأنه ليس له أستاذ يحترمه في علمه ويعول عليه، ولذلك يعيش هذا المنشد على نظام التجربة والخطأ ولا يتعلم إلا القليل، ويدفعه الغرور إلى الانطلاق من أفكار رأسه متخبطا في التجريب، لا يعرف نقد ذاته ولا مراجعتها، ولا يوجد عنده المرجعية التي يستنصحها، فيقع في تكرار الذات وفخاخ السطحية، وعندها يفقد الجاذبية والجمهور، وهذا الحال يحرم فن الإنشاد من التقاليد الراسخة والمدارس  الفنية، التي تشكل ملامح الإبداع والتطوير الجاد المبني على أصول راسخة.

11- (للموسيقى من الآثار الإيجابية الشيء الكثير، فمنها ما يضحك ومنها ما يبكي ومنها ما يثير الحمية للجهاد، وليس الخلل في الآلات الموسيقية الصماء)(6) ولكن الخلل في الإنسان الذي يسخر نعم الله لخدمة أهواءه، وينسى أن هذه النعم تحتاج إلى التوظيف الصحيح لها، وإلى شكر المنعم على ما سخر لنا في هذه الحياة لخدمتنا.

12- يقول الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي في كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) (ومن اللهو الذي تستريح له النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به الآذان الغناء، وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم، ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة...) وقد فصل الشيخ ذلك من خلال الأحاديث المثبتة والرخص فيه والمحاذير اللازمة للأمر في كتابه(7) جزاه الله خيراَ.

9- إلى العلماء والفقهاء

في هذا الموضوع، الذي يخص الشعر والغناء والإنشاد والموسيقى، جمعنا ما يسر الله من المعلومات والعلم والفهم في هذا الأمر، ونحن لا نفتي بقدر ما نقدم هذه الخبرة بين أيديكم، حتى تحسموا الأمر وتوضحوه في الفهم وفي الممارسة، التي يسمح بها شرع الله دون الوقوع في (التشدد) ولا الوقوع في (الانفلات) ولا الوقوع في الحال التي نحن فيها غارقون وهي (تعويم الأمور) التي تدفع إلى عدم الاكتراث بالضبط الشرعي لهذا الأمر، وذلك لتيسير فقه المسلمين لأمور دينهم ودنياهم، فاعملوا في هذا الأمر وغيره، لخدمة هذا الدين وتعلموا من منهجه r حين قال: (ولكن سددوا وقاربوا).

هذا ما فتح الله به علينا، ولكم الحرية في تعديله أو موافقته أو مخالفته أو الحذف منه أو الإضافة  إليه، المهم أن تحيا الأمة، وتمارس حياتها من خلال فقهها لدينها، ومن خلال نهجه القويم.

هوامش

الباحث التونسي الصادق الرزقي / كتاب السماء تغني عزالدين المناصرة / مكتبة مجدلاوي ص 7. كتاب الفكر الصوفي / الاستاذ عبدالرحمن عبدالخالق / دار الحرمين / القاهرة 1993 ص684. الأية (6) من سورة لقمان. الأستاذ عبدالجبار سعيد جريدة الرباط 9/حزيران/1993. فتوى نشرت في جريدة الدستور مفقودة التاريخ وهي منسوب للشيخ شلتوت. من مقالة الأستاذ عبدالجبار سعيد الفصل الأول من الكتاب. كتاب الحلال والحرام في الإسلام للأستاذ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي/ طبعة المكتب الإسلامي 1973 بيروت ط7 ص291-295. نصوص الأحاديث وتأصيلها اعتمدنا فيه مقالة الأستاذ حسان عبدالمنان المقدسي الموجودة في الفصل الأول من الكتاب منقولة عن جريدة الرباط. تمت الاستفادة من كتاب محمد طارق الكاتب ( العروض والأرقام          الثنائية )، كتيب عن الشيخ محمد الحامد عالم حماة، وكتاب المفكر الإسلامي محمد عمارة عن الثقافة الإسلامية الصادر عن معهد الفكر الإسلامي.

10. ملاحظة: الإمام الشافعي أدرك بدايات انتشار التصوف وكان من أكثر العلماء والأمة إنكاراً لهم ومما قال بهذا الصدد ( لو أن رجلاً ً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق ) أما قوله ( تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة شيئا يسمونه السماع ) ( يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في أواخر القرن الثاني الهجري  وما زال مسلكهم إلى اليوم )، الفكر الصوفي عبدالرحمن عبدالخالق ص664.

وسوم: العدد 664