قراءة في قصة "الضيف" للكاتب الفرنسي ألبير كامو

قراءة في قصة "الضيف"

للكاتب الفرنسي ألبير كامو

عبد العالي زغيلط

أستاذ بقسم اللغة والأدب العربي /جامعة جيجل ــــــــــ الجزائر

[email protected]

ملخص القصة:

   ــ قصة الضيف هي إحدى قصص مجموعته المعنونة بــ "المنفى والملكوت" والتي ظهرت لأول مرة عام 1957،وتضم إلى جانب قصة الضيف قصصا أخرى،وهي:المرأة الزانية،المارق،الصامتون،جوناس(الفنان يعمل)،والحجر النامي.

وقصة الضيف بسيطة للغاية،خلاصتها:

يعيش الناظر "دارو" وحيدا في مدرسته بالهضاب العليا الجزائرية،يعمل مدرسا،وبالإضافة إلى مهنة التدريس هذه فقد أسندت إليه السلطات مُهمة توزيع المؤونة على السكان الذين أصابهم القحط والجفاف.

ذات يوم شات وصل إلى المدرسة دركي له به سابق معرفة يسحب خلف جواده عربيا مقيدا،ويطلب من "دارو" أن يسلم هذا السجين العربي إلى الشرطة في المدينة المجاورة،بعد نقاش حاد بينه وبين الدركي يوقع "دارو" وثيقة الاستلام،ولكنه بالمقابل يرفض التنفيذ وتسليم العربي،بل يأويه،ويكرمه،ويزوده بما يحتاجه،ثم يخلي سبيله،إلا أن العربي قرر بمحض إرادته تسليم نفسه للشرطة.وغِبَّ عودة الناظر إلى مدرسته ألْفَى السبورة عليها كتابات تهديد من قبل السكان يتهمونه فيها بتسلم أخ لهم.

الشخصيات:

      تتمحور القصة في ظاهرها السيميائي حول ثلاث شخصيات هي:الناظر "دارو"،والدركي "بالدوكي" والسجين "العربي".ويمكن رسم الشخصيات من خلال المؤشرات اللسانية المبثوثة في النص سردا،ووصفا،وحوارا مما يسمح بوضع خطاطة لكل شخصية من الشخصيات الثلاث:

الناظر(دارو Daru):

هو الشخصية الرئيسة في القصة والمالك لكل وظائف الراوي والأوصاف التي ألصقت به إما صادرة عنه وإما صادرة عن الدركي بالدوكي،ولا نعثر على جملة واحدة يصف بها العربي الناظر.

الجسد:يبدو قويا من خلال ملفوظات صدرت عنه إذ يصف نفسه بالقول أنه "في وسعه إذا اقتضت الحاجة أن يشطر خصمه شطرين"[1] في حين يصفه الدركي بالقدرة على السير لمسافات طويلة فيقول:"مسافة عشرين كيلومترا لا تقلق إنسانا خشنا مثلك"[2] ومن غير هذين الوصفين لا نعثر في النص على ما يحدد ملامح الناظر/الراوي.فالقوة البدنية هي السمة البارزة.

الوضع الاجتماعي: للراوي اسم(دارو)،ووظيفة "معلم مدرسة له عشرون طالبا أو يزيدون من سكان الأهالي "[3] وله بيت توفرت فيه "مؤن تكفيه مدة طويلة،يقاوم فيها أي حصار يفرض عليه،فقد اكتظت الغرفة الصغيرة باكياس القمح..."[4] والوضع الاجتماعي للناظر لا يقتصر على الاسم والوظيفة بل يتعداه إلى العلاقات،فهو على علاقة طيبة مع السكان العرب،فقد "جرت عادة دارو،على أن يوزع عليهم[أي على السكان]في كل يوم حصة من القمح...لتمكينهم من احتمال ضائقتهم حتى الحصاد القادم"[5] ومكانته الاجتماعية في أوساط العرب لا تقل عنها أهمية مكانته في محيطه الفرنسي،فالسلطة الفرنسية منحته حق التصرف في تموين السكان بالقمح،كما أنها وضعت ثقتها في شخصه كي يسلم سجينا إلى الشرطة.

نفسيته: تتضح نفسية دارو بشكل كبير من خلال المواقف التي يبديها تجاه محيطه،ومن خلال الاستذكار الذي يعطينا انطباعاته حول ما يجري حوله،فقد "عاش في مدرسته النائية ...شاعرا بنفسه كسيد"[6]  وهذا الشعور يؤكده الدركي بالقول:"لقد كنت دائما أقول إنك شديد الزهو بنفسك"[7]

الدركي (بالدوكي):

   إنه الشخصية الثانية في القصة،وهو الآخر يملك اسما ويمارس وظيفة،وفي النص من القرائن اللسانية ما يحدد هويته ووظيفته.

الجسد:بالدوكي عجوز كورسيكي[8] بشاربه الخشن،وعينيه السوداويتين الصغيرتين الغائرتين،وجبهته التي لوحتها الشمس،وفمه المحاط بالتجاعيد من كل ناحية[9]

الوضع الاجتماعي:وضعيته الاجتماعية تتجلى في النص من خلال ما يصدر عنه أو عن الراوي وتكشف عن كونه ليس غريبا عن الراوي،"الذي عرفه منذ عهد بعيد"[10] فهو يعمل في الأمن،ويتابع بشكل جيد التطورات الأمنية فيخبر محدثه بأن "الأمور في طور التخمر فهناك حديث عن ثورة قادمة"[11]  كما أنه يعرف ما يستوجبه وضع كهذا فينصحه "بأن يكون مسلحا"[12]

نفسيته:تلوح نفسية بالدوكي من خلال المؤشرات اللسانية الموزعة في النص عن رجل حذر ومؤمن بوظيفته،كما تصدر أحكامه عن موقف مبدئي يكمن في انتمائه إلى جماعة بعينها تحسبا لمواجهة أي طارئ يقول:"إذا وقعت الثورة لا يأمن الإنسان على نفسه،إننا جميعا في نفس القارب"[13]

العربي:

هذا هو اسمه،أما وظيفته فسجين بيد بالدوكي ليسلم إلى شرطة المدينة بواسطة الناظر دارو،والنص غني بوصف العربي،إلا أن هذه الشخصية لا تحمل اسما سوى:العربي.

الجسد واللباس: جسد العربي موصوف من قبل الراوي(دارو) فقد لاحظ الراوي"قبل كل شيء شفتيه الغليظتين الضخمتين كشفاه الزنوج،ومع ذلك كان أنفه مستقيما وعيناه سوداوين تغمرهما الحمَّى،وكشفت "اللبدة" عن جبهة عنيدة،وبدا وجهه كله تحت جلده المغضن..."[14]وعن لباسه فقد كان "يرتدي جلابية زرقاء ناحلة،وقد وضع في قدميه زوجا من "الصنادل" تغطيها جزات من الشعر الكثيف الخام،وعلى رأسه لبدة قصيرة ضيقة"[15]

الوضع الاجتماعي:العربي سجين بسبب جريمة قتل ارتكبها في حق ابن عم له "نزاع عائلي... كان أحدهما أقرض الآخر قمحا..على كل حال،قتل ابن عمه بمطواة معقوفة وكأنه من الغنم"[16]

نفسيته: نفسية العربي تكشفها الجمل الدالة على ردات فعله إزاء ما يفعله كلُّ من الدركي والناظر،فالحيرة والاستسلام هما السمتان اللتان أراد الراوي أبرازهما إذ"كان يتطلع بعينيه المفتوحتين إلى سقف الغرفة وقد بدت شفتاه الغليظتان في هذا الوضع بصورة واضحة للغاية مكسبتين أياه منظر التجهم والعبوس"[17]

العنوان:

   الواقع أن عنوان القصة "الضيف" "l’hôte" يبعث على الارتباك على مستوى التلقي القارئ،فإذا كان العنوان "معيارا كافيا لتحديد الهوية"[18]  أي أن من وظائفه منح هوية للنص، فإن العنوان في قصة "الضيف" "l’hôte" يشتت هذه الهوية ويلقي عليها ظلالا من اللبس خاصة في الأصل الفرنسي،فإذا كانت الكلمة في اللغة العربية تحيل على المعنى المعجمي المعروف،فإنها في الفرنسية تحيل على المعنى وضده.أي أنها من المشترك اللفظي،فـ" l’hôte " هو الضيف والمضيف في الآن نفسه،كما أنها تحيل في أصلها اللاتيني على الغريب"l’étranger"،إلا أن ظلالا من المعنى تلازم الكلمة،فهي تشير أيضا إلى العدو" l’hostile " ومهما يكن من أمر فإن قراءة القصة سيكشف مكمن هذا اللبس القابع في العنوان.

الشخصيات:

تقدم الجمل الواصفة لشخصيات القصة الثلاث قرائن ثمينة للتأويل وإذا كان تأويل العلامة كما يقول إيكو "يعني تعريف جزء من المضمون المنقول في علاقاته مع الأجزاء الأخرى المستمدة من التجزئة الكلية للمضمون"[19] فإن استنطاق هذه الجمل لا يقدم لنا المعاني التي يوحي بها النص فحسب بل يكشف عن النص الثقافي الذي تنزل منه النص،وكيفية اشتغاله،وتوجيهه للدلالة.

   تشتمل القصة في مستواها السطحي على ثلاث شخصيات وهي كما سبق الإشارة إليه:المعلم دارو،والدركي بالدوكي،والسجين العربي.

وبما أن "الطابع الدلالي للشخصية ليس معطى قبليا ومستقرا حتى يمكن التعرف إليه بصورة صرفة،بل هو بناء يتم تدريجيا،خلال زمن القراءة،وخلال زمن المغامرة التخيلية"[20] فإن ذلك يعني أن مدلول الشخصية الذي "يمكن بلوغه من التحليل والوصف"[21] لن يتوقف عند هذين الإجراءين،بل يتجاوز ذلك إلى التأويل وفقا لنظام العلاقات القائم بين الشخصيات،وتبعا لمنظومة القيم الثقافية التي تؤطر شخصيات القصة،وهذا يعني أننا أمام شخصيتين مرجعيتين.

الفرنسي:

كان تمثيل الفرنسي بشخصيتين رئيستين هما: الدركي بالدوكي والمعلم دارو

دارو:لم تكن الجمل الواصفة الصادرة عن الراوي حول دارو هي ما يعطيه الصدارة ويدفع به إلى مسرح الحدث ويجعل منه سيدا،بل إن وظيفة الحكي التي نيطت به ولو باستخدام ضمير الغائب هي ما يحقق له هذه السيادة لا على مستوى المرجع بل على مستوى النص،فبقية الشخصيات سترتسم في واعية القارئ تبعا لملفوظات الراوي، وطبقا لوجهة نظره،فالراوي هو من "يجسد المبادئ التي ينطلق منها إطلاق الأحكام التقويمية وهو الذي يخفي أفكار الشخصيات أو يجلوها"[22]

وبالعودة إلى النص يتبين لنا أن الراوي (دارو):

ü     يمتلك اسما،(دارو)،ووظيفة (معلما-ناظرا)،ومكانة اجتماعية مرموقة بين الأهالي كما بين الفرنسيين،وبالإضافة إلى ذلك كله فإن له ماضيا أي سيرة ذاتية،أو قصة من أجلها يوقف السرد وينصرف إلى ذكرها باعتزاز."وأن تكون لشخصية ما قصة معناه أنها تملك مواصفة إضافية تخبر عن تاريخ هذه الشخصية وامتدادها في الماضي أو المستقبل أو كلاهما معا"[23]

ü     يمتلك منطقا في فهم الأحداث وحججا يدافع بها عن مواقفه،أي نيطت به إلى جانب وظيفة الحكي وظيفة تفسير ما يحكيه وفقا لإطار مرجعي محدد(الثقافة،والقانون الفرنسيان) فها هو يرفض استلام وتسليم العربي ويقدم على ذلك حجته:"إن هذا ليس من عملي"[24]

ü     إنه يملك ويمنح،يملك بيتا ومزرعة"فقد اكتظت الغرفة الصغيرة بأكياس القمح،الذي تركته الإدارة كمخزون لها توزعه على ذلك النفر من طلابها"[25]وهذا ما يؤهله لاستقبال الضيوف وإكرامهم.

ü     يمتلك المعرفة التي تؤهله للاضطلاع بالمهام التي توكل إليه،كما تمنحه الثقة بالنفس والقدرة على التواصل مع محيطه،فغرفة الصف التي يدرس بها ترتسم على لوحها" أنهار فرنسا الأربعة،"[26]وله بالإضافة إلى ذلك ريشة خشبية "يستخدمها عادة في كتابة نماذج من الخط لطلابه"[27]

ü     وأهم من ذلك كله هو الحرية التي يتمتع بها، فهو في مدرسته تلك «كراهب، قانعا بالقليل الذي يملكه، وبالحياة الخشنة التي يعيشها وشاعرا بنفسه وكأنه سيد"[28]

أما عن الدركي بالدوكي فإنه يتبين من خلال النص أي من خلال ما سمح به الراوي عن:

ü     شخصية تملك أسما ووظيفة ،لا تفرط في الجماعة التي تنتسب إليها،ولا تقصر في أداء واجبها تجاه ما يحفظ أمنها واستقرارها،كما أن شخصية بالدوكي تبدو معجبة بشخصية الراوي دارو معتبرة المهمة الموكلة له مكملة لرجل الأمن.

ليس دارو إذن معلما مكتفيا بدوره التعليمي في قرية نائية،كما أن بالدوكي ليس دركيا فحسب بل هما يمثلان معا شخصية مرجعية واحدة،"وحضورهما المشهود منذ بداية النص والوظائف التي يشغلانها هي أكثر أهمية من كونها "مرساة مرجعية"[29]

إن العلاقة القائمة بين دارو وبالدوكي مبنية على معرفة بينهما سابقة ،فقد تبين من بداية النص "أن الفارس لم يكن إلا الدركي الشيخ بالدوكي،الذي عرفه منذ عهد بعيد"[30] وهذه المعرفة السابقة سهلت التواصل بينهما،إلا أن التواصل لا يتوقف عند هذا الحد،بل يمتد إلى اللغة المشتركة والجماعة المشتركة،وأما عن الخلاف الذي طرأ على تلك العلاقة فمردّه كيفية التصرف مع العربي،إذ يرى الدركي تسليمه إلى الشرطة في المدينة المجاورة،في حين يسعى دارو إلى إطلاق سراحه،أي أن الموقف من كونه عربيا ــــــ ولا حاجة لمعرفة اسمه أو تفاصيل جريمته ـــــــ هو موقف مشترك بين الدركي والمعلم،ومكمن الخلاف هو كيفية التصرف تجاه هذا العربي،بالمعالجة الأمنية،أم بالمساعدة على تخطي حالة التخلف القابعة في نفسية العربي.

العربي:

الشخصية الرئيسة في القصة لا تملك اسما،ومع أن "التسمية [هي]أبسط أشكال التشخيص،وكل تسمية نوع من أنواع  البعث والإحياء وخلق الفرد"[31] فإن هذا القدر من مقومات بناء الشخصية سرديا يضل غائبا عن شخصية السجين الموسومة بالعربي،أو العربي الموسوم بالسجين.

وإذا كان "وجود الشخصية تابع أولا للاسم الخاص ـ الموحي بالفردية ـ هو واحد من الأدوات الأكثر فعالية لأثر الواقع"[32] فإن العربي لا يحمل من الأسماء إلا اسم فصيلته التي لم تعد تأويه والتي انفصل عنها بسبب جريمة قتل ارتكبها ،كما أنه لا يحوز من الوظائف سوى كونه سجينا،فبينما يتولى الراوي وصف مظهره الخارجي أي في لباسه،وهيئته،وملامح وجهه،فإنه لا يتردد في تشبيه فمه بفم الحيوان"ولم يتمكن من رؤية شيء إلا العينين السوداوين البراقتين وفم الحيوان"[33] أما قتله لابن عمه فإنه تم كما لو أن المذبوح خروف"لقد قتل ابن عمه بمطواة وكأنه من الغنم"[34]

فالراوي هنا يقوم بالوصف،ولكنه وصف غير محايد يلجأ من خلاله إلى المقارن والتشبيه بالحيوان،والواقع أن المقارنة هي إحدى أدوات الأيديولوجية كون "الأيديولوجية تأخذ دوما شكل مقارنة محذوفة أو ضمنية في كثير أو قليل"[35]،فالذات الواصفة أي الراوي يملك حق تشكيل صورة موضوعه العربي،أو بعبارة أدق يعيد رسم الصورة التي ما انفك الاستشراق  ـــــ والاستشراق الفرنسي تحديدا ـــــ يصنعها عن العربي حتى صارت أيقونة تُسْتَدْعى سرديا من ذاكرة مشبعة بالانحياز المسبق ضد العربي.

إسكات الشخصية:

   ليس غريبا أن تضم مجموعة كامو القصصية قصة بعنوان "الرجال الصامتون"،ولكن الغريب أن يكون بطل قصــــــة "الضيف" صامتا هو الآخر،فالجمل الواصفة لهذه الشخصية لا تؤكد إلا حالة الصمت التي كان عليها العربي فهو يراقب الراوي "دون أن ينبس ببنت شفة"[36] في حين بدت أثناء نومه"شفتان غليظتان بصورة واضحة للغاية مكسبتين أياه منظر التجهم والعبوس"[37] أما فمه فلا يفتح إلا للدلالة على عدم الفهم فـــ"قد فتح فمه،لا شك أنه لم يفهم"[38] وكيف يفهم وفمه "فم حيوان"[39]

إن حيونة العربي ليست لخفض قيمته فحسب في سلم الحضارة الذي ينسبه الراوي لنفسه باعتزاز،بل إن هذا الإسكات له وظيفة سردية تنداح عنها دلالات،فالفم الذي هو عضو النطق عند الإنسان يشبهه الراوي بفم الحيوان،في معرض وصفه للعربي ولأن الحيوان لا يتكلم،فإن من يملك فما كفمه لا يصح أن يتكلم،والحق أن الإسكات يتم بطريق أخرى،إذ أن الحوار الذي دار بين الدركي والمعلم حول هذا السجين العربي يؤكد أنه لا يعرف من حوارهما شيء،فقد أخبر الدركي لما سأله الراوي فيما إذا كان العربي يتكلم الفرنسية أجاب بشكل قاطع ومؤكد:لا.ولا كلمة واحدة[40]

 إن الإسكات إذن تم بطرائق عدة ف"الواقعة الأيديولوجية في نص ما تمر بالبناء والإخراج الأسلوبي للجهاز المعياري النصي المجسد في الملفوظ"[41]،ومن هذه الملفوظات تحديدا :الحوار.فإذا كان الحوار يعني العرض بدلا من السرد،وإذا كان الحوار يقرأ على أنه صوت الشخصيات بلا توسط من الراوي،فإن غياب العربي عن الحوار في القصة يعني ببساطة أنه غير جدير بالحوار،أو أنه لا يمثل طرفا في أية قضية،أو أنه لا يملك أداة الحوار ألا وهي اللغة،ومن الواضح أن تغييب العربي عن الحوار مرده هذه المبررات مجتمعة،يضاف إليها جميعا أن العربي في القصة أداة وليس ذاتا.

العربي الضار:

صحيح أن تسليم العربي إلى الشرطة مرورا بالمعلم،لا يمتلك المعقولية المرجعية،بيد أن قراءة العلامة في إطاره العام تجعل الفعل مبررا ومعقولا،وهذا ما نبه إليه الدركي بالدوكي عندما رفض الراوي/دارو تسليم السجين إلى الشرطة بحجة أن ما يسند إليه ليس من مهماته،فقد جبَّهه الدركي بالقول:"في أيام الحرب يقوم الناس بأداء جميع أنواع المهمات"[42]

إن إصلاح الضرر الذي أوقعه العربي بابن عمه سيسبب ضررا بالغا للفرنسي،المعلم دارو،ورفضه التسليم يعني عصيان الأوامر في زمن الحرب،فالعربي القاتل ليس مصدر إزعاج لبني جلدته فحسب بل هو عنصر تخريب للفضاء العمومي، ومنبع كل شر لحق أو سيلحق بالفرنسي،وما الإشارة إلى ما يجب فعله إذا نشبت الحرب"إذا وقعت الثورة لا يأمن إنسان على نفسه،إننا جميعا في نفس القارب"[43]إلا دليل كاف على الانحياز ضد العربي،بل محاولة لتعميم القتل ،أليست الحرب قتلا بالجملة،فالانتقال هذه المرة تم من الجزء إلى الكل،فالكل قتلة،إنها الصفات الثابتة التي تلصق بالعربي مقررة ما هو عليه العربي(ماضيا،وحاضرا،ومستقبلا) أي باعتباره جوهرا ثابتا وفقا لما سنته الآلة الاستشراقية عبر تاريخ طويل،ووفق لما استقر عند الكولونيالي كاتب النص من دونية العرب وعدم جدارتهم.

إن النص في بنيته السطحية يقدم لنا الراوي دارو وكأنه يعمل جاهدا على مساعدة العربي ،ويصوره في الآن نفسه مستاء من تصرفات الدركي بالدوكي تجاه سجينه،فالراوي المعلم دارو،آوى العربي،وأطعمه وسقاه،ثم أطلق سراحه وهذا ما قرأته كريستيان شولي عاشور على أنه تصرف إنساني ومفهوم للعلاقات الإنسانية"[44]  ولكن المتمعن في دلالة فعل المساعدة ونتيجته يكشف أن المعيق لإنسانية دارو،أي الفرنسي الكولونيالي إنما هو هذا العربي الذي لا يعرف أو لا يريد أن يعرف

معنى الحرية،لكن الحرية الممنوحة للعربي لم يسع في طلبها،بل فاجأته ولذا لم يستطع التصرف وفقا لما تمليه عليه إرادته إن كان ثمة إرادة،والواقع أن الفرنسي (دارو)"مانح" الحرية إنما هو مانع لها أي معيق لتحققها "فالمشكلة سياسية لأن تسليم العربي إلى الشرطة معناه تسليمه إلى القانون الكولونيالي،القانون الفرنسي"[45] فالعربي الذي أُطْلِق سراحه وأفرج عنه إنما وضع أمام ثلاثة خيارات صعبة:السجن،أو الموت،أو المنفى.أي فقدان الحرية في التأويل الأخير،ولأن العربي اختار ما اختير له سلفا فإن تسليمه نفسه للشرطة لم يكن نابعا عن اختيار حقيقي" ففي غياب موضوع مرغوب فيه  لا مجال للحديث عن ذات أو رغبة"[46]

الخلاصة:

إن قراءة قصة الصيف وفك شفرات نصها تعطي لنا ما يمكن تسميته بجدول الثنائيات الضدية،فعلى الرغم من وجود شخصيات ثلاث على مستوى البنية السطحية للنص،إلا أن تتبع مسار الحدث،ورصد الجمل الواصفة،وتعمق الحوار يكشف عن ثنائيات تستقطب كلا من الحدث،والفضاء،والشخصيات،وما الصراع الظاهر بين الفرنسيين حول مصير العربي،والصراع بين العرب على لقمة العيش إلا دفعا لصراع أكبر يندمج فيه العربي مع بني جلدته الذين هبوا لنجدته وهددوا المعلم دارو وكذلك تلاحم الفرنسيين في الطرف الآخر في صف واحد وذلك ما ردده الدركي بالدوكي "إذا وقعت الثورة لا يأمن إنسان على نفسه إننا جميعا في نفس القارب".

والقارب الذي يحمي الجميع،لا يشمل بالضرورة هؤلاء العرب لأنهم البحر الهائج الذي قد يغرق الكولونيالي الساعي بكل السبل إلى الحفاظ على امتيازاته المادية والثقافية ضدا على إرادة الأغلبية من الأهالي والسكان الأصليين كما تقول الأطروحة الاستعمارية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1.    البير كامو المنفى والملكوت،ترجمةخيري حمادمنشورات مكتبة الحياة،د.ت،ص:98

2.     المصدر نفسه،ص:91

3.      المصدر نفسه،ص:86

4.    المصدر نفسه،ص:87

5.      المصدر نفسه،ص:87

6.    المصدر نفسه،ص:82

7.    المصدر نفسه،ص:93

8.    المصدر نفسه،ص:91

9.    المصدر نفسه،ص:88

10.                        المصدر نفسه،ص:88

11.                      المصدر نفسه،ص: 90

12.                        المصدر نفسه،ص: 92

13.                      المصدر نفسه،ص:92

14.                        المصدر نفسه،ص:89

15.                      المصدر نفسه،ص:88

16.                      المصدر نفسه،ص:91

17.                      المصدر نفسه،ص:96

18.                      Vincent Jouve,Poétique du roman,armon colin ;paris,2é édition,2007,p:10

19.                      أمبرتو إيكو،السيميائية وفلسفة اللغة،المنظمة العربية للترجمة،بيروت لبنان،ط01/2005،ص:110

20.                      فيليب هامون،من أجل نظام سيميائي للشخصية،ت:عدنان محمود محمد،ضمن شعرية المسرود،الهيئة العامة السورية للكتاب،دمشق،ط2010،ص106

21.                      المرجع نفسه،ص:104

22.                      تزيفطان طودوروف،الشعرية،ت:شكري المبخوت ورجاء بن سلامة،دار توبقال،المغرب،ط02/1990،ص:56

23.                        سعيد بنكراد،السيميائيات السردية منشورات ،الزمن،المغرب،ط2001،ص:113

24.                        كامو مصدر سابق،ص90

25.                        المصدر نفسه،ص:87

26.                      المصدر نفسه،ص85

27.                      المصدر نفسه،ص:94

28.                      المصدر نفسه،ص:87

29.                      Wei wu,Le Système des personnages dans l’éxile et le royaume d’Albert camus,Montherial,Quuibec,juillet,1999,p42

30.                        كامو،المنفى والملكوت،ص:88

31.                        رينيه ويليك،وأوستن وارين،نظرية الأدب،ترجمة محي الدين صبحي،المؤسسة العربية للدراساتوالنشر،بيروت،لبنان،ط03/1985،ص229

32.                        Vincent  Jouve,ibid,p :89

33.                      كامو المنفى والملكوت،ص97

34.                      المصدر نفسه،ص:91

35.                      Philipp hamon, Texte et idéologie ,Quadrige/puf,1997,p :104

36.                      المصدر نفسه،ص:89

37.                       المصدر نفسه،ص:96

38.                      المصدر نفسه،ص:97

39.                      المصدر نفسه،ص:97

40.                        المصدر نفسه،ص:91

41.                      Philipp hamon,ibid,p :20

42.                      المصدر نفسه،ص:90

43.                      المصدر نفسه،ص:92

44.                        Christiane chaulet-achour,Albert Camus et l’Algerie,édition barzekh,Alger,2005,p75

45.               Annabel  herzog ;Paradigmes bibliques,colonialisme et hospitalité dans « l’hôte » de Camus.Dans :Etudes [1] Française ;vol 42 ;n°9.cite :www.erudit.org

46.                        سعيد بنكراد،مرجع سابق،ص:77