قراءة في نص "مرثية طفل للرؤية"

قراءة في نص "مرثية طفل للرؤية"

للشاعرة المميزة نهى الموسوي

جوتيار تمر

النص: للشاعرة نهى الموسوي

مرثية طفل للرؤية

1-

حين الفِكرة بذرة صغيرة في أرض الخيال 

ترمش الرؤية لتنمو شجرة

2-

مع صخب الربيع..

عصفور مغتبط بدعوة النّبع

يتسلّل من عشّه

باحثاً عن موقعه على الخارطة.

3-

طفل يبذر الحجارة تحت سمرة الطين لتنموجبلاً،

وحكيم يلتمس الظّلَّ والحجارة ليحدّد موعد الماء والعطش.

ومع ألحان الرعاة يتماهى الطّين بالهال وبعطر الصّباح.

4-

غجريّة بشالها الأحمر

ورجل يحمل في عينيه حباً ناضحا

عبق الياسمين يغمرهما

ويذوبان في قبلة

5-

صوت يدوّي

شظايا رصاص تحرق الياسمين

يتهاوى العناق

ويكتب الطفل بدموعه للرؤية مرثيةً

 

 

القراءة: جوتيار تمر

مرثية طفل للرؤية

الوقوف عند بوابة العنوان اعتبره من سمات النقد الحداثي المكمل لآلية التواصل بين المفردة الشعرية بكل مراحلها وبين التلقي على المستويين الذهني والشعوري، ولأن العنوان مدخل اساس في خلق الفضاء الشعري فانه لابد من ايجاد الحلقة العلائقية التي تنمي السمة الاستدارجية للمتلقي الى اتون النص الشعري، ليس بوصفه عنواناً فحسب انما لادراك الضغط الذي يمارسه العنوان بوصفه نصاً وصورة على القارئ لكونها تحدد العلاقات الموجودة بين الرؤيا الشعرية والمتلقي حيث يتم يتحريض المتلقي واثارة انتباهه ويشكل عنوان هذه القصيدة" مرثية طفل للرؤية" مسلكاً تحريضياً ومدخلاً اغوائياً للاستجابة وجذب المتلقي، ف" مرثية " لوحدها تشكل عالم حسي شعوري متجانس بين المتلقي كفعل براني مع النص لاسيما ان ترابط المرثية ب" طفل" يعيد رسم الكثير من المؤثرات الشعورية لدى المتلقي حتى وان كانت هذه المرثية وهذا الطفل يخرجان عن مسارهما التقليدي ويدخلال عوالم الرؤية.

1-

حين الفِكرة بذرة صغيرة في أرض الخيال 

ترمش الرؤية لتنمو شجرة

قبل الخوض في معيات النص من حيث الرؤية الاجمالية التي تمكننا الاقتراب من اسوارها نتأمل الاسلوبية التي رسمت شاعرتنا به لوحتها حيث اعتمادها على البناء المقطعي التراكمي يجعلنا نعيش وقع كل رؤية من رؤاها باعتبارها ومضة شعرية مستقلة على ان التعمق في ماهيتها يجعلنا نقف على ذلك الخيط الرفيع الذي يوحدها ضمن دائرة عضوية تكاملية لاسيما من حيث الفضاء الكوني الشعري باعتباره نابع من موقف متماسك متكرر ضمنياً وليس ظاهرياً في اكثر من مقطع شعري، وهذا ما يجبرنا على تقصي الرؤية عبر مفرداتها وتفكيكها كي نصل في النهاية الى بعض تلك الايحاءات التي تعطينا صورة شمولية حول محركات النص والعلائقية بين المفردة واغراضها الشعرية، وعلى هذا الاساس نجد ان الشاعرة اقحمتنا منذ البدء في جدلية الفكرة والرؤية بحيث اجبرتنا على تقصي اغراضهما باعتبار ان الفكرة فعل للنفس يدل على حركتها الذاتية لاسيما في مجالي التأمل والنظر، في حين ان الرؤية واعية وهي نتاج للادراك الكامل وملزمة التنفيذ وهي غير الرؤيا المنامية، وحين نأتي عليهما ونربطهما بالعنوان نجد الاستعارة المحرضة التي لجأت اليها الشاعرة من حيث التعميم او التشبيه فالطفل بمعناه الاصطلاحي في دائرة الفكرة والرؤية انما هو فعل اسقاطي نابع من رمزية شفيفة واعية ملائمة للوجهة التي تؤمن بها الشاعرة نفسها، وهذا ما يدعم تجلياتها الشعرية في توظيفها للمدارات النابعة من مقارنة ضمنية بين محوريها في تحديد مديات الزمنية الظرفية التي نمت جراء ابتداء المقطع ب" حين"، وهذا بلاشك ما يحدد المسافة بين الفكرة وبين الرؤية، وذلك الحراك الذي يجعلنا اذا اردنا التخلص من الركود هو اللجوء الى الثانية لانها اكثر فعالية على ارض الواقع.

2-

مع صخب الربيع..

عصفور مغتبط بدعوة النّبع

يتسلّل من عشّه

باحثاً عن موقعه على الخارطة.

يمكن اعتبار الاستعارة مدخل اساس في تحورات الومضات ومدخل تلازمي الى التماهي بين الفكرة والرؤية، لكون الشاعرة اعتمدت في رصدها للحالة/ البراني معايير تنمو من ذاتها، وهذا ما نلاحظه اثناء قراءتنا للومضات الشعرية هذه، وهنا الصورة تبدو وكأنها واقعة تحت تأثير" مغتبط " باعتباره ان مغتبط دال على انجاز منتمي في حراكه الى الفرح والسرور ولكن الصورة لاتعطينا الا التماهي الواضح بين المفردة والحالة، فالغبطة انما اتت جراء دعوة وعلى الرغم كونها دعوة الا ان المعني بها تسلل، ولانه يتسلل فالمراد بالفعل هنا هو ايجاد مكان/ موقع اذا عليه ان يبحث.. وبهذا التماهي نلاحظ كيف ان شاعرتنا تحاول جذبنا الى مكنون رؤيتها وتفاعلها الاساس مع الحراك النصي الومضوي بحيث لاتدعنا ننجرف خارج الجغرافية التي حددتها الا لجلب معونات استداركية لاستكمال اللونية في لوحتها المرسومة بدقة وتماهي، وبلغة تصاعدية من حيث حداثيتها وحراكها الدلالي والتشكيلي.

 

3-

طفل يبذر الحجارة تحت سمرة الطين لتنمو جبلاً،

وحكيم يلتمس الظّلَّ والحجارة ليحدّد موعد الماء والعطش

ومع ألحان الرعاة يتماهى الطّين بالهال وبعطر الصّباح.

عودة الطفل الى الصورة هو رصد ديناميكي للوضع/ للحالة، بل لمعيات المرثية فهذه التلازمية ان غابت في تفصيل جانبي ليس معناه بانه منفي تماماً وغائب اجمالاً، لهذا ان عودة الطفل الى محور التماهي والخطاب الشعري والتشكيلي امر حتمي، وقد احييت الشاعرة فعاليته في صورة متشظية ضخمة كبيرة في حجمها من حيث الاستدراجات والتمفصلات، فالطفل مرتبط هنا بمقاربات ومقارنات فعلية أي حركية وهي بذلك لاتنتمي الى التأمل والنظر انما الى الفعل الادراكي التنفيذي، وبهذا تمزج الشاعرة رغبتها كشاعرة واعية لموجبات الحالة/ الواقع وبين صورتها التي تريد ان تثبتها عبر تجلياتها الشعرية ورصدها الشعري الحدثي للواقع، وهذا بلاشك يفرض عليها مقاربات ومقارنات فكانت ان حددتها شاعرتنا بالفطفل والحكيم والرعاة ثلاث عناصر ومكونات اساسية في الفعل الاجرائي الواقعي الذي يشكل ملامح الاجتماع" الوطن" تجاه حالته التي يعيشها، وهذا ما يفرض الصورة المشهدية التي تجبرنا على اللجوء اليها من اجل اثبات حراك الرؤية واعتبار ان الفكرة طالما هي المتحكمة في واقعنا صورة التغيير ستبقى مستحكمة من قبل غيرنا، فالطفل فعاليته وان اتت ضمن زمنية انتظارية الا انها مكملة للصورة المقابلة النابعة من التماسات الحكيم والظل، والحراك السمعي المرافق لصباحات الرعاة، ضمن جغرافية الطين والحجارة التي بلاشك هي صورة تأكيدية للبذرة التي ينتظر منها الكثير.

4-

غجريّة بشالها الأحمر...

ورجل يحمل في عينيه حباً ناضحا

عبق الياسمين يغمرهما...

ويذوبان في قبلة...

هذا التحول في مسار الومضات وجدته نابع من التحول الجواني للذات الشاعرة نفسها، وعلى الرغم من كونه تحول يثير تساؤلات حول غرضيتها، لاسيما نحن امام اللوحة التي بدأت بمرثية طفل للرؤية، وامتزجت بحراكات استبطانية واخرى ظاهرية تجعلنا نعيش وقع الرصد الشعري الواعي لموجبات الواقع/ الحالة، ومن ثم تناميها في المقطع الثالث الى مشهديات هي الاخرى واعية وعميقة ومتجذرة في عوالم الشاعرة، لذا نلاحظ بان هذا التحول انما اتى لموجبات الذات الشاعرة في كونها تحاول ربط الجواني بالبراني على الرغم من تماهيه وابتعاده عن النسق الاجمالي للخطوط السابقة، ومع ذلك هذا لايمنعنا من معايشة الحالة وفهم مجريات الحدث على اعتبار ان النص في الاساس مقطعي تراكمي..حيث هذا الفوران الوجداني ليس بعبثي بقدر ما هو تحريضي يجعلنا نعيش وقع النفسي والجواني لمحركات النفس التي هي مصدر هذه الاشعاعات الشعرية بتجلياتها على جميع المستويات، دون حصرها في قوالب ثابتة، وربما تاتي هذه المغايرة بصورة مفاجأة الا انها في الوقت نفسه تعبير دقيق للحالة الذاتية وهذا اعتبرها نجاح للشاعرة لكونها استطاعت ان تتمرد على نسق تفكيري واحد واتباع الرؤية التكاملية للنفس لتمهد للحالة/ الواقع الاساس سواء من حيث البدء او الحاضر او الختمة.

-5

صوت يدوّي...

شظايا رصاص تحرق الياسمين

يتهاوى العناق...

ويكتب الطفل بدموعه للرؤية مرثيةً

المشهد النهائي المواكب للمراحل التي مرت بها الرؤية.. نمت وحاولت وتحولت واثمرت ووصلت..وبهذه الصورة تكون المرثية قد حصدت قيمة معانقتها للرؤية التي سبق وان قلنا بانها فعل ادراكي تنفيذي وليس تأملي انتظاري، حتى ان كانت الصورة هنا قد فاقت التحريضية الاغوائية، ووصلت الى حد التشظي على المستويين البلاغي " شظايا، رصاص، يتهاوى.."، والتشكيلي الصوري " تحرق الياسمين، الطفل بدموعه.." فانها اجمالا تنصب في مصلحة الحراك التعبيري المنطوي على اساسيات الاستعارة والانزياح والباعث على ضرورة الترابط بين موجبات الفعل وموحياته ومن القيام بالاحالة التي اراها ثيمة اساسية يتوقف عليها تشكيل النص وكشف رؤاه الشعرية واقامة عتبة مهمة بواسطتها يمكن الولوج في النص من خلال الربط بين فهمه وعلاقته بالواقع العياني الانتمائي للذات الشاعرة نفسها.. من هنا نلاحظ التحولات التي تلت المقطع الثالث قد اثمرت نضجاً للرؤية التي تبنتها الشاعرة منذ البدء، ولعل استكمالها في هذا المقطع انما جاء لتعطينا تلك المساحة التي من خلالها يمكننا معايشتها ومحاكتها، ولعل اعادة القفلة على العنوان يعتبر في مضمونه الفعلي والشعري وحتى الاسلوبي قيمة اضافية محرضة وقصدية في آن واحد، وذلك لابقاء المتلقي ضمن دائرة النص وجغرافيته.

دهوك/ كوردستان العراق