ولادة من خنجر قابيل

القصيدة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة 

القصيدة العمودية 2013م في منظمة شعراء بلا حدود مع 

الدراسة النقدية للدكتور عبد الله جمعة من مصر .

المركز الأول :

ولادة من خنجر قابيل / علي صالح الجاسم

كــفَّ عـنِّـي , فـمــا أطـيــقُ مـلامــا

فــاض طـوفـان عـزَّتــي و تـهـامـى

كـــفَّ عــنِّــي , فـلـســتُ أوَّلَ حــــرٍّ

عــرفَ الــدَّربَ فامـتـطـاه ضـرامــا

حـلـمُـهُ كـــان أن يـعـيــشَ كـريـمــاً

لا ذلـــيـــلاً يـــقــــدِّسُ الأصــنــامـــا

طعنتْـنـي يــداكَ غــدراً , وقــد كـنـتُ

أظــــنُّ الــــدَّمَ الـطَّــهُــورَ حــرامـــا

يـابـن أمِّــي ولـســتُ أعـتــبُ لـكــن

خـنـجــرُ الـلـيــلِ قــطَّــعَ الأحــلامــا

أَتُرانـي أسرفْـتُ حيـن طلبْـتُ اليـومَ

حــرِّيِّـــتـــي بــقـــولـــي ســــلامــــا

أم تُـراهــا تـجــاوزتْ فـــي مُـنَـاهَــا

أذرعُ القـلـبِ حـيـنَ طــارتْ هُـيـامـا

أم تُرانـي وقـد هــدرْتَ دمــي ظلـمـاً

شـربـتُ الـكـأسَ الـصُّـراحَ زُؤَامـــا

يـابـن أمِّــي ابـسُـطْ يـديــكَ ستـلـقـى

كــــــلَّ ودٍّ بــحــوزتـــي و وئـــامــــا

علَّـمـتْـنـي الـحـيــاةُ كـــــلَّ جـمــيــلٍ

فـتـمــرَّغْــتُ بـالــمــنــى إلــهــامـــا

ولـدتــنــي الــشـــآمُ أمُّـــــكَ حـــــرَّاً

أرضعـتْـنـي كـمــا رضـعْــتَ شـآمــا

كـلَّـمـا جـئْــتُ أطـلــبُ الــــودَّ حــبَّــاً

رحْـــتَ تُـقـصِـي إرادتـــي إرغـامــا

ألأنِّــــي رفــعْــتُ صــوتــي طـلـيـقــاً

زركـشَ الأفـقَ مــن مـنـايَ حَمـامَـا

جئْـتَـنـي يــرقــصُ الــــرَّدى فــــوقَ كفَّـيـكَ 

ضجيـجـاً , فتنضـيـهِ حسـامـا

شـمــسُ حـرّيّـتــي أطــلّــتْ ربـيـعــاً

عبـقـريَّ الـصّـفـاتِ إنْ هـــو قـامــا

خــفـــقَ الــقــلــبُ طـــائـــراً فــــــي

فـضـاءِ اللهِ يجـنـيْ رحيـقَـهُ أكمـامـا

لـــنْ أكـــونَ الـعـبـدَ الـذلـيـلَ لأنـــي

لـــم تـلـدْنـي الـشّــآمُ إبْـنــاً حـرامــا

بــل حـــلالاً كـمــا الـفــراتُ كـريـمـاً

ولـقــد كـــانَ قـبــلُ أهـلــي كــرامــا

يـابــنَ أمِّـــي إلــــى مــتــى شــبــحُ

الــمـــوتِ أراه يُـقــلِّــمُ الأنــســامَــا

ذرفَـتْـنـي عـيــونُ صــبــريَ دمــعــاً

غادرَتْـنـي لـــدى الـطُّـلـولِ حـطـامـا

فـتـحـامـلْـتُ كــــــي أراكَ بــقــربــي

تنـفـضُ الـغَـبـنَ كـلَّـمـا بـــيَ حـامَــا

وتـنـاثـرْتُ فـــي الــمــدى أمـنـيــاتٍ

تـغـزلُ الحـلـمَ مــن عيـونـي يمـامـا

وتسـاقـطْـتُ مـــن نـخـيـلِ حـروفــي

فـيــضَ حــرِّيَّــةٍ ودفْــــقَ خُــزَامــى

داحـــسٌ والـغـبـراءُ كـــم لفـحـتْـنـي

بـســمــومٍ وأتـخـمـتْـنــي ســهــامــا

وتـجـرَّعْـتُ مــــن لـظـاهــا جـنـونــاً

فـاضَ منهـا , ومــا وجــدْتُ ختـامـا

ضـاعَ عمـري عـلـى بـيـادرِ حلـمـي

كـــلُّ عـــامٍ فـيــه يـجـرجــرُ عــامــا

وإذا بـالـرَّبــيــعِ كــــــوَّرَ خـــوفــــي

ثـــمَّ ألـقــى بــــه وشــــدَّ الـحِـزامَــا

ورمـانــي بـنـظــرةٍ هــــيَ أمــضــى

مــن حـسـامٍ وقــد حُـرِمْـتُ الكـلامَـا

مــاردٌ مــن عـبـاءتـي صـــبَّ نـــاراً

تـحـتَ إبــطِ الـظَّـلامِ جـامــاً فـجـامـا

فاكتـوى الأفــقُ مــن لـظـايَ هتـافـاً

كــادَ مـنـهُ الـصَّـدى يـكـونُ حِـمـامـا

يـابـنَ أمِّــي وأنــتَ تـخـنـقُ حـلـمـي

غصَّ حلقُ المـدى بصوتـي , فغامـا

أنــا مــا مـــتُّ يـــا أخـــي لـتــواري

سوءتي , والدُّموعُ فاضـتْ سِجَامـا

مـطــرٌ يـخـصــبُ الـحـنـاجـرَ دفــقــاً

تشتهـيـه السُّـهـولُ فـجـراً , فـهـامـا

مـطـرٌ يـبـعـثُ الـنُّـفـوسَ الـظَّـوامـي

مـــــن جــديـــدٍ تُـــزيِّـــنُ الأيَّـــامَـــا

فانـتـظـرْ يـــا أخـــي غـرابَــكَ إنِّـــي

عائـدٌ رغـمَ مـا اصطنـعـتَ خصـامـا

إنَّني جئتُ أحملُ الفجر في عينيَّ .....

....لحـنـاً صـلَّـى لأجـلـي وصـامــا

يابـنَ أمِّـي ستعلـنُ الشَّـمـسُ أخــتُ

الـشَّــامِ يــومــاً ولادتــــي إكــرامــا

الدراسة النقدية لها مِنْ لدن القدير د . عبد الله جمعة :

ولادة من خنجر قابيل والنزال مع الواقع الشعري

في إحدى الأمسيات الشعرية وفي حديث جانبي سألني شاعر : أشعر بصراع مستمر وتوتر دائم ولا أجد لنفسي مستقرا .. فماذا أفعل حتى أشعر بالاستقرار والهدوء ؟ قلت له : احمد الله أنك كذلك , فالشاعر الحقيقي هو الذي يعيش الصراع المستمر مع الواقع وإن جف هذا الصراع فسيجف معه الشاعر الذي بداخلك , فالشاعر إنما خلق ليكون القوة التي تواجه قوة قوة الواقع بما يحمله ذلك الواقع من متناقضات ومظالم وتوجهات ضد إرادة البشر , إذن فالشاعر هو أهم المخلوقات التي خلقت لتتصادم مع الواقع حتى تكشف عيوبه ونواقصه محاولة تعديل هذا الواقع إلى ما هو خير

ولكن الشاعر عليه أن يعلم أنه ليس بالموهبة فقط سيكون معدا لمواجهة هذا الواقع بما يحمل من أسلحة فتاكة تهزم بقية المخلوقات إذ أن أسلحة هذا الواقع لا قبل للإنسان العادي بها لأن هذا الواقع في حاجة إلى مخلوق معد إعدادا خاصا حتى ينجح في نزاله ومواجهته وهزيمته وتحويل مساره , والشاعر هو ذلك المخلوق , وللشاعر أن يعد نفسه للقاء الواقع وقبل أن أخوض في كيفية إعداد الشاعر نفسه وتهيئتها للقاء ذلك الواقع وجدت أن لزاما علي أن ألقي الضوء على ذلك الواقع بمفرداته وهو ما يسمى بالواقع الشعري , والواقع الشعري قد يكون مغايرا للواقع الذي نعيشه نحن وإن كان مرتبطا به فهو نتاجه ومردوده , فإذا سلمنا جدلا أن الشعر إنما هو عملية استدعاء فعلينا ان نقر أن الواقع الشعري إنما هو يعتمل داخل الشاعر منعكسا من الواقع الحقيقي الذي نعيشه فالشاعر يتابع الواقع الحقيقي ويقوم باختزانه داخله ثم يقوم بإدخال بعض الإضافات عليه من عمليات تهويل أو تغويل ويقوم بإعادة صياغة هذا الواقع من خلال ما أسميه بـ ( زاوية الرؤية ) ومن ثم يبدأ في حربه مع ذلك الواقع حتى يصل إلى مرحلة الانتصار عليه وتغييره , إذن فالواقع الشعري هو واقع داخلي في نفس الشاعر مستمدا من الواقع الخارجي الحقيقي الذي نعيشه نحن , ولكي يقوم الشاعر بمهمته في نزال هذا الواقع كان لزاما عليه أن يعد نفسه منذ اكتشافه الحس الشعري في نفسه فعليه أن يعلم أنه بلا فكر فلن يستطيع منازلة هذا الواقع الشعري وهذا الفكر الشعري لن يبتنى بين عشية وضحاها وإنما هو سيبتنى مع الوقت والدربة , وعلى الشاعر أن يعرف أن العمق الفكري كلما زاد كلما كان قادرا على استدعاء أسلحته المعرفية من مخزونه الفكري لتوجيه ضربات موجعة قاسمة لهذا الواقع وهذا المخزون الفكري إنما هو يأتي من خلال الاطلاع والمعرفة وهو أيضا عملية استدعاء , إذن فتجربة الشاعر إنما هي عملية استدعاء في جميع جوانبها , منذ أن يظهر المثير إلى أن تتحقق الاستجابة والمثير للتجربة – بكونها سلوك – هو مثير داخلي أيضا فالمحرك الخارجي يلتقط من الشاعر إلى داخل معمله النفسفكري وتتم بلورته وصهره داخل المعمل النفسفكري حتى يتحول إلى مثير هائل يحرك الطاقة النفسية للشاعر فيبدأ في إعمال أسلحته في تلك الطاقة محاولا تبديدها من خلال الضرب عليها بكل ما أوتي من قوة وسلاح , وحتى يصل إلى تلك المرحلة المطمئنة من القوة عليه أن يقوم بتعبئة مخزونه الفكري فيمر بمراحل عديدة من الترقي الفكري حتى يصل إلى ما أطلقت عليه ( زاوية الرؤية ) إذ يبدأ بالاطلاع والتعبئة حتى يصل إلى مرحلة الامتلاء الفكري وبعد بلوغ تلك المرحلة من الامتلاء الفكري - وأقول الامتلاء لا الاكتفاء – فالشاعر لا يتوقف عن تعبئة مخزونه الفكري ما دام حيا , فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج من دائرة التخصص إلى دائرة الموسوعية حيث أبيح له أن يهتك ستر كل العلوم حتى يبقى ممتلئا بكل ألوان المعارف والفنون ما وسعته طاقته وبعد أن يصل الشاعر إلى مرحلة الامتلاء يبدأ في الدخول غلى مرحلة النضج الفكري وهو مرحلة ( زاوية الرؤية ) وزاوية الرؤية هذه إنما تمثل موقف الشاعر من ذلك الواقع الشعري حيث يتخذ زاوية يهاجم منها ذلك الواقع هذه الزاوية نسميها نحن ( وجهة نظره ) وتلك الزاوية تمثل المدخل الرئيس الذي يصطنعه الشاعر كمدخل لموجهة ذلك الواقع فمن الشعراء من يتخذ فلسفة التهكم كزاوية رؤية ومنهم من يتخذ فلسفة التلذذ بالألم كزاوية رؤية ومنهم من يتخذ فلسفة تشويه الواقع كزاوية للرؤية ومنهم من يتخذ فلسفة النواح والعويل وهكذا وقد أحصيت ما يقرب من ستة وأربعين زاوية رؤية من خلال مسح لما وقع تحت يدي من أشعار والمجال مفسوح لاكتشاف زوايا رؤية جديدة فالقطع

وعودة إلى القصيدة التي نحن بصدد التعرض لها وهي ( ولادة من خنجر قابيل ) والتي احتلت المركز الأول في تلك المسابقة نجد أن الشاعر ( علي صالح الجاسم ) قد وصل إلى تلك المرحلة من النضج الفكري حيث ابتنى لنفسه زاوية رؤية خاصة تمثل شخصيته الشعرية وهي ( فلسفة العتاب الناعم ) فقد قاده مخزونه المعرفي إلى استدعاء قصة قابيل وهابيل ليتخذ منها قميصا يمرر من خلاله تجربته ومثير عاطفته وهو موضوع ( اقتتال الإخوة ) والذي نراه جميعا ماثلا الآن بين الغالبية الغالبة من الأشقاء العرب سواء في المحيط الأسري أو المحيط الوطني أو المحيط القومي وإن كان المحيط الوطني هو الأبرز في هذه التجربة ولم يجد الشاعر أصدق من قصة قابيل وهابيل معينا يستمد منه مجموعة المعارف الداعمة للتجربة وإن كان هذا المخزون المعرفي مألوفا ومختزنا لدى الكثير منا داخل المعين الفكري وإنما الجديد هنا عند ( علي صالح الجاسمي ) إنما هو المستدعى إليه , والشاعر من خلال قراءتي لنصه وجدته يتوجه إلى أخيه – المتمثل في عالمه الشعري – بعتاب ناعم على ما يفعله به من ذبح وقتل على الرغم من أنه لم يسئْ إليه وكل ما طلبه إنما هو الحرية ولا ضير لدى هذا الأخ أن يمنحه ذلك القدر من الحرية الذي ينشده الشاعر بل إن هذا الأخ إنما يوجه اللوم له على طلبه حريته فيقول الشاعر ( كف عني فما أطيق ملاما – فاض طوفان عزتي وتهامى ) وهو هنا نجح أيما نجاح في توظيف ( البلاغة الأسلوبية ) لدراما الحدث الشعري فالشاعر الضارب على وتر الإنشاء إنما هو يئن ويصرخ وتعلو أمواج عاطفته والشاعر الضارب على أوتار الخبر إنما هو هادئ الوجدان غير زاعق ولا صارخ والمازج بينهما إنما هو متحرك الوجدام متقلبة موجات وجدانه , فاستهل الشاعر قصيدته بأمر في غاية الجمال حين قال ( كف ) فأول الألم صراخ يعلو صوته وقوة الألم في أول صرخة ثم يهبط الصراخ ليتحول إلى استكانة واستسلام ومن ثم حول الشاعر فجأة الصرخة العالية إلى استكانة نفسية تعبر عن رغبته في تقرير أسباب ذلك الصراخ فيقرر أنه لم يعد يطيق ملاما ( ما أطيق ملاما ) والتعبير بـ ( ما النافية ) إنما هو لإطلاق النفي وتعميمه فلم يلجأ الشاعر إلى حرف نفي آخر مقيد لرفضه الملام ولشدة وعي الشاعر بالمعنى فقد أردف رفضه للملام بأسباب ذلك الرفض فقد ( فاض طوفان عزتي وتهامى ) ويعود مرة أخرى إلى الصراخ في مطلع البيت الثاني ( كف عني فلست أول حر – عرف الدرب فامتطاه ضراما ) فهو يوجه لوما قاسيا إلى أخيه الذي يقتله صارخا لماذا تقتلني فلست بدعا في الأمر فلست أول من طلب الحرية فنالها والحرية لا تضيرك في شيء إن منحتني إياها فهي ليست بدعة وليست فوق الطاقة فهي أقل ما يمكن أن يطلبه الأخ من أخيه ( حلمه كان أن يعيش كريما – لا ذليلا يقدس الأصناما ) عاد مرة أخرى بعد الصرخة الثانية إلى السكينة الباكية والتي جاءت تالية لصرخة الأمر الإنشائي القوية فقد استهلكت الصرخات قوته النفسية فلم يبق لديه سوى تقرير تلك الصرخة فلجأ إلى الخبر مرة أخرى فيعلن لذلك الأخ أن حلمه لم يكن عزيزا على ذلك الأخ أن يمنحه إياها وهو أن يعيش كريما مثل خلق الله وأنه لا يريد أن يعيش مقدسا لصنم بعد أن قضت الشرائع المنزلة على عبادة الأصنام فأقل الطموح البشري أن يفطر على التخلص من عبادة الأصنام وهذا ليس حلما عزيزا صعب المنال ثم يقر بعتاب ناعم قاس ( طعنتني يداك غدرا وقد كنت – أظن الدم الطهور حراما ) ما أروع أن يمتلك المقتول زمام أمره ويوجه للطاعن القاتل عتابا ينبهه فيه إلى حقيقة شرعية بديهية وهي أن الدم الطهور حرام سفكه , فمن أين أتى الشاعر بتلك القوة الهائلة كي يمتلك زمام أمره لحظة القتل – في الواقع الشعري – ليوجه للقاتل ذلك الدرس الشرعي , بل وزادت قوته اللغوية في إدخال الفعل ( أظن ) ليمزج بين التهكم والتهويل فالتهكم يتمثل في أن هذا الأخ قد استباح دمه مع معرفته بحرمة هذا الدم فهي قاعدة بديهية لا تغيب عن إي إنسان يمتلك أقل قدرا من البديهة والتهويل في عرض الشاعر أنه في تلك اللحظة – لحظة الطعن – قد بدأ يتشكك في الثوابت الشرعية لما يلقاه على يد هذا الأخ من انتهاكات لا تقرها البديهة الإنسانية

ثم يعود الشاعر بعد أن استجمع قواه إلى ( الإنشاء ) مرة أخرى وهو الممثل هذه المرة في ( النداء ) حين يقول ( يا بن أمي - ولست أعتب لكن - ... خنجر الليل قطع الأحلاما ) فبعد أن استجمع الشاعر قواه مرة أخرى عاد ليصرخ مؤكدا على التهكم السابق إذ ينسب في هذه المرة القتل لابن الأم – الأخ – الذي هو في البديهة عضد أخيه وليس قاتله ثم يدخل باعتراض رائع الاستخدام قائلا ( ولست أعتب لكن ) وهذا الإطناب الرقيق ممثلا في الاعتراض يظهر يأس هذا المقتول من عتاب أخيه بل وربما يحمل في طياته الحب وعدم الرغبة في تأليب الألم على أخيه على الرغم من ذبحه إياه ثم دقة الشاعر في اختيار أداة القتل وهي ( خنجر الليل ) وما يمثله من غدر وخيانة فالأخ لا يمكن أن يتبجح فيقتل أخاه في قارعة النهار ولا يستخدم خنجرا لامعا يظهر فعلته وإنما يحمل خنجرا أسود اللون بسواد الليل وهذا دليل دامغ على خسة هذا الأخ القاتل ووضاعته

والشاعر هنا فاتح لدلالة قصيدته ليحملها على الوجوه المتعددة ولأنه يسلط الضوء على حدث أو واقع شعري بعينه فلم يعبر عن ساحة الغدر سوى مرتين بذكر المكان تلميحا دون تصريحا إمعانا في الإيهام الشعري فجعل المكان أُمَّا ولدته حرا مرة ثم جعل ذات المكان أختا للشمس في نهاية قصيدته إلقاء للضوء على واقع تجربته ولكنه في كامل القصيدة لم يصرح بمكان أو زمان حتى يفتح المدلول ليصح إسقاط تلك التجربة على كل واقع يعيشه أخ يقتل بيد أخيه في كل مكان وزمان , وربما خلال المداولات داخل لجنة التحكيم قد عبرت أن هذه القصيدة تعتمد الإيهام الشعري وأنها مفتوحة الدلالة فظن البعض أنني كنت أقصد ( الإبهام الشعري ) فعلق قائلا أن القصيدة مباشرة واضحة المعنى , وبالقطع لم أعلق حينها وإنما انتظرت ها هنا لأوضح أن الإيهام الشعري شيء والإبهام الشعري شيء آخر فالإبهام الشعري – وما كنت أعنيه – إنما هو عيب قاتل من عيوب الشعر وإنما الإيهام الشعري – وهو ما كنت أعنيه – هو المقصد فالشعر لابد وأن يكون واضح المعنى وإن كان يعتمد الإيهام أي يفتح مدلول المعنى على مصراعيه للمتلقي حتى يجد كل متلق للتجربة فيها قميصا على مقاس حاله النفسي وهذا ما نطلق عليه في عالم النقد الأدبي ( قضية الانفتاح الدلالي )

والشاعر قد وظف كل أدواته الشعرية في خدمة تجربته فنجحت أيما نجاح فمنها المخزون المعرفي كما عبرت آنفا ومنها توظيف القالب البلاغي لخدمة دراما الحدث الشعري ثم أخيرا وليس آخرا نجح الشاعر في اختيار القالب الموسيقي والممثل في ( البحر الخفيف ) وما يحمه من تموجات واضطرابات موسيقية ما بين ( فاعلاتن ) صحيحة ومخبونة وبين ( مستفعلن ) صحيحة ومخبونة أيضا و ( فاعلاتن ) الأخيرة صحيحة ومخبونة كذلك , ثم ( مُتَشَعِّثَة ) في ضرب البيت تارة ومخبونة تارة أخرى وصحيحة مرة ثالثة , وفلسفة الزحافات والعلل في القالب الموسيقي فلسفة عالية تعطي الحيوية للموسيقى الشعرية وتخرجها من دائرة الرتابة فتلك الزحافات والعلل إنما تشبه رقبة العود لدى عازف الموسيقى الذي يستخدم ما يسمى في لغة الموسيقى ( العَفْق ) حيث يضغط بأصابعه على الأوتار على رقبة العود ليغير من حدة صوت النغمة أو سرعتها لتتناسب مع الحالة النفسية والدراما الشعرية التي يتموج الشاعر بموجاتها ودفقاتها الشعورية فحين تتلاطم الموجة الشعورية لدى الشاعر يلجأ إلى ( خبن ) التفعيلة ليسرع من سَوْرتها ثم يعود إليها صحيحة ليعيدها إلى الهدوء والاتزان مرة أخرى وقد ظهر ذلك جليا في أضرب الأبيات فحين تنتهي دراما البيت الشعري بأنين وعتاب هادئ نجده يلجأ إلى التفعيلة صحيحة وحين تثور الدراما في نهاية البيت الشعري يقوم بخبن التفعيلة وحين يعبر عن الاستكانة وحالة اللا حراك يقوم بـ ( تشعيث ) التفعيلة ( فاعلاتن ) في الضرب .. فكان نجاح الموسيقى الشعرية كأداة من أدوات التعبير غاية في الروعة

هنيئا لنا بهذه القصيدة وهنيئا للشاعر بما حققه من ترويع وتفزيع لكل ضمير نابض حي بما يفعله الأخ بأخيه

عبد الله جمعة

الإسكندرية – مصر

الجمعة 6 من ديسمبر 2013

**************************

رابط شهادة التقدير :

http://www10.0zz0.com/2013/12/11/23/958864900.png

وسوم: العدد 699