أنصار طه حسين وضحاياه!

أجل؛ كان طه حسين هو الجامعة؛ وكانت الجامعة هي طه حسين؛ كما وصفه غريمه وخصمه التقليدي اللدود/ محمود محمد شاكر في لحظةٍ نادرةٍ من الصراحة والإنصاف، لم تتكرَّر؛ لا من قبل، ولا من بعد! لا؛ بل أزيد فأقول؛ كانت الحياة الفكرية؛ هي طه حسين؛ وكان طه حسين هو نشاطها ووقودها وهواءها! فيكفي؛ أن يكتب طه حسين مقالاً؛ إلاّ؛ وتقوم على إثره معارك وحروب؛ ويخوض الناس الأهوال بسببها؛ وتنهدُّ الدنيا من حولهم؛ والرجل؛ ثابتٌ على رأيه؛ لا تهتزُّ له شعرةٌ واحدةٌ من رأسه؛ فقد عرف من أعماقه وأغواره؛ أنه محسودٌ؛ وأنه عبقريٌّ؛ وأنه منذورٌ للتجديد والابتكار؛ فآمن بجدارته عميداً للأدب العربي الحديث!

وفي حياة طه حسين المديدة الرغيدة؛ ضحايا، وخصوم، مريدون، ومحاسيب؛ أصابت الفريق الأول؛ سهام طه حسين القاتلة، وأصابت الفريق الآخر؛إحساناته ومساعداته؛ فمَنْ رضيَ عنه طه حسين .. فقد فُتِحَتْ له أبواب النعيم على مصاريعها؛ يغترف منها كما يشاء، ومَنْ أعرضَ عنه طه حسين؛ لَقِيَ من العنتَ والمشقةَ ما لاقى؛ فعاش في الظلامَ البعيد؛ يحيا في دائرة النسيان والتجاهل!

*   *   *

فمِنْ مُريديه ونائلي عطاياه ومَحامده وقُرباته؛ الذين أخذ بأيديهم؛ فساعدهم؛ وقام بتعيينهم في الحياة الأكاديمية:

أحمد أمين!

ومن حسنات طه حسين ولفتاته الصائبة؛ أنه أول مَن تنبَّه للعباقرة المُجايلين له؛ وللأصغر سناً منه؛ فلولاه؛ لَما كان الأديب الكبير/ أحمد أمين؛ أستاذاً جامعياً؛ لا بل ما كان عميداً لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول(القاهرة الآن)! فمَن غير طه حسين يتنبَّه لمواهب هذا القاضي الشرعيّ، وملكاته الفكرية الخلاّقة؛ فيقوم بتعيينه أستاذاً للأدب العربي بالجامعة؛ وهو الرجل الذي لا يحمل درجة الدكتوراه! لكنَّ طه حسين؛ هو الوحيد الذي تجرّأ ففعلها؛ خلافاً للوائح الجامعة وقوانينها! ولم يجرؤ أحدٌ على الطعن في جدارة طه حسين في الاختيار؛ ولا الغمز في عبقرية أحمد أمين الفكرية!

لا؛ بل إن طه حسين؛ هو الذي أوعز لصديقه أحمد أمين بفكرة دراسة الحياة العقلية في الإسلام؛ فظهرت سلسلته الشهيرة: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام.

*   *   *

عبد السلام هارون

بدأ حياته مدرِّساً ابتدائياً؛ بعد حصوله على الشهادة الأزهرية، ثم شهادة دار العلوم؛ لكنَّ عينَ طه حسين الحصيفة؛ رأته جديراً بمقام أستاذ الجامعة؛ فعيَّنه أستاذاً للغة العربية بجامعة إبراهيم باشا(الإسكندرية الآن). ومن يومها صار أكاديمياً بلا شهادة دكتوراه؛ لا؛ بل تم نقله إلى كلية دار العلوم؛ فصار رئيساً لقسم النحو والصرف بها؛ ثم عمل في الكويت بعد ذلك؛ فعمل على إنشاء كلية الآداب بها؛ وتأسيس أول قسم للغة العربية هناك. حتى صار أميناً عاماً لمجمع الخالدين اللغوي، وشيخ المحققين في العصر الحديث.

*   *   *

أمين الخولي

التفتَ إليه طه حسين؛ خاصةً بعد عودته من روما، ودراسته هناك الحياة الفكرية والأدبية واللاهوتية؛ فاستقدمه في عام 1928م للتدريس بالجامعة المصرية؛ فكان شعلة نشاطٍ وتجديدٍ وإصلاحٍ؛ في العلوم العقلية والنقلية! وصارت له مدرسة فكرية؛ اسمها مدرسة الأمناء، ومن تلامذتها: بنت الشاطئ، وشكري عيّاد، وعز الدين إسماعيل، وحسين نصار، ومحمود علي مكي، وجابر عصفور، وغيرهم. 

*   *   *

الشيخ العلاّمة/ مصطفى عبد الرازق

وفي سنة 1927م؛ تم إنشاء أول قسم للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول(القاهرة الآن) فارتأت الجامعة استقدام أحد المستشرقين لتدريس هذه المادة؛ فما كان من طه حسين إلاّ الإصرار على أنْ يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية شيخٌ أزهريٌّ؛ ولم يكن هذا الشخص إلاّ العلاّمة الشيخ/ مصطفى عبد الرازق الأزهري؛ الذي درس في السربون. وبالفعل؛ قام مصطفى عبد الرازق بالتدريس في قسم الفلسفة بالكلية؛ وأحدث فيها نقلةً موضوعيةً؛ في المناهج، وطريقة التدريس، والمزاوجة بين الفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية، والفلسفة الإغريقية، والفلسفة الحديثة؛ حتى شهد له بالريادة تلامذته الأعلام: إبراهيم بيومي مدكور، وتوفيق الطويل، توفيق هويدي، وأبو الوفا التفتازاني، وعبد الرحمن بدوي، ومحمود الخضيري، وسليمان دنيا، ومحمود قاسم، والأب جورج قنواتي، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة، وسامي النشار، ومحمد علي أبو ريان، وغيرهم من أعلام الفلسفة.

*   *   *

سهير القلماوي

كان طموحها دخول كلية الطب؛ وأهَّلها مجموعها الكبير في الالتحاق بها؛ لكنَّ العقبة الوحيدة التي منعتها من ذلك؛ هو كونها أنثى! فلم تكن كلية الطب وقتها تسمح بالتحاق الإناث بها؛ فذهبت هي ووالدها إلى مبنى كلية الآداب؛ لأخذ شفاعة عميدها الكبير الدكتور طه حسين؛ للتوسط لسهير القلماوي لدى عميد كلية الطب؛ في الالتحاق بكلية الطب. إلاّ أنَّ اللقاء؛ خبَّأ لسهير ما لم تكن تعرفه؛ إذ أُعْجِبَ بفكرها وطموحها طه حسين؛ فاقترح عليها أنْ تلتحق بكلية الآداب، وستصبح معيدةً بها، وهو ما تحقق! ولم يكتفِ بذلك؛ بل ساعدها طه حسين في السفر إلى انجلترا في بعثةٍ علمية هناك؛ حتى نالت الدكتوراه في قصص ألف ليلة وليلة؛ ثم عادت فأصبحت ملء السمع والبصر؛ بفضل توجيهات طه حسين لها، وتبنِّيه لها!

*   *   *

ضحايا طه حسين!

وهم؛ الذين اكتووا بنيران طه حسين؛ وزمهريره، وحَروره؛ فقد عاداهم؛ ووقف في وجوههم؛ بنفوذه، وجاهه، ومناصبه؛ ومنعهم من نيل حقوقهم الأدبية والمادية والاجتماعية والأكاديمية! ومن هؤلاء:

الدكتور/ أحمد ضيف

وقصة هذا العالِم الجليل؛ هي أسوأ حكايات طه حسين مع خصومه؛ فهو أبأس الضحايا؛ وأشدهم ظلماً مِن طه حسين! يحكي العلاّمة الدكتور/ الطاهر أحمد مكي في كتابه النفيس(الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه) كيف أزاح طه حسين الدكتور/ أحمد ضيف من الجامعة القديمة؛ ليتسنى له تدريس الأدب بدلاً منه؛ فيقول: "فيما يتصل بالدكتور أحمد ضيف؛ يمكن القول إنه قضى أعوامه بعد أن أُبْعِدَ عن الجامعة ممروراً زاهداً؛ فقد أُرْسِلَ ليدرس الأدب في باريس، وتخصَّص فيه، ونال أرقي شهاداته، وقدَّم لنا أول مؤلَّفٍ عن الأدب الأندلسي بعنوان(بلاغة العرب في الأندلس) .. ثُمَّ وجد نفسه(أحمد ضيف) ضحية مؤامرةٍ دُبِّرَتْ بليلٍ؛ أسهمت فيها عناصر عديدة؛ بعضهم أجانب ليسوا فوق مستوى الشبهات؛ أخرجته من منصبه، وأحلَّتْ الدكتور طه حسين مكانه؛ ولم يكن قبلها قد درَّسَ الأدب، ولا تخصَّص فيه؛ وإنما كانت محاضراته عن التاريخ اليوناني والشرق الأوسط في العصر الوسيط .. فأزاح طه حسين أستاذ الأدب العربي في كلية الآداب، وزميله في بعثة باريس الدكتور أحمد ضيف؛ تماماً كما حاول ذلك مع أستاذه المهدي من قبل؛ وهي حادثةٌ تركت في أعماق الدكتور ضيف أسىً حتى آخر يومٍ في حياته"!

*   *   *

الدكاتره/ زكي مبارك

هو أكثر ضحايا طه حسين وجعاً وحرقةً وألماً؛ فقد حرمه طه حسين من العمل في الجامعة القديمة؛ بعدما رفض التجديد له؛ فانتقل للعمل بوزارة المعارف مفتشاً للغة العربية؛ وهو الرجل الذي يحمل ثلاث درجات دكتوراه دفعةً واحدةً، ويُعِدُّ الرابعة!

فلم يملك زكي مبارك نفسه من الحقد والغيظ تجاه طه حسين؛ لا بل قال عن طه حسين في أحد مقالاته صارخاً من ظلم طه حسين له، والذي أعاد نشره في مقدمة ديوانه(ألحان الخلود): "لو جاع أطفالي؛ لَشويتُ طه حسين، وأطعمتهم من لحمه؛ إنْ جاز أنْ أُقَدِّمَ إلى أطفالي لحوم الكلاب"! ولذلك هاجم طه حسين بضراوةٍ؛ فقال عنه: "إنه لا يقرأ ولا يكتب"! كما ذكر ذلك الأديب الكبير/ وديع فلسطين في كتابه(وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره).

*   *   *

أنور الجندي

يؤكد الأديب/ وديع فلسطين- أن أنور الجندي كان صديقاً لطه حسين، وكان دائم التردد عليه، لكنه اختلف معه بعد أن طلب منه قضاءَ مصالحَ وأمورٍ شخصية له، فكانت القطيعة والحرب الشرسة من الجندي على طه حسين بعد أن رفض الأخير إنجازها له!

 والعجيب في الأمر؛ أنَّ أنور الجندي قضى حقبةً طويلةً من حياته، وهو من أنصار طه حسين ومريديه، وكتب عنه صفحاتٍ مشرقةً في كثيرٍ من كتبه! ففي موضع الثناء والإعجاب؛ يقول في كتابه (صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر): "أمَّا طه حسين؛ فإن أسلوبه هو الرجل بحق، فيه كل ما يوحي بأنه لطه حسين، ولو لم يُوَقِّع باسمه الصريح، ذلك الطابع الأزهري، في الأداء، وذلك الطابع الفرنسي في المضمون، يُذَكِّر بالالتقاء والازدواج الواضح بين ثقافتيه. أما هذا التكرار المتصل؛ فهو يُوحِي بأن صاحبه يُملي، ولا يكتب، وهناك من العبارات الكثيرة، ما توحي بشخصية الكاتب، مثال ذلك قوله: هات يدك أنا أضعها على هذا النص أو ذاك، وتلك العبارات الحائرة: لعلي، وأظن، وليتني أدري، وربما، و.. ثم هذه الأناقة والموسيقى، والكلمات التي توحي بأن السمع والأذن تعطي الكاتب أكثر مما يعطي البصر والنظر.

وأسلوب طه حسين طافحٌ بالسخرية، والتهكم، وافر الإحاطة بالتفصيلات، مطبوع على الدوران حول الأشياء، ولمسها كما تلمس اليدُ الإناء وتدور حوله، وتلك أبرز علامات صدق الظاهرة".

ويمضي الجندي في الإشادة بأسلوب طه حسين الأدبي، فيقول: وقد نشرت لطه حسين الجريدة، ومصر الفتاة، كلمات وخطرات توصف بأنها من النثر الفني، من ذلك مقالته التالية: "يقضي ساعات الليل، ومعظم النهار بين قلبٍ يجف، ودمعٍ يكفن وجسمٍ يرتعش، شهيق وحريق، وزفير وسعير، ووجيب ولهيب، عين ساهرة، وهموم ثائرة، ونفسٍ حائرة، بين ماضٍ مؤلم، ومستقبل مظلم". ونلاحظ هنا كيف أن الجندي مُعْجَبٌ بأسلوب طه حسين وكتاباته الفنية، وتجديداته في مجال الشعر والأدب!

 ويستمر -الجندي- في تقريظه، فيقول: وقد برز طه حسين في ميدان النقد الأدبي في هذه الفترة المبكرة، ووجدت طبيعته المصاولة نفسها في مجال المساجلات، والمعارك، ويبدو هذا في ثلاث معارك ومساجلات، هي أبرز ما عرف في هذه المرحلة".

فلمّا لم يُصِبْ أنور الجندي من مآربه شيئاً من طه حسين؛ شنَّ عليه حملاته الجائرة بعد ذلك؛ فأخرجه من زمرة الأدب؛ لا؛ بل زمرة الإسلام!

*   *   *

محمود محمد شاكر

كتب محمود محمد شاكر مقالاً في مجلة"الثقافة"، سنة 1978م، يرد فيه على مؤاخذات الدكتور عبد العزيز الدسوقي عليه، بشأن خصومته مع طه حسين، فقال مدافعاً عن مكانة طه حسين عنده، وحبه له: تاقتْ نفسي إلى معرفة الدكتور طه، فسعيتُ إليه سعياً، وعرفته من يومئذٍ عن قرب. كنتُ صغيراً، وكان هو في الخامسة والثلاثين من عمره، ومع هذا التفاوت في السن: فقد قرَّبني الرجل، حتى اطمأن قلبي، وانطلق لساني، فبجرأة الشباب، كنتُ أخالفه أحياناً كثيرة، فيما يكتب، وبجهل الشباب أيضاً، أحاوره، وأجادله بقليل علمي. وكان بيِّناً عندي . وظل الأمر بيننا سهواً رهواً (أي ساكناً ليِّناً كنسيم الصبا) حتى جاء عهد التحاقي بالجامعة، فغمرني الدكتور طه بفضله، وكافأني بإحسانه، وأحسن الشهادة لي عند مدير الجامعة، ثم أصر إصراراً حتى غلبه، فبإصراره صرتُ طالباً في الجامعة.

 ويثني  شاكر على وقوف أستاذه بجانبه عندما أحسَّ بالفشل في اجتياز امتحان اللغة  الفرنسية، فيقول: لم أنقطع عن زيارة الدكتور طه في بيته، خلال السنتين، المرة بعد المرة، والذي بيني وبينه سهوٌ رهوٌ.. وذات يومٍ دعاني (طه حسين) وقال لي: غداً تمر عليَّ في بيتي، فعلتُ، وبقيتُ معه طويلاً، في حديثٍ متشعبٍ، وأخيراً سألني: ماذا فعلتَ في دروس الفرنسية؟ قلتُ: الآن أستطيع أن اقرأ قراءةً مقاربة، وأن أفهم فهماً، لا بأس به، ولكني لا أستطيع ألبتة أن اُعَبِّر عن نفسي، في الامتحان الشفوي، لا ينطلق لساني، فقال: وبعدين يا محمود!

فقلتُ: الأمر إليكَ. فأطرق يفكر، ثم قال: إذا كنتَ تستطيع أن تُجيب عمّا تُسأل عنه بالفرنسية، فهل تستطيع أن تُجيب بالإنجليزية؟ قلتُ: نعم، بلا شك. قال: إذن، فعند الامتحان الشفوي تعال إليَّ. ولم يزد، وانصرفتُ. فلما جاء الامتحان، ودنا دوري، ذهبتُ إليه في مكتبه، فأخذ بيدي، وسار بي إلى لجنة الامتحان، ووقف الأستاذ الفرنسي إجلالاً له، وبعد تَقْدِمةٍ قدَّمها، قال: إنه يقرأ بالفرنسية ما شئتَ، فإذا سألته عن شئٍ مما يقرأ؛ فأرجو أن تقبل منه أن يُجيبك بالإنجليزية. وأخذتْ الأستاذ الدهشة، وبعد ترددٍ ومُحاورةٍ قَبِلَ، وامتحنني!

وبعد انقطاع شاكر عن الجامعة، وسفره إلى جدة بالحجاز، تلقى من والده: "أول رسالة .. وفي آخرها يقول زارني في عصر اليوم، الذي سافرتَ فيه إلى السويس، الأستاذ نلينو، والدكتور طه حسين"! لإثناء محمود شاكر عن السفر، وإقناعه بالعودة إلى الدراسة من جديد!

وعندما أخرج شاكر كتابه عن المتنبي سنة 1936م، وجاء أسبوع الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة أبي الطيب، بدار الجمعية الجغرافية بالقاهرة .. نراه يقول: فلقيتُ الدكتور طه مرتين متتابعتين، فقابلني بالحفاوة والبشاشة، ثم أخبرني أنه قرأ كتابي كله، وجاء بثناءٍ، لم أكن أتوقعه، وأطال وأفاض، على مشهدٍ من جميع أساتذتي في الجامعة، وغمرني ثناؤه، حتى ساختْ بيَ الأرض، فماتَ لساني في فمي، فلم أستطع أن أنبس بحرفٍ واحدٍ، وهو آخذٌ بيدي، لا يرسلها، إلى أن ركب، وافترقنا"!

ويضيف شاكر أنه في عام 1940م، وبعد صدور كتابه، وكتاب طه حسين عن المتنبي: دقّ جرس الهاتف، وإذا المتحدث هو الدكتور طه نفسه، فعاتبني عتاباً مُرَّاً، على انقطاعي عنه، ثم حدَّثني، عن مقالةٍ، كان قرأها قبل أيامٍ في الرسالة، كتبتها بعنوان: "ويلكَ آمِنْ"، وحرَّضني على أن أتابع القول على هذا المنهج، ثم دعاني إلى زيارته، فزرته بعد ذلك مرات.

وينتهي شاكر- مُشيدا بمآثر أستاذه طه حسين- إلى القول: "حسبنا هذا القدر من التاريخ الممل، ذكرته واضحاً لمن يتأمله، وفيه من جوانب فضل الدكتور طه، ما ينفي كل خصومة متوهمة، ولم أنسَ قط يداً كانت للرجل عندي. ومنذ سنة 1940م، ظل الود بيني وبينه، إلى أن أفضى إلى ربه، غفر الله لنا وله"!

فلماذا هاجم محمود محمد شاكر إذاً أستاذه طه حسين في مقتبل حياته؛ ثم قرَّظه ومدحه في أخريات حياته، وبعد وفاة طه حسين؟! لا شكَّ؛ أنَّ المصالح والأهواء والمآرب؛ تقف وراء ذلك!

*   *   *

عبد الحي دياب

في عام 1964م؛ نال الباحث/ عبد الحي دياب درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عن رسالته، وهي بعنوان(العقّاد ناقداً)، وكانت بعد وفاة العقّاد بعدة أشهر، بإشراف الدكتور/ محمد غنيمي هلال، ومناقشة الدكتورين/ شوقي ضيف، وشكري عيّاد، ونالها بمرتبة الشرف؛ لكنَّ طه حسين وقف في وجه عبد الحي دياب؛ فلم يسمح له بالتعيين في جامعة القاهرة، ولا في أية جامعةٍ مصريةٍ أخرى؛ بحجة أنه عقّاديُّ النزعة والمدرسة! والعجيب المحزن المبكي؛ أنَّ الحكومة وقتها أرادت تعيين عبد الحي دياب في شركة ماتوسيان للدخان بالجيزة؛ بإيعازٍ من طه حسين نفسه، كما حكى لي ذلك الأديب الفنّان/ أحمد سلطان!

*   *   *

محمود أبو الوفا

يقول عنه صديقه وراويته/ وديع فلسطين: "عندما أصدر الشاعر محمود أبو الوفا ديوانه الأول(أنفاس محترقة) في عام 1934م؛ فوجئ بالدكتور طه حسين يشن عليه حملةً شعواءَ واصفاً الشاعر بالناظم، وضانّاً عليه بكلمة تشجيعٍ"!

وهكذا قسا عليه طه حسين قسوةً لا تُغْتَفَر؛ فما كان من الآنسة/ مي زيادة؛ وهي الأدرى بشاعرية أبي الوفا ومكانته الكبيرة؛ أنْ دعت الدكتور طه حسين إلى بيتها مع الأديب فؤاد صرُّوف؛ وحدث أنْ جاء طه حسين مبكراً؛ فتحيَّنتْ مي زيادة الفرصة للدفاع عن أبي الوفا؛ وكان طه حسين شديد الضيق وقتها؛ بسبب فصله من الجامعة؛ فلم يكد يجلس-كما يقول وديع فلسطين- حتى انقبضتْ عضلات وجهه .. فأرادت مي زيادة أن تُسَرِّيَ عنه؛ فردَّدتْ على مسامعه قول الشاعر:

أريدُ أضحكُ للدنيا؛ فيمنعني          أنْ عاقبتني على بعض ابتساماتي!

فوجمَ طه حسين؛ ثم سأل: ماذا قلتِ؟!

فأعادت رواية البيت عليه.

فسألها مُنْبَهِراً: لِمن هذا الشِّعر؛ فلم يعرض لي من قبل؟!

فقالت: لواحدٍ من الشعراء، والشعراء كثيرون؛ نحفظ شعرهم، وننسى أسماءهم!

فألحَّ طه حسين عليها في معرفة قائل هذا البيت الجميل؛ الذي وقع من نفسه موقعاً جميلاً!

فقالت مي: إنه لمحمود أبو الوفا!

واربدَّ وجه طه حسين؛ حين سمع اسم الشاعر الذي قسا عليه قسوةً جائرةً؛ وحدَّثَ نفسه قائلاً: تُرى ماذا يقول الناس عني؛ لو نُقِلَتْ إليهم هذه الواقعة، وهم الذين قرأوا أحكامي العنيفة على هذا الشاعر؟! وطلب طه حسين من ميّ كتمان هذا الأمر، ولا سيما عن الشاعر نفسه"!

*   *   *

إبراهيم ناجي

ويقص الأديب/ وديع فلسطين جناية طه حسين على هذا الشاعر البائس؛ فيقول: "عندما أصدر ديوانه البِكر(وراء الغمام) في عام 1934م؛ فوجئ بحملةٍ شرسةٍ عليه وعلى ديوانه؛ بل على شاعريته؛ شنَّها طه حسين، وعبّاس العقّاد؛ فاستشعر ظلماً غليظاً واقعاً عليه؛ فقرَّر هجرَ الشِّعر نهائياً؛ بل هجر مصر، والنزوح إلى الخارج بِنيَّة عدم العودة. ولكنَّ هجرته لم تَطُلْ؛ لأنه تعرَّضَ في لندن لحادث سيارةٍ؛ كُسِرَتْ فيه ساقه؛ فاضْطُرَّ إلى التعجيل بالعودة بالباخرة، وعند اقترابها من ميناء بورسعيد؛ قال:

خرجتُ من الديارِ أجرُّ همِّي       وعُدْتُ إلى الديارِ أجُرُّ ساقي!

وسوم: العدد 708