في التوظيف الواقعي للأدب

أبو بكر قرط

عضو تجمع الكتاب الفلسطينيين الشباب

[email protected]

أخذ النقاد على الجاحظ أنه كثيراً ما كان يُشرّق في مؤلفاته ويغرب، فينتقل من موضع إلى آخر دون أن يتمه، ثم يعود إليه في غير موضعه فيستكمله، وقد علل الجاحظ أسلوبه هذا بكونه أمتع للقارئ، وأطرد للسآمة. وللأديب الفقيه علي الطنطاوي أسلوب مشابه لذلك في مقالاته الأدبية، وكأن أصحاب هذا الأسلوب يتصورون الكتابة على أنها مائدة مبسوطة، متى تعددت المواضيع المطروقة، تعددت أطباق هذه المائدة من صنوف الأطعمة والأشربة. وقد ارتأيت أن تكون مقالتي لكم اليوم مائدة تبدأ في الأدب وتختم بنكهة السياسة، فإن قرأ لنا أديب وجد ضالته، وإن قرأ لنا سياسي فليتحسس خواتيم المقالة، وباسم الله نبدأ.

مخيلة الأديب وقلمه قرينان لا يفترقان تربطهم آصرة مقدسة، إذ تتنزل الأولى بالوحي، ويأخذ عنها الثاني آي البيان فيبلغها عشاق الكلمة، وبالقدْر الذي تختزنه هذه المخيلة من مندوحة في الفكر، وبعد في التصوير، وعمق في التأمل، تتوفر لدى القلم مادة كافية ليجري بما جادت به القريحة، وبقدر ما يمتلك القلم من عذوبة في الأسلوب، وقدرة على نقل وحي المخيلة بمصداقية القادر على نقلها كما هي دون إخلال بأمانة الوحي، يستطيع الأديب أن يكوّن لوحة أدبية رافلة بأفانين البيان، على أنه مهما أوتيت هذه المخيلة من قدرة على التأمل ونحت الصور الفنية، إلا أن كثيراً من الأحداث والقصص الواقعية أعظم تأثيراً وأشد وقعاً في النفس مما نسجت مخيلة أعظم أديب؛ لأن الأحداث الواقعية أدب طبيعي يحتفظ ببصمته في الوجدان كونه تجسيداً لوقائع صادقة بعيدة عن التكلف، لا سيما إن كانت هذه الأحداث حزينة أو مأساوية، فمعلوم من الأدب بالضرورة أن أدب الترح أوقع في النفس من أدب الفرح، وقد لخص الأديب التونسي محمود المسعدي هذا المعنى بمقولته "الأدب مأساة أو لايكون"، في حين أن نسج الخيال، أدب اصطناعي، لا يخلو من شائبة الترف الفكري، ولا يسلم من البصمة الدرامية التي درجت الروايات على تنظيم أحداثها لغاية التشويق والإثارة؛ فتقع رسالة الأدب في أحايين كثيرة رهينة حسابات المتعة والإثارة السردية.       

أزعمُ أن أفضل الروايات الأدبية ما كانت أحداثها تجسيداً لوقائع حقيقية سمع عنها الكاتب، أو عاصرها، أو عايشها موقفاً شخصياً في حياته، سواء كانت هذه الأحداث قصة رومانسية، أو موقفاً إنسانياً، أو ظاهرة اجتماعية أو سياسية، أو حقبة تاريخية. وأرى أن للأدب الواقعي تجلياتٍ هامة في عالم الأدب، أولهما: أن يعتمد الكاتب على التفاعل المستمر والاحتكاك الدائم بالواقع أكثر من اعتماده على نسج الخيال، فالتفاعل مع المحيط الاجتماعي يجعل من قلم الأديب نابضاً بوجدان الناس، يعالج مشاكلهم، ويضمد جراحهم، ويوصل صوتهم، ويناقش الظواهر الاجتماعية الإيجابية والسلبية أدبياً، وبهذا يمارس الأديب دور المصلح الاجتماعي.

 كما أن التفاعل مع القضايا التاريخية، وإعادة إنتاجها أدبياً فرصة سانحة لإعادة قراءة التاريخ، ونقده، والوقوف على مكامن القوة والضعف، وتسليط الضوء على المنعطفات الخطيرة التي ما زالت تداعياتها مستمرة على واقع الأمة الحضاري والثقافي، وذلك بأسلوب السرد الأدبي الطارد للسآمة، الجاذب للفئة الشابة التي يقصيها أسلوب المؤرخين الثقيل ويدنيها أسلوب الأدباء الماتع، مع الحذر من طغيان التغول الأدبي على الحقيقة التاريخية، فيطوّعُ التاريخُ لخدمة الأدب، بدلاً من تطويع الأدب لخدمة التاريخ، وهذه إشكالية وقع فيها كثير من الأدباء مثل جورجي زيدان الذي جعل من قلمه مبضعاً لتمزيق التاريخ الاسلامي، متكئاً في كتاباته على إرث استشراقي صِرف، ورواية تغريبية، مختزلاً التاريخ الإسلامي كله في كأس وغانية !!

 وثانيهما: أن الأحداث الواقعية تشكل أرضية صلبة وبذرة قوية ينطلق منها الكاتب، ويفرع عنها أحداثاً ثانوية، ويثريها بإضافاته الأدبية الخاصة. وبالتعبير المعاصر، الحدث الواقعي أشبه ما يكون بـ"الهيكل الخراساني" للبناء لا يحتاج إلا إلى "التشطيب" والتهيئة للسكنى.

 فالأحداث الواقعية أعظم وقعاً وأشد تأثيراً في نفسية القارئ من الأحداث التي يصطنعها العقل الباطني لخيال الكاتب، وكأن الصدق سر الوجود في كل شيء، حتى في عالم الأدب. والكاتب المحظوظ هو من صادف قلمه واقعة حقيقية فأحالها رائعة أدبية خالدة، تظل هاجعة في خدر المجد الأدبي مهما تعاقبت السنون. ولا عجب أن تحصد أعمال أدبية شهرة، وألقاً، وجوائز عالمية إذا كانت من نسج القدر لا من حبك البشر، من مثل راوية "الفضيلة" لبرناردان دي سان بيير، وهي رواية واقعية تعلي من شأن الفضيلة والعفة والمبادئ والقيم والأخلاق، وقد قلد نابليون كاتبها وسام الشرف، ورواية "تحت ظلال الزيزفون" لألفونس كار التي عالجت صراع القيم بين الغنى والفقر، ورائعة لامارتين "رفائيل" التي يسرد فيها معاناته الشخصية في رحلة علاجه وتعرفه على محبوبته المريضة التي لم تلبث أن ارتحلت إلى العالم الآخر تاركة إياه طريحاً يعذبه الوجد ويقتله الفراق، فجسد محنته في هذه الرواية.

 ولعل من عجيب الاتفاق أن يتأخر نشر هذه المقالة التي بين أيديكم، إلى حين صدمتِنا بوفاة الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، الذي مثل أيقونة " الواقعية العجائبية" التي توظف الأدب لخدمة الواقع، وقد كان لعمل ماركيز في المجال الصحفي وتفاعله المستمر مع الواقع تأثير كبير على توظيف شواهده ومعايناته في أعماله الروائية العظيمة، حيث قال بأن عمله الصحفي كان بمثابة "وسيلة لعدم افتقاده الاتصال مع الواقع"، وكان يعتبر الخيال أداة لحسن توظيف الواقع، وأن أي عمل روائي ما هو إلا تمثيل مشفر للواقع،  وردًا على التساؤل القائل بأن كل ما كتبه يستند إلى شيء واقعي، أجاب ماركيز: «ليس في أعمالي الروائية التي كتبتها ما لا يستند إلى الواقع».

وحتى  إذا عدنا للأدب العربي"السلفي" كما يحلو للعقاد أن يسميه، وهو الأدب الجاهلي وما أشبهه من شعر الطبقة اللغوية العالية المغرقة في الجزالة، المفتلذة من كبد الصحراء، وخشونة البادية، نجد ذات الظاهرة     ( الأدب الواقعي والأدب المصطنع) متجلية في أشعار القدماء، ويكفينا هنا أن نسوق أنموذجين أدبيين يمثلان جانبي الظاهرة، أولهما: الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، فقد كان مثالاً للشاعر الواقعي الذي لا يصف أحداً إلا بما فيه، فلا يهذي هذيان الشعراء، ولا يتزلف تزلف المنتفعين، ولا يأكل بشعره، بل كان جل قريضه موظفاً في خدمة الحكمة، والأخلاق، والرزانة، وتغليب لغة العقل على الجهل، والدعوة للسلم، ونبذ التحارب والاندفاعية الهوجاء، ونزق الشبيبة، والتهور الأعمى، بل إن كثيراً من كلامه شابه كلام الرسل، فإذا قرأت قوله:

فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم        لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِ

يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر      لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ

يخيل إليك أنك تقرأ نصاً شعرياً لأحد السابقين الأولين إلى الإسلام من الرعيل الأول، وليس لرجل من أهل الفترة مات قبل البعثة، وقد جاء في رواية، إن صحت، أن عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وصف زهيراً بقوله " لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه"، بل إن عدداً من المستشرقين سجلوا إعجابهم بشخصية زهير الرصينة من أمثال ليدي آن بلنت و فلفريد شافن بلنت، حيث وصفاه بقولهم" شخصية زهير نقيض لامرئ القيس وطرَفة بن العبد، كان امرؤ القيس وطرفة رجلين طائشين وحياتهما غير منضبطة، وماتا ميتة عنيفة في عز شبابهما، بينما عاش زهير حياة طويلة ونال احترام الجميع لحكمته وأخلاقه العالية ولم يكن بحاجة للآخرين".

أما الأنموذج النقيض من الطيشان الأدبي فكان للبحتري الذي صور بأبيات شعرية معركة وهمية زعم أنه خاضها مع ذئب صادفه يوماً، فوصف قتله إياه، وعلو همته، وشجاعته الفائقة، فقال عن هذه المعركة الهوليوودية:  

عوى  ثم  أقعى   فارتجزتُ   فهِجته   ***   فأقبل   مثلَ   البرقِ   يتبعُهُ   الرعدُ

فأوجرتهُ   خرقاءَ   تحسبُ    ريشها   ***   على  كوكب  ينقض  والليلُ   مسودُ

فما   ازدادَ    إلا    جرأةً    وصرامةً   ***   وأيقنتُ  أن  الأمرَ  منهُ   هو   الجد

فأتبعتها   أخرى   فأضللت    نصلَها   ***   بحيث  يكون  اللب  والرعب   والحقدُ

فخر   وقد   أوردته   مَنهلَ   الردى   ***   على  ظمأ  لو   أنه   عذب   الوِردُ

- ونصل هنا لحديث السياسيين فليتقهقر الأدباء

كان البحتري في وصفه هذا أشبه شيء بالإعلام العربي في هزيمة حزيران 1967، حين كانت الطائرات الإسرائيلية تدك معاقل العرب، وتدمر الطائرات المصرية في مدارجها قبل أن تقلع، والمذيع المصري أحمد سعيد يقرأ على مسامع الأمة من إذاعة صوت العرب بيانات الجيش المصري المكذوبة حول النصر المزعوم، في الوقت الذي كانت فيه جنرالات الجيش المصري تتهيأ لمعركة أخرى  من نوع آخر وهي التمايل ثُمالة والترنح طرباً على أنغام كوكب الشرق وهي تلوّحُ لهم بمنديلها الأبيض وتشدو قائلة " جيش العروبة يا بطل الله معك..ما أعظمك ...ما أروعك ..ما أشجعك"، وصدقت أم كلثوم، فالشجاعة الفنية ما زالت متأصلة في جيش العروبة، مع بعض التطور في جانب الرقص، والذي يستحوذ على مناصريه بشكل كبير هذه الأيام إلى درجة أن العلاقة المضطردة بين نزعة الرقص وتأييد الحكم العسكري أصبحت ظاهرة تستدعي الدراسة والنظر من علماء الاجتماع.