وجيه البارودي الطبيب الشاعر والشاعر الطبيب

د. عبد الرحمن بارودي

هو الدكتور وجيه عبدالحسيب البارودي ( رحمه الله ) ..

ولد عام 1906 في مدينة حماة ـ سورية ..

درس في بيروت في الكلية الإنجيلية السورية ( الجامعة الأميركية ) حيث أنهى دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية خلال أربعة عشر عاماً, وتخرج طبيباً عام 1932.

مارس مهنة الطب مدة ستين عاماً.

قال الشعر في العشرين من عمره.

دواوينه الشعرية : بيني وبين الغواني 1950 ـ كذا أنا 1971 - سيد العشاق 1995.

جرى له حفل تكريم رسمي وشعبي بمناسبة بلوغه السبعين 1975, وصدر عن هذا الحفل عدد وثائقي من مجلة (الثقافة) الدمشقية. كما جرى حفل تكريم آخر له تحت رعاية وزارة الصحة بصفته أقدم طبيب 1991.

كتب عنه سهيل عثمان دراسة بعنوان: آخر شياطين الشعر, صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في سورية.

عنوانه : شارع 8 آذار ـ حماة ـ سورية.

توفي عام 1996 (المحرر) .

____________________________________________

وجيه البارودي الشاعر الحموي السوري المميز، لم يقرزم الشعر يوماً، بل ولد شاعراً، وبدأ شاعراً محلقاً كما يقول عن نفسه، فقد سألته ذات يوم في بيته الحموي: متى بدأت تجريب الشعر؟ فانتفض البارودي ورفع صوته، لأنه كان يعاني ضعفاً في السمع: أنا لم أقرزم الشعر يوماً، أنا ولدت شاعراً.. وما من شاعر نفض ا لغبار عن الفكر والمجتمع والتخلف والسياسة في قالب فكه كما فعل وجيه البارودي، وهو الذي يدّعي أنه لا يحفل بالسياسة كما يقول:

أنا في السياسة ليس لي باع

ولي في الحب أجنحة تحلق للعلا

ولكن على الرغم من ذلك فقد كان البارودي شاعراً ثائراً ونهضوياً وتغييرياً من خلال رفضه لكل مظاهر التخلف في المجتمع، وهو في ذلك صنو الشاعر نزار قباني في صرخاته الاجتماعية، ومن عظم البارودي وكبره، سألته عن نزار- والحديث مسجل- فقال فيه كلاماً طيباً، وأبدى إعجابه به، ووصفه بالعبقرية، وحدد الفرق بينهما أن نزار شاعر حب وغزل، وهو شاعر عشق، وكان يطيب له لقب (سيد العشاق) وهو الديوان الأخير صدوراً له.

البارودي ودهشة الشعر ..

---------------------------------

لم يكن البارودي شاعراً مكثراً، ولم يطبع سوى ثلاثة دواوين: (بيني وبين الغواني) الذي ضم أشعاره من عام 1925 إلى عام 1950 طبعه في حماة عام 1971، و(كذا أنا) ضمّ أشعاره من عام 1950 إلى عام 1970 وصدر في الوقت نفسه، وقد طبع منهما البارودي عشرة آلاف نسخة في ذلك الوقت و(سيد العشاق) الذي ضم أشعاره حتى وفاته، وقد أشرف على طباعته راويته وصديقه الراحل وليد قنباز... من عام 1971 وحتى نهاية القرن العشرين لم يصدر الشاعر أي مجموعة، ولم يغب عن المشهد الشعري، ولكنه في الوقت نفسه لم يغب عن المشهد الطبي المهني، فبقي على تواصل مع جمهوره في جلسات نقابته المهنية، وكذلك من خلال بشاشته التي لم تقف حائلاً دون لقائه مع أي محب لشعره، أو مريد لأدبه مهما كانت منزلته، ولا أزال أذكر احتفاءه بي وأنا في بداية الطريق، ما زادني قرباً منه وتواصلاً معه.

ومع ذلك فقد استطاع البارودي أن يهز الأوساط الاجتماعية والسياسية، وأن يأسر الأدباء والشعراء ليقفوا أمامه معجبين بعبقريته، وها هو الأستاذ عبد الرحمن عياش يقول في شعره (في قيثارة وجيه وتر ثالث رفاف الجناح خصيب النغم وهو وتر الاجتماع على أن ريح الشاعر لم تكن في قصائده الاجتماعية لينة الهبوب، فهو على أشد ما يكون اكفهراراً، وأشد ما يكون مضاء. هو في اجتماعياته موسيقار في عينه جذوة من نار تتطلع إلى الوتر وهو يكاد يتقطع تحت قبضته ويموت...».

وشاعر حماة بدر الدين الحامد يقول فيه: هو ليس ممن ينظمون الشعر للنظم، ولا من أولئك الذين يتحينون المناسبات للقول، ولا ممن يضعون الموضوع نصب أعينهم فلا يزالون يجهدون النفس حتى يستقيم لهم الشعر. إنه لنفسه ولأخيلته وذكرياته ووصفه ورضاه ونقمته.

إنه بشهادة الكبار شاعر للشعر لا للنظم، وهذا ما نلمحه في أشعاره كلها، فهو لا ينظم الشعر الخالي من الروح والإحساس ليكون موجوداً، وإنما يفيض شعراً وحباً وعذوبة مع ثورته التي تتجاوز الحدود.. ووجيه البارودي الطبيب الشاعر هو من الكبار، وقد كان زميلاً لشاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان، ولهما قصيدة مشتركة بعنوان (وادي الرمان) يقول البارودي في مقدمتها (هذه القصيدة أنموذج مفرد مبتكر نظمتها بالاشتراك مع المرحوم إبراهيم عبد الفتاح طوقان شاعر فلسطين ورفيقي في الجامعة الأميركية في بيروت. امتزج روحانا بكل كلمة وبكل شطرة).

واد يهيم به الجمال وإنه

ليكاد ينطقه الجمال فينطق

النور في جنباته متألق

والنور في وجناتها يتألق

وهو كذلك صديق وزميل للدكتور الباحث الراحل عمر فروخ صاحب الدراسات والمصنفات ذات القيمة العالية في بابها، بينهما صداقة واحترام، على اختلاف في الرؤية والغايات. هذا هو الشاعر الدكتور وجيه الباردوي الذي لا نعرف عنه سوى نتف من المعلومات تدل على تقصيرنا تجاهه، وكم أتمنى أن تتصدى وزارة الثقافة السورية لطباعة أعماله الشعرية الكاملة في سلسلتها المتفوقة، وخاصة أن أشعاره طبعت محلياً في حماة، فلم تصل إلى شرائح كبيرة في المجتمع السوري الثقافي، وهي بالتالي عاجزة عن الوصول إلى الأوساط الثقافية العربية خارج سورية.. ويؤسف أن أغلب المتخصصين لا يعرفون عن البارودي وأشعاره شيئاً، ويكتفي أحدهم برأي سمعه هنا أو هناك!!

البارودي والطب ..

------------------------

كان البارودي طبيباً بارعاً، وعيادته كانت مقصودة من أهل حماة قاطبة، ولعل إخفاقاته المتكررة في دخول معترك السياسة والنيابة كانت وراء تفرغه التام للطب، فكرس حياته لتطبيب الناس مما قبل منتصف القرن العشرين وحتى أخريات أيامه، ويسجل اسم وجيه البارودي في سجل الأطباء كأقدم طبيب يمارس الطب في سورية، ويذكر أهل حماة أن عيادته كانت مقصد الفقراء الذين كانوا يزورونه، ويأخذون الأدوية أيضاً إن لم يكونوا قادرين، وقد شهدت ذلك عند زيارتي له في ثمانينيات القرن العشرين، وقد أخذ الطب مساحة لا بأس بها من شعره كما فعل في السياسة والنيابة والمجتمع، وتبقى أشعار الغزل أعلى مرتبة عند البارودي الشاعر والعاشق، وسيد العشاق كما كان يحب أن يوصف..

من شعره يتحدث عن الطب والشعر:

أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعراً 

أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر

أروح على المحموم أشفي أوامه

بأجمع ما أوتيت من قوة الفكر

فأسقيه من روحي رحيقاً ومن يدي 

مريراً فيشفى بالرحيق أو المر

وبيني وبين المال قامت عداوة

فأصبحت أرضى باليسير من اليسر

ويقول في قلقه وخلافه مع المجتمع

نفسي تميل إلى الفتون وموقفي

في الناس موقف عفة ووقار

في كل يوم توبة ونقيضها 

من بعدها قبل انقضاء نهاري

كيف السبيل إلى الوقوف وكل ما 

في الكون يدفعني مع التيار

وقال بعد إخفاقه في انتخابات 1949

أسأت أسأت حين غرست طيباً بأرض لا يطيب بها النبات

أسأت أسأت حين بذلت روحي لتضحك في جوانبك الحياة

لئن جحد الذوات يدي فإني لأعجب كيف يجحدني العفاة

أيخفق عالم والعلم نور وتظفر بالنيابة شعوذات؟!

إذن بين البهائم عشت عمري وآيات الدلائل بينات

وله في حب ومغامرة:

عامان من سهر ومن أشواق

حتى ظفرت بقبلة وعناق

وتقول وهي تذود عن وجناتها

إني أخاف تمادي العشاق

فنقضت ميثاق الهوى وضممتها

كالليث في نهم وفي إطباق

أبلى وتبلى الذكريات على الغوى

ولذيذ رياها بروحي باق

وله قصيدة القبلة الملتهبة:

راودتها عن قبلة فتمنعت وتصلبت بعنادها لا تسمح

وأنا الملح وكيف أرجع خائباً من كان مثلي لا محالة ينجح

قالت بربك لا تعد أبداً إلى هذا الجنون وإنني لك أنصح

ولئن ربحت وكان نجمك ساطعاً فلسوف تخسر لا يقيلك مربح

أما أنا فلقد صفحت وربما جاءتك من بعدي التي لا تصفح

ويصف الحب في حياته:

لكل فاتنة سحر وإغراء 

فلا تنوب عن السمراء بيضاء

لي ألف محظية لو أن واحدة

منهن غابت سرى في قلبي الداء

وفي مراتب إلا أن واحدة

ألذ ما أنجبت في الدهر حواء

الحب أصبح قوتاً لا حياة إذا

فقدته فهو عندي الخبز والماء

وأختم بقصيدة قصيرة قالها عام 1960 وفيها يتحدث عن تباعدهما:

ستأتي ستأتي لا أزال مؤملاً

ستأتي بلا ريب ستأتي على الفور

سيدفعها نحوي غرام عرفته

ملحاً فلن تقوى طويلاً على الصبر

سيجذبها خيط دقيق من الهوى

ويأسرها بيت رقيق من الشعر

وسوم: العدد 721