نحو نقد إسلامي متميز "منهجية التميز"

     01 معنى التميز

     02العقل المسلم (النشأة والتطور والتميز)

     03 معركة النقاء والتلوث والانشقاق الثقافي

     04احتلال العقل المسلم

     05 تحت الركام

     06 تفكيك الركام

     07 تنظيف الركام

     08خطوات خارج الركام

     09خطوات إلى الأمام

نحو نقد إسلامي متميز

" منهجية التميز "

1ـ معنى التميز :

       أظن أن من عادة الباحثين ، العودة إلى معاجم اللغة ، لاستجلاء ما تطرحه هذه المعاجم ، حول المعنى اللغوي . ومن خلال جولتنا الأولى لاكتشاف المعنى ، دلنا المعجم على مجموعة من موحيات الدلالة لهذه الكلمة ، في أصولها اللغوية التي وُضعت لها، وتبين أنه لفظ فيه معنى : الظهور والانفصال والبروز والفضل أو الزيادة ،القائمة على الافتراق النوعي عما يشابه أو يماثل أو ينافس(1) .

       أما عندما نتوسع في دلالة التميز ، لتوظيفه في قضايا الفكر، ومنها النقد ، فإنه يدور حول الانطلاق المتميز الذي لا يتم إلا من خلال الذات الحضارية والخصوصية ، ونكهاتها المحلية التي تحمل ذات المبدع وتميزه إلى الآخرين ، وبذلك  يَبين ويتميز على غيره في إنتاجه ومناهجه وتفكيره وسلوكه ، أو هو كما صوره شاعرنا العربي القديم :

                                 إذا كنتُ في القوم الطوال           فضلتهم بعارفة حتى يقال طويل(2 )    

       ويمكن أن نقصد به اصطلاحا ، ما أوجده فينا الإسلام من  مناهج ومفاهيم وتفسيرات وخصائص وسلوكيات) تجاه الكون و الإنسان والحياة ، جعلتنا نفارق الأمم ونتميز عنها بشخصية حضارية مخالفة للحضارات المجاورة لنا في هذا الكوكب .

2ـ العقل المسلم ( النشأة والتكوين والتميز ):

      العقل المسلم ، مصطلح أُخذ من قبيل وصف الإنسان بالصفة الفكرية التي يحملها ، وينظر من خلالها إلى الأشياء ، ونقصد به ، مادة الفكر في عقل هذا المسلم ( المرجعية والمنهج ومسارات التفكير والسلوك وطرائق تفسيره لظواهر الكون والحياة و الإنسان ...) .

      وقد نشأ هذا العقل ، وبدأ تكوينه ، يوم بدأ هذا العربي يستجيب لنداء رسالة السماء ، التي خاطبته بالإقناع والإعجاز .

      وعندها خالطت فكره وقلبه ، فاختار الإسلام منهجا وعقيدة ونظاما لحياته ، فاستمد من مرجعية (الوحي) علمه و فهمه للحياة ، وجعل من هذه المرجعية مصدرا وحيدا لفهمها وتفسيرها ، فاستخرج منها شرائعه وسلوكه ، وخضع لها في مؤسسات الدولة والمجتمع وبناء الحضارة .

     كان ذلك يوم أضاء الرسول r عقول الرجال بنور ( القرآن والسنة ) ثم تتابع هذا الفعل في أبناء الأمة ، من الصحابة الكرام، والتابعين وتابعيهم ، والمجددين من علماء الأمة عبر العصور .

        وبمرور الزمن ، وتعاقب جهود الأجيال ، أدى تراكم الخبرة عند علماء هذه الأمة إلى فقه هذه المرجعية ، والتعمق فيها ، حتى وصلت الأمة إلى مصطلحاتها الفكرية المستقلة ، الخاصة بها ، والتي تصف بها منتجاتها ، في الفكر والعقيدة والحضارة وغيرها، وهكذا تأكدت خصوصية هذا العقل في مناهجه وتفكيره ومحاكماته ، وبذلك انفصل هذا العقل عن الحضارات المجاورة ، وتميز عنها مستقلا بذاته ، ويمكننا أن نوجز هذا التميز وتلك الخصوصية في الخطوط العريضة التالية .

3ـ الخطوط العريضة لخصوصية العقل المسلم :

       أ ـ اتخذ العقل المسلم علم الوحي المتمثل ( بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) مرجعية له ، يفكر من خلالها في الحياة ، ثم اعتمد على هذه المرجعية و إحالاتها لهذا العقل في فهم الوجود ، لان الوحي والوجود صادران عن مشيئة واحدة هي إرادة الله سبحانه وتعالى ، فالوحي يمثل ( الكتاب المسطور ) والوجود يمثل ( الكتاب المنظور ).

         ثم جاء جهد هذا العقل في استيعاب هذه المرجعية وفقهها ، حيث تمكن علماء الأمة من الوصول إلى منهجية التعامل ، مع نصوص الوحي في علم مستقل ، يضبط هذه المنهجية ، ويحميها من الانحراف عن مقاصد الوحي، وهذا العلم هو علم (أصول الفقه) وهو علم مبني على ما يسمى علوم الأمة ( علوم اللغة، وعلوم التفسير، وعلوم القران، وعلوم الحديث ...) وهي العلوم التي اختصت بخدمة علم الوحي وتفصيل مقاصده .

       وتبين للعقل المسلم أن علم الوحي يرشده إلى مصدرين للعلم والمعرفة هما :

1ـ علم الأمر الرباني : ( علم الثابت ) ومصدره آيات الوحي التي تفصل لهذا العقل : الحلال والحرام، ونظام الحياة، والإجابة على الأسئلة الكبرى التي تشغل العقل البشري ( علم العقيدة) والعبادات، وعلاقة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى ومع أخيه الإنسان ومع الوجود  .... وغيرها.

2ـ علم الإحالة إلى الوجود : ( علم المتغير ) وهو العلم الذي يتناول الأمر الرباني للعقل المسلم بهدف  اكتشاف سنن الحياة والوجود وتوظيفها لخلافة الإنسان في عمارة هذه الأرض ، ومن خلال منهجية إخضاع المتغير للثابت .

     ب ـ حمايه المرجعية من العبث والمحافظة على التميز ، وذلك باعتبار(القرآن الكريم والسنة الشريفة وما يتبعه من علوم الأمة) المرجع الوحيد ، الذي لا يجوز التلقي من غيره(3) ، إلا بالخضوع لمنهجه ، وهذا يحقق للامة وحدة المشرب ووحدة التفكير ، ويحفظ لهذا العقل الصفاء والتميز والاستقلال ، ويحميه من التلوث بالمناهج المخالفة .

      ج ـ وتأكيدا لذلك الأمر في المحافظة على صفاء المنهج ، انخلع المسلم من ثقافته السابقة ( الجاهلية )   و رمى بها من وراء ظهره ، لأن القرآن الكريم ، لا يفتح كنوز علمه لمن يريد أن يفرض عليه ثقافته   السابقة ، حيث تقف هذه الثقافة حاجزا ومعطلا بينه وبين فهم القرآن ،وهنا يمكن أن نفرق بين تخزين الخبرة الثقافية وبين نقل الثقافة .

       د ـ يعترف المسلم أن العقل البشري طاقة هائلة ، وبه يتم اكتشاف واستيعاب سنن الله في الكون والحياة ، وبه يتم فقه أوامر الله سبحانه وتعالى فيما جاء من علوم الوحي ، ولكنه يعلم أنه محدود القدرة ، ولذلك يجب ألا تهدر طاقاته فيما لا يستطيع ، مما هو ليس من قدرته ولا في مجاله ، كالبحث في عالم الغيب ، وتفسير الوجود ، والإجابة على الأسئلة الكبرى من أمور العقيدة، والعبادات ، وقواعد بناء المجتمع الفاضل ، والعدل، والسلوك ،والأخلاق ،والتشريع لحياة البشر بالتحليل أو بالتحريم ) ولذلك فهو قاصر فيها ، فيكل هذه الأمور إلى علم الوحي لأن الحاكمية فيها لله وحده ، ووظيفة العقل في هذه الأمور هي : الاستيعاب لنصوص الوحي، وفقه مقاصدها، وتنفيذ الأوامر الربانية الواردة فيها .

       أما في المتغير من حياة البشر وفيما يخص البناء الحضاري والجانب المادي واكتشاف سنن الكون والحياة ، فيتعامل معها من خلال منهج ( الاجتهاد والتجديد والاكتشاف )  لأن الوحي أحاله إلى ذلك .

ومعنى ذلك أنه عقل يجمع بين منهجية (الثابت والمتغير ) في وحدة واحدة، لأن ثوابت الوحي هي المحاور الربانية التي تضبط السلوك البشري وتحمي عقول الناس من التخبط والضلال أو الخضوع للهوى والمصالح .

 هـ ـ غاية العقل المسلم هي إشباع حاجات الإنسان ،من خلال التعرف على منهج الحق والخضوع له في هذا الإشباع ، لأنه يعلم مسؤولية الإنسان عن هذا الإشباع ، أمام الله سبحانه وتعالى .

       وـ يفهم العقل المسلم قضية التطور على أنها التعمق في فهم الحق والبحث عن الحقيقة اقترابا من الصواب ، الذي يرضي الله سبحانه وتعالى ، أما التطور الذي يقوم على أسلوب القفزات ، التي تحكمها الأهواء  والمصالح وحظوظ النفس ، فهو ليس من منهجه .

     ز ـ أمضى العقل المسلم فترة تقارب قرنين من الزمن في توثيق وحماية نصوص المرجعية ( جمع القرآن الكريم ، وجمع السنة النبوية الشريفة  )  ثم انتقل إلى علم معرفة النص واستنباط علاقته مع الواقع ومناهج الوصول إلى فهمه وتطبيقه من خلال ( علم أصول الفقه )  الذي يمهد إلى علم الفقه العام .

   حـ ـ ( كانت الثقافات السائدة قبل الإسلام تعتبر الواقع موضوعا خسيسا غير كفيل بأن يوصل إلى الحق وإلى الخير ، فالثقافة اليونانية تعتبر رأس الفضائل التعقل المجرد ، والثقافة الهندية والفارسية تعتبر أن المجاهدة الروحية ( الروحنة ) الطريق الوحيد إلى الحق ، وفي ذلك نفي للواقع المحسوس وإسقاط له )(4) فكان التفكير يعيش مع المثال والخيال ويتهرب من الواقع والعمل فيه ، ويترك العمل للطبقات المستعبدة في المجتمع .

        فلما جاء الإسلام علم العقل المسلم احترام حقائق هذا الواقع  ( عالم الشهادة ) وألزمه به ، وجعله مكان خلافته وتكليفه ، قال تعالى : ( إن في خلق السماوات و الأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون  )(5) .

       وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الحواس  التي تربطه بهذا الواقع ، و أحال حواسه وعقله إلى اكتشاف السماوات والأرض واكتشاف السنن والقوانين  التي  تحكمها ، ثم أمره بالاستفادة من اكتشاف هذه السنن في بناء حياته وحضارته على الأرض ، وعلمه أن هذه السنن وهذه السماوات وهذه الأرض تشير إلى عظمة الخالق ، وتعلمه الإيمان ، وان هذه السنن تطيع خالقها ، ولا تجامل مؤمنا ولا كافرا ، وطالبه أن يتعلم من هذه السنن ، فيأخذ بالأسباب التي تحكمها ، ليستفيد من ذلك في تيسير  حياته الدنيا على الأرض  .

       وعلمه أن الأخذ بالأسباب أمر رباني ، وأن تركها كفر ، وأن التوكل عليها من دون الله  شرك ، ودعاه إلى  التقرب من خالق الأسباب ( بالدعاء ) حتى يعينه على امتلاك ناصيتها .

       وبذلك أدرك العقل المسلم أن ترك الأخذ بالأسباب هو تهرب من العمل الصالح ، وان الدعوة إلى الزهد في الدنيا تهدف إلى التحكم بها ، والسيطرة عليها ، حتى لا تلهينا عن مقصد وجودنا وخلافتنا على      الأرض ، وليس إعراضاً عنها أو إهمالاً لشأنها ، لأننا بذلك نهمل مقصد وجودنا ، فالدنيا مزرعة الآخرة  ومن أهمل مزرعته أهمل آخرته .

     وما عرف العقل المسلم ترك الآخذ بالأسباب في فكره إلا عندما تسرب إليه الفكر الصوفي الشرقي(6) من الثقافة ( الهند فارسية ) حيث لعب دورا تخريبيا تجاه العقل المسلم ، تحت التذرع بان قضاء الله قد       تم ،ولا ينفع معه عمل ولا أخذ بالأسباب ، وهذا هو الكذب على الله ، والفسق عن دينه ، يقول أحد شعراء الصوفية:

                  جرى قلم القضاء بما يكون                                    فسيان التحرك والسكون

                   جنون من أن تسعى لرزق                                    ويرزق في غشاوته الجنين

       ط ـ وهكذا ولد العقل المسلم مخالفا للحضارات المجاورة ، مستقلا عنها، مفارقا لها ، متميزا      عليها، في: مرجعيته ،وعقيدته، وفهمه، وغاياته، ووسائله، ومستخرجاته الحضارية ، في حضارة هي حضارة الحكمة ( ويعلمكم الكتاب والحكمة...)(7) وقد شهد الله لهذه الأمة بالتميز في قوله سبحانه وتعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )(8) وظهر هذا التميز في مختبر السلوك والتعامل مع الآخرين ، من أهل الكفر من خلال نظرية ( التعارف ومعارضها ) فهو لا يؤمن بالتذويب القسري للآخرين من خلال ( القوة والقسر والمكر و التخطيط ) وإنما يستعمل معرض التعارف والتعاون بين حضارات البشر ، ويترك لعقولهم اكتشاف ما يتميز به الإسلام على بضاعتهم القائمة على العقل الفلسفي المتكل على نفسه .

      وعند ذلك تتعرف الأمم على خصائص هذا الدين وتميزه ، من خلال معارض هذا التعارف في ( السفر، والحرب ،والسلم، والتزاوج ،والهجرة ،والتجارة، والحوار، والجوار، والمعاهدة، والشدة، والرخاء،والسلوك، والموقف، والفكر، والأدب ،والفن ....) وغيرها .  قال تعالى  لا إكراه في الدين )(9) وقوله تعالى  وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(10) لأن الإيمان يقوم على الاختيار الحر بعيدا عن القهر ، وإذعانا للحق ، وهذا هو منهج الأنبياء وجوهر رسالتهم.

 3ـ معركة النقاء والتلوث والانشقاق الثقافي :

        وقد بدأت هذه المعركة في عهد المأمون العباسي ، حيث تجمعت بقايا الثقافات المهزومة أمام الفتح الإسلامي ، واستترت داخل المجتمع في تيار عريض، يجمع خليطا من أصحاب البدع والأهواء و المصالح والمغامرين و أعداء الأمة من بقايا اتباع الثقافتين  ( الهندفارسية ) و(اليونارومانية ) الطامعين في أحياء ثقافاتهم البائدة .

       ولم تكن قوة الدولة، وقوة المد الاسلامي ، تسمح لهذه الفئات بالظهور العلني ، فكانت هذه الفئات تلملم جهودها ، وتنتظر اللحظة المناسبة في دار الخلافة . 

        ولما حصل الخلاف بين الأمين والمأمون ،استعان الأمين بالعرب  ، واستعان المأمون بأخواله الفرس ، فلما انتهى الأمين واستقر الأمر للمأمون ، استبعد المأمون العرب ، وأقصاهم عن عصب الدولة ، وقرب إليه أخواله الفرس ، ليشكلوا له الحماية والاستقرار ، ويصبحوا شركاءه في الحكم .

        ولم يكن بمقدور العنصر الفارسي إحياء الثقافة الفارسية ، بشكل علني ومباشر ، ولكنهم رفعوا شعارا مقبولا للجميع ، هو تشجيع النهضة العلمية والترجمة .

       و أصبحت التعددية الثقافية هي المظلة، التي يحتمي تحتها أتباع الثقافتين ( الهندفارسية) و             ( اليونارومانية ) ومما يزيد في طمع أتباع هاتين الثقافتين ، في تحقيق انتصار ما، على الثقافة الإسلامية ، من خلال التأثير على نقائها ، وصبغها بما يستطيعون من ثقافتهم ، هو أن الثقافة الإسلامية لا تزال طرية العود ، ومعظم علومها وفنونها لا تزال تحت التأسيس وفي مراحل التكوين .

        كان الصراع محتدما ، وإن كان يكتنفه الخفاء والغموض ، إلى أن امتد وظهر على السطح في جلاء ووضوح.  بدأت المعركة تشتد ، وكان هدف أعداء الإسلام هو ثني العقل المسلم عن منهجه ومساره وتميزه ، وعرقلة جهوده في التطور الطبيعي من خلال ذاته ، وإبطاء سيره وإيقاف قدرته على الهجوم ، وإخراجه عن مجراه نحو أهدافه ، وكانت مخططاتهم أشبه ما يكون بسد مجرى النهر بالحجارة ، وعندها يتفرق مجراه إلى عدة مجاري ضعيفة ، يمكن العبث بها وتسريب ثقافة التلوث إلى داخلها .

      ويمكن إجمال نتائج هذه المعركة على العقل المسلم بالنقاط التالية :

حاول دعاة الثقافة ( الهند فارسية ) اختراق العقيدة الإسلامية وإفسادها من خلال نظريات  الفرق الباطنية ، التي بثها دعاة الثقافة الفارسية ، حيث أدخلت الفكر الصوفي التناسخي والحلولي الذي كان يتبنى التواكل ومحاربة الأخذ بالأسباب والعمل الجاد في سلوك الأمة ، لجرها نحو الضعف ،         وظهرت فرق : التشيع ، والشعوبية ، والزندقة ،  لإفساد فكرها السياسي والعقائدي ، و الحط من شانها ، وزرع الانهيار النفسي فيها ، ولكن هذه الفرق فشلت في التأثير على العقل المسلم ، فانفصلت عنه بإيجاد فرقها الضالة  المعادية التي تظهر كأنها دمامل في جسد الأمة .

      2ـ  وبدأ إحياء الثقافة (اليونارومانية ) على يد اليهود والنصارى(11) ، يدفعهم الطمع المادي في الحصول على الذهب ، مقابل عمليات الترجمة ، وهم بذلك يحققون هدفاً آخر هو تلويث العقل المسلم، وصبغه بثقافتهم،  كما أن هذا التلوث يفتح في العقل المسلم ثغرة تجبر الأمة على الاعتراف بوجودهم ، وتقوي من قدرة ثقافاتهم على البقاء.

         وقد قام اليهود والنصارى بترجمة الفلسفة اليونانية والثقافة الرومانية وعلم المنطق ، وهكذا تم استيراد العقل الفلسفي إلى دار الإسلام ، ليحدث التلوث ويمهد للانشقاق في ثقافة الأمة وعقلها ، فيما         بعد ، وبذلك انشقت الأمة في مرجعيتها وثقافتها إلى ثلاثة تيارات : تيار أهل السنة والجماعة ومرجعيته ( القرآن الكريم والسنه النبوية الشريفة) ، ثم تيار العقل الفلسفي ومرجعيته( الفلسفة اليونانية وعلم المنطق) وتيار ثالث اتخذ موقفا دفاعيا عن الإسلام ، هو تيار علم الكلام المتمثل في  الذين خلطوا بين المرجعيتين( الإسلامية والفلسفية) بهدف محاولة الاستفادة من الفلسفة والمنطق في الدفاع عن قضايا الفكر الإسلامي .

       3ـ استغل تلاميذ الفلسفة اليونانية غياب الفقه الإسلامي في قضية الأدب والنقد ، فترجموا الأفكار اليونانية عن الأدب من ( جمهورية أفلاطون ، وكتاب الشعر لأرسطو ، وكتاب الشعر لهو راس الروماني ... وغيرها  )  والذي أدى فيما بعد إلى إفساد التنظير النقدي عند العرب ، فرغم البداية الموفقة لعلوم اللغة العربية ولعلوم البلاغة  العربية ، ورغم استفادة الثقافة العربية والإسلامية من هذا التعدد الثقافي ، إلا أن تلاميذ الفلسفة اليونانية أحاطوا البلاغة العربية والنقد بجفاف المنطق الأرسطي(12) ، الذي جرها إلى الجفاف والتحنط على يد القزويني والسكاكي وغيرهم فيما بعد ، وظهرت ثمار ذلك في قتل الأدب العربي في عصور الانحطاط ، يوم أصبحت مقاييسها الصارمة الجافة تحكم التأليف ،عند الأدباء والشعراء وحتى المؤلفين في العلوم الأخرى ، من خلال سيطرة الجناس والطباق والبديع على الأساليب ، وكذلك تسربت إلى النقد روح فصل الأدب عن الدين ، وهي دعوة قديمة موجودة في النقد الإغريقي(13) .

     4ـ ومما ساعد العقل الفلسفي على فتح هذه الثغرة الكبيرة في العقل المسلم ، هو انحياز المأمون  للعقل  الفلسفي وتمسكه بمنهجه  ،و حيث كان العقل  الفلسفي هو  التيار المتبنى رسميا من الدولة العباسية ، وكان المأمون يتباهى بذلك ويحميه ويفسح له المجال ، وينفق عليه من أموال الأمة ، فقد وصل الأمر به إلى أن يقابل المخطوط المترجم من اليهود والنصارى بما يقابله من الذهب في الميزان ، ولم يكتف بذلك بل تبنى أطروحاته في مسألة خلق القرآن وأراد أن يجبر الأمة عليها ، وبدأ باضطهاد أهل السنه والجماعة الذين وقفوا في وجهه ، ورمى بهم في غياهب السجون ،وما قصة سجن الإمام أحمد بن حنبل وتلاميذه عنا    ببعيد(14) .

     5 ـ وبعد مجي الفرس إلى سدة  الحكم  على يد المأمون،توالى خلفاء بني العباس في جلب شرائح أخرى حيث ادخل المعتصم الأتراك في الجيش لحمايته ، واستمر دخول هذه الشرائح في جسم الدولة من شعوب مختلفة : كالأتراك و البويهيين والأكراد والسلاجقة والمماليك وغيرهم ، وظل الخلفاء يعتمدون على هذه الشرائح في حماية أنفسهم، وكان هؤلاء العسكر لا يعرفون العربية ولا الثقافة الإسلامية ،  وعندما ضعف الخلفاء أخذ هؤلاء العسكر يستقلون بولاياتهم عن الخلافة ، ويؤسسون دويلات لهم وعندما أداروا هذه الدويلات ، أهملوا شون العلم والعقل والثقافة واللغة العربية وتراكم ذلك من عصر إلى عصر في عصور الانحطاط حتى وصلت نسبة الأمية في اللغة العربية إلى ما يزيد عن 99% في نهاية العهد العثماني ، وولدت أجيال وأجيال من الأجداد والأبناء والأحفاد يتوارثون الأمية كما يتوارثون المتاع ، فانقطعت صلة الأمة بالقرآن الكريم ، ونشأت أمية العلم بالإسلام ، كنتيجة طبيعية لأمية الكتابة والقراءة ، وبذلك انقطع عقل المسلم عن مرجعيتة ، وتوقف عن العلم والإبداع والتميز لعدة قرون ونام في سبات عميق .

      6ـ أضف إلى ما سبق ما تخلل عهود الانحطاط من ضربات موجعة أثرت على قوة المسلمين العسكرية والعلمية والثقافية ،و أذهلت العقل المسلم عن ذاته ، كالغزو الصليبي الذي استنزف قواه من الغرب ،  ومن بعده الغزو المغولي الذي أتى على الأخضر واليابس من الشرق .    

   4ـ احتلال العقل المسلم :

           جاءت الدولة العثمانية بعد حالة الانحطاط والإنهاك العام الذي أصاب المجتمع الإسلامي، وكانت أهم فضائل الدولة العثمانية أنها جمعت الوطن العربي في كيان موحد، بعد أن مزقته دول العسكر المنشقة عن الدولة العباسية ، كما أنها حمت الوطن العربي لعدة قرون من محاولات التمدد والانفجار السكاني الاستيطاني الأوروبي ، الذي ألقى بثقله الاستيطاني إلى البلاد الجديدة المكتشفة ( أمريكا الشمالية والجنوبية  واستراليا وجنوب افر يقيا) إلا أن الطبيعة العسكرية للدولة العثمانية جعلها تهمل البناء الحضاري والعلمي والثقافي حتى وصل في أواخر أيامها إلى مرحلة التخلف والفقر والأمية التي عزلت المسلمين عن اللغة العربية، وعن مرجعيتهم الفكرية ( القرآن والسنة ) كما أنها أنهكت قوى المجتمع الإسلامي البشرية والمادية، وامتصتها لصالح الجيش العثماني وحروبه الخارجية ،والأغرب من ذلك أن هذه الدولة في قرنها الأخير ، لم تكن تشعر بأدنى مسؤولية تجاه مواطنيها ، ولذلك أهملت الأمن والعدل والعلم والثقافة والمرافق والخدمات وتركتهم تحت ظلم الولاة ونظام الاتزام ، وتعاملت مع المواطنين كالبقرة الحلوب التي تدر لها ( الجنود والمال والانتاج ) الذي يغذي جيشها . وهكذا جنت الدولة العثمانية على نفسها وعلى المجتمع الاسلامي حين شاخت ، ومرضت أمرضت معها المجتمع الاسلامي بكامله ، وجعلته لقمة سائغة أمام الاستعمار الأوروبي، الذي كان يتربص بها الدوائر وينتظر لحظات انهيارها   .

       وهكذا أفاق العقل المسلم بعد الاحتلال المغولي والصليبي على احتلال جديد من خلال طلائعه الثقافية التي تسبق جيوشه لتمهد إلى احتلال الأوطان والأدمغة معا .

     ( فمنذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي والعالم الاسلامي كله مقتلع النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربي والنهج الغربي والثقافة الغربية ، والعلم الغربي والحضارة الغربية والفنون والآداب والتقاليد الغربية بدرجات متفاوتة، فمنذ أن بدا الغربيون ينشئون كنائسهم التنصيرية وبجوارها أو بداخلها مدارسهم التعليمية في بيروت والقاهرة وبغداد والموصل والإسكندرية واسطنبول وغيرها من حواضر                المسلمين ،والحصون الفكرية و الثقافية الإسلامية التي كانت متبقية لدى هذه الأمة, كانت تتهاوى واحدا بعد الآخر ، والأجيال المسلمة تتعرض لعملية استلاب فكري وثقافي هائل ، انتهت بان أصبحت جميع معارفنا النظرية غربية مائة بالمائة في قالب وإطار غربيين ، شمل ذلك الفكر والمنهج والمصدر والفلسفة المعرفية وموضوعاتها وأهدافها وغاياتها ...)(16) وأصبحت الشخصية الإسلامية مائعة الملامح لأن رؤيتنا للحياة أصبحت تتشكل من خلال نظريات : علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية والنظريات السياسية والتشريعات والنظريات النقدية كما صنعها العقل الغربي في بيئاته وخصوصياته وأمراضه .

      فأصبحنا نعيش حاله من الانفصام النكد ، نفكر ونحلل بطريقة غربية ونعبد الله على الطريقة الإسلامية ، أصابنا الذهول والانبهار ومارسنا الانفتاح حتى الانبطاح ، ولم نعد نميز حكمتنا من فلسفة غيرنا ، رمينا بمرجعية الحكمة، وأخذنا بمرجعية الفلسفة ،فأخذت تشكل لنا عقولنا وأذواقنا وشرائعنا وأصبحت عقولنا مناطق نفوذ للثقافة الغربية ، كما هو حال أوطاننا ، لقد وصف شاعر كبير حال الأمة بقوله :

 1ـ  لقد اصبحوا حانة الأجنبي يضاجعهم

  في خلايا الدماغ (17)

    2ـ    أمامك روم وخلفك روم

 وفي الجنب روم

وفي كتب الجامعات

وفي أسرة زوجاتنا والبنات (18)

           لقدس حقق الغرب هذا كله في مرحلة الاستعمار والتبعية، أما الآن وفي عهد الاستعمار الجميل        ( العولمة ) فهو لا يرضى منا بالانفتاح الذي حقق له احتلال الأوطان والأدمغة بل يريد استكمال المعركة مع آخر حصون العقل المسلم وهي القلوب ،ليفرغها من المشاعر المضادة والمعادية له، وليملأها بقبول الكفر و الإثم عن رضا وتسليم، لأنه لا يأمن وجوده في الأوطان والأدمغة وقلوبنا تلعنه في الصباح والمساء .

      هو يريد منا تفريغ هذه المشاعر من قلوبنا واستبدالها( بمتعة التلذذ بالتبعية)(19)الكاملة والذوبان الكامل في حضارته ، حتى يمضغنا ويتمثلنا كغذاء جديد لذلك العقل الفلسفي الكافر ، كما هضم المسيحيه من قبل  وتمثلها وجردها من حقاق التوحيد التي لا تناسبه ،قال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم...)(20) لقد زين مصطلح الانفتاح في مرحلة الاستعمار والتبعية من قبل دعاته المبهورين، فربطوه بالمرونة والوعي والعلم والتبادل الحضاري ،مع أنه لم يحقق للأمة سوى التضليل الذي جعلها تقبل بالاستلاب ، لأنه في الأصل انفتاح قسري إجباري .

         واتضح لنا أن  الانفتاح كان مصطلحاً عائماً ومضللاً لم يخدم الأمة، ولم يبصرها بعواقب القبول بثقافة عدوها، لأنه فرض على الأمة قسراً، ورغم كل الشروط التي حاولت أن تقنن له أو تضبطه إلا انه لم يستثمر إلا استثمارا سلبيا في تغريب الأمة ومحاولة اقتلاعها من جذورها .

          وتبين انه لم يعد مصطلحا سليما ، ولا دقيقا في وصف علاقتنا مع الآخرين، ولذلك نحن بحاجة إلى  إهماله وتجاوزه واستبداله بمصطلح جديد ،يكون أكثر دقة في تبصير الأمة وهدايتها في التعامل مع الآخرين .

        ونرى أن مصطلح الامتصاص أو ( امتصاص الخبرة ) اكثر دقة منه في تبصير الأمة وحمايتها من حالة الاستغفال  التي وضع لها مصطلح الانفتاح .

       ولا تزال ألسنة منا تلوك مصطلح الانفتاح بعلم أو بجهل وتسوقه ، وتحاول أن تستر عورته بآية أو حديث وكم ظلم الحديث الشريف ( الحكمة ضالة المؤمن)(21) وهو يكرر من تلك الألسنة ، ليدفع بالأمة  إلى قبول ثقافة الاستعمار والتبعية ، ومع انه كلمة حق ، إلا أنه أريد به خدمة الباطل و أهله.

   5 ـ تحت الركام :

      وهكذا شكلت الهجمات الثقافية التي وقعت في العصر العباسي،والهجمات العسكرية ( الحروب الصليبية وهجوم التتار ) وعصور الانحطاط وما تبعها من هجمات ثقافية وعسكرية للاستعمار الأوروبي والصهيوني في العصر الحديث ، مجموعة من الانهيارات والأثقال والعقبات والمثبطات والأشواك التي ينوء تحتها العقل المسلم بل أن هذا العقل يعيش تحت ركام كثيف من هذه المرجعيان المخالفة ومن أمشاج الثقافات المعادية التي ألغت تميزه ، وحجبت عنه نور الحياة الإسلامية الصحيحة .

     أما في الجانب الثقافي و النقدي ـ وهو موضوع اهتمامنا ـ فقد نشأ النقد العربي في العصر العباسي تحت مرجعية واحدة تحكمت في خطوطه العريضة وتأسيس مقولاته ، وهي عائدة للعقل الفلسفي ، عندما اخترق العقل المسلم مرتين ، مرة في العصر العباسي والمرة الثانية في عصر الاستعمار والتبعية والانفتاح ، ومعنى ذلك أنه في المرتين خضوع لمؤثرات الثقافة الأوروبية ( الثقافة اليونارومانية ، والثقافة الأوروبية الحديثة ).

      هل معنى هذا أن نغلق أبواب عقولنا ونندب حظنا ؟ لا ليس هذا ما نقصده، ولكن السؤال الجاد الذي يجب أن نشغل أنفسنا في البحث عن إجابته ، هو كيف ننتشل هذا العقل من وسط الركام الذي يكاد يغرقه ويفسده ؟ حتى ينفض عن نفسه هذا الركام ويعود إلى مرجعيته وتميزه من جديد .

   6ـ تفكيك الركام :

       أ ـ في البداية دعونا نفكر في طبيعة هذا الركام الذي يغمر عقولنا وذواتنا ، لنتعرف على تجربة عدونا، من خلال مناهج عقله، فنعرف كيف يفكر هذا العدو؟ حتى نستطيع أن نفكك هذا الركام عن وعينا .

       وأظن أن النجاح في هذه المهمة سيتم بإذن الله إذا حققنا بعض الشروط الموضوعية ، منها أن لا يدفعنا الاستعجال إلى النهضة إلى التمسك بالنهضة الموهومة التي تصنعها ثقافة الاستلاب والتبعية ، وان لا يقع في روعنا خوف من حصول فراغ علمي إن نحن أوقفنا التعامل مع تلك الثقافة ، وأن نتأكد من رغبتنا في العودة إلى مرجعيتنا والإيمان بها والانتماء الحقيقي لها ،وان نتخلص من عقدة الانبهار بالغالب لأن المبهور محب أعمى لا يملك التميز بين حكمته وفلسفة غيره ،قال: ) r حبك الشيء يعمي ويصم )(22) .

          وبعد هذا  يمكننا أن نوجز الخطوط العريضة لثقافة عدونا ،من خلال التعرف على فكره    ومرجعيته ، التي تتحكم في تكوين عقله الفلسفي الحر، والتي يمكن أن نلخصها من خلال المسار التالي :

        1ـ  العقل الفلسفي : هو عقل الإنسان الكافر ، الذي يتكل على نفسه وقدراته الإنسانية ، ويرفض أن يأخذ بمرجعية الوحي ويعتبر عقله المرجعية الأولى و الأخيرة في تفسير الحياة .

       فهو عقل علماني (دنيوي) تكون من الخبرات التراكمية للثقافة الأوروبية : (الفلسفة اليونانية، والثقافة الرومانية ، والمسيحية التي هضمها الفكر الروماني و أعاد تمثلها بما يتناسب مع وثنيته،بعد أن أفرغها من عقائد التوحيد، والفلسفات الأوروبية الحديثة التي عاصرت الثورة الصناعية أو ظهرت بعدها إلى عصرنا ) والتي يمكن اختزالها في الثالوث المعاصر  العلمانية ، الديمقراطية ، العولمة ) وما يتبعها من أنظمة اقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية .

       2ـ ينظر العقل الفلسفي إلى الألوهية نظرة المنكر أو المهمل لها ويعتبرها من صناعة عقل الإنسان  ووهمه ، ويفسر ذلك من خلال نظرية( الطوطم وتطور الأديان) وهو في أحسن الأحوال يعتبرها قضية فردية غير ملزمة للمجتمع ، وعندهم من يقول أن الله خلق الكون ولم يعد يكترث له .

       3ـ هو عقل يعتمد على الفرضيات واختبارها ،ولا يؤمن إلا بالمحسوس ، فإذا عجز عن التفسير لجأ إلى أسلوب الإهمال أو الإنكار، وهكذا أنكرت الفلسفات المادية عالم الغيب ، لأنها عجزت عن تفسيره ويأتي تعريف اليونسكو للمعرفة ليؤكد ذلك بقوله  المعرفة كل علم معلوم خضع للحس  والتجربة )(23) وغيره يعتبر من عالم الخرافات .

       4ـ عقيدة العقل الفلسفي الكافر : هي عقيدة الحرية المطلقة للإنسان ، ولذلك هو عقل متقلب ملول ، لا يقر له قرار، ولا يؤمن بالثوابت ويجمع بين (العلمي والرمزي والخرافي )ويؤمن بالإشباع الحر لحاجات الإنسان، دون شروط إلا ما اختاره الإنسان لنفسه، ويؤمن بالغلبة و القوة والصراع من أجل تحقيق هذا الإشباع ليس له كابح سوى إشباع رغائبه وهوى نفسه .

 ب ـ الآداب الأوروبية ونظريات النقد :

      ومن هنا نشأت الآداب الأوروبية متأثرة بالعقل الفلسفي الذي أبدعها وأفرزها ، فهي تحمل نكهة البيئة التي خرجت منها، ولذلك فهي تمثل خصوصية البيئة والثقافة واللغة والعقل الذي أنتجها ضمن بيئات أوروبا المختلفة ، التي يجمعها التراث المشترك للعقل الفلسفي، بالإضافة إلى النكهات المحلية لتلك البيئات .

        وحركة التطور والتجديد فيها لا تستقر على حال، لأن التطور المستمر الذي تقلبه الأهواء والمصالح والأحوال، هو ديدن العقل الفلسفي الملول المتقلب ، الذي تحركه عقيدة الحرية المطلقة، فما أن تظهر حركة فنية أو فلسفة أو مذهب أدبي على يد فرد أو مجموعة من المبدعين ، وقبل أن تستقر أحوالها ، حتى تكون مجموعة أخرى قد استعدت لها بالمرصاد ، لتكشف لها نواقصها وعوراتها ، إنها  فلسفات ومذاهب تطارد بعضها كالرمال المتحركة .

        أما الحركة النقدية فلم تكن بعيدة ولا منفصلة عن مرجعيتها الثقافية السابقة ،بل شكلت هذه المرجعيات الرؤية الفكرية للمذاهب الفنية والأدبية والنقدية ، ويمكن إعادة التنظير النقدي في أصوله  الفلسفية والفنية إلى مصدرين رئيسيين هما:

       1ـ مصدر فكري : يعود إلى مجموع فلسفات العقل الأوروبي ، التي شكلت مرجعية تراكمية من هذه الفلسفات ، اجتمعت خلاصتها في العلمانية الحديثة التي تدور حول ( نفي الثوابت والحرية المطلقة للإنسان في النواحي الفردية والإبداعية جماليا وفنيا . والتقلب المستمر الذي لا يستقر على حال ) .

     2ـ مصدر أدبي : وهي النصوص الأدبية أل الإبداعية من شعر ومسرح ورواية وغيره ، حيث يتم استخراج المذاهب الأدبية والنقدية من متابعة النص في تكوينه وتطوره ومن الموحيات السابقة لفكر العقل الفلسفي .

      جـ ـ هل النقد الأوروبي عالمي وملزم للأمم ؟

      مما سبق تبين لنا أن النقد الأوروبي، نشا في بيئة ثقافية لها مرجعيتها ( الفكرية والأدبية ) ونظرياته تحمل رؤية النقاد الأوروبيين المستخلصة من ( الفلسفة والنص الأدبي ) وهي تحمل تجارب الأوروبي في واقعة اليومي والجغرافي واللغوي والفكري والفني ، ولذلك فهو نقد محلي يحمل نكهة البيئة التي ولد فيها ، وهو نقد له خصوصية وتاريخ وظروف وتجارب ،  تجمعه ثقافة لها همومها وفروقها و قواسمها المشتركة المخالفة للبيئات العالمية .

       وهذا معناه انه ليس نقدا عالميا، ولا ملزما للأمم الأخرى ، لان الأمم تتباين في مرجعيتها الفكرية وفي نصوصها الإبداعية وأذواقها الفنية وتجاربها الحضارية .

      د ـ إذن ما هو سبب هذا الوهم الذي أوجد في عقولنا أن التجربة الأوروبية في الآداب هي حالة دائمة وعالمية ، ولا مناص من قبولها وغير ذلك من الذيول ؟!

        مع أن هناك تجارب أدبية ونقدية أخرى ، لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، لم ينظر لها بهذا المنظار ، لماذا صوروا لنا النقد الأوروبي كأنه قدر محتوم لا بد من قبوله ؟ و أوقعونا في فخ الانبهار به والخضوع له ووصفوا نظرياته بأنها عالمية ، وقابلها على الجانب الآخر هجوم رميت فيه ثقافتنا بالضحالة والضعف والانتحال أو أثير في وجهها عاصفة من الأسئلة الماكرة ، أو طمس للحقائق أو الترويج لأفكار معينه، أو تضخيم لأفكار أخرى أو إنكار أو سخرية أو غيرها .

      ولقد زال العجب عندما عرفنا أن جيشا من المستشرقين ، وجيشا من تلاميذهم من المغربين ،كانوا يمهدون الطريق لثقافة المستعمر ، جنبا إلى جنب مع جيوشه العسكرية، نعم كان سبب ذلك أن الثقافة الأوروبية ومنها الثقافة النقدية دخلت إلينا  تحت حراب الاستعار وحمايته .

      وإذا عرفنا أن العقل الفلسفي الأوروبي لا يؤمن بنظرية ( التعارف البشري ) الإسلامية ومعارضها  التي ذكرنا ، ولكنه يؤمن بتذويب الآخرين ويستعمل ( القوة والقسر والتخطيط والخديعة ) في إذابة خصائص الأمم الأخرى وإخضاعها ، أنها ليست تبادلا حضاريا ،ولكنها عملية  أشبه بعملية التذويب الكيميائي .

      وهكذا وصل إلينا النقد الأوروبي عن طريق الترويض الثقافي ، لأنه ثقافة إجبارية أدخلت إلينا حين مارسنا الانفتاح مرغمين ومجبرين  ، استقبلناها بعمى المبهور ونفسية المغلوب على أمره .

هـ ـ هذا من جانب ( ومن جاب آخر لا ننسى أن العلوم التجريبية ، لا يوجد فيها علم كيمياء أمريكي ، و آخر ياباني ، و آخر عربي ، وكذلك الأمر في علم الفيزياء لا يوجد علم فيزياء إسلامي و آخر مسيحي و آخر يهودي ، لان حقائق المادة تلوي عنق المؤمن والكافر للإيمان بها ، فحالات المادة : الصلابة والسيولة والغازية لا تجامل أحدا، ولذلك نخضع لحقائقها حتى نتعلم ونستفيد منها )(25) فهي علوم عالمية تصدر وتستورد وهي ميراث عالمي لجميع الأمم ، رغم أنها لا تخلو خلال صياغتها من التأثير الفكري لمن صاغها.

       أما في علوم (الظاهرة الإنسانية) المعقدة فالأمر مختلف تماما، فهي علوم محلية ذات خصوصية وتميز بين الأمم ، والخلاف والتمايز فيها هو الأصل ، ومع وجود نسب من التماثل والاتفاق بحكم النواحي الإنسانية المشتركة بين أبناء الجنس البشري ، لكن الاختلاف والتباين أوسع واعمق بحكم اختلاف العقائد والأفكار والثقافات واللغات والبيئات وغيرها ، هذه العلوم :كعلوم التاريخ و السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية والفنون والآداب ومنها النظريات النقدية ، فكلها علوم محلية بيئية ،تعبر عن خصائص الأمم وأفكارها وشخصيتها وتميزها  ، لأنها علوم أو فنون تعالج الظاهرة الإنسانية في مجتمع معين ومحدد ، والإنسانية ليست واحدة في عقائدها ولا في  أفكارها ولا في أذواقها ولا حتى في عقدها وأمراضها ، لأنها ليست موحدة كالظاهرة المادية وسنن الكون .

 7ـ  تنظيف الركام :

        ومن القضايا المهمة في تنظيف الركام عن هذا العقل المسلم أن نشير إلى الدور التخريبي الذي مارسه الاستعمار على هذا العقل ، حيث وضع الاستعمار خططه المبكرة ، للسيطرة على الوطن العربي منذ أواسط القرن الثامن عشر ، وكان الاستعمار الثقافي يسبق الاستعمار العسكري ويمهد له ، ضمن مراحل كل مرحلة تفضي إلى الأخرى وضمن المسار التالي :

      01 المرحلة الأولى : اختراق الدولة العثمانية وإنشاء المدارس التنصيرية والمدارس والمعاهد والجامعات التابعة لها ، بهدف نشر التعليم باللغة العربية وإحياء الثقافة العربية ، ليس حبا في العرب ولغتهم ، وإنما بهدف مساعدة العرب حتى تنمو لغتهم التي أماتها العثمانيون ، حتى يصلوا إلى مرحلة نمو اللغة ونمو الشخصية القومية والشعور القومي ، لإقناعهم بالانفصال عن الدولة العثمانية ، فعلى سبيل المثال كانت الجامعة الأمريكية تدرس العلوم والآداب جميعها باللغة العربية منذ تأسيسها ، حتى إذا تم لهم انفصال الوطن العربي عن العثمانيين ، عادت الجامعة الأمريكية إلى تدريس المواد جميعها باللغة الإنجليزية ثم عاد المستعمرون إلى محاربة اللغة العربية و فرض لغاتهم علينا .

        2ـ  المرحلة الثانية : قام جيش الاستشراق وتلاميذه من أبناء جلدتنا بتوجيه عملية الإحياء اللغوي والثقافي للثقافة العربية، لإيجاد ثقافة عربية هشة ضعيفة ، تقوم على إحياء ثقافة التلوث والضعف خدمة لسياسات دولهم وحتى يضمنوا لدولهم عدم ميلاد ثقافة عربية إسلامية جادة تقف في وجه ثقافتهم ، عمدوا إلى تضخيم بعض قضايا الثقافة العربية ، بهدف التشكيك في مصادر هذه الثقافة مثل قضايا الانتحال ، والتحكم في الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب ، والتركيز على إحياء ثقافة العصر العباسي ، المتأثر بالثقافة اليونانية وضخموا ثقافة ذلك العصر ووصفوه بأنه العصر الذهبي للثقافة العربية الإسلامية لأهداف خبيثة ، حيث قاموا بإحياء ثقافة الفرق الباطنية والصوفية و إحياء كتب الفلسفة الإسلامية اليونانية، وعلم الكلام ثم التركيز على أحياء أدب اللهو المجون والخمر والغناء ، وتسليط الضوء على فتن العصر العباسي ومثالبه ، لزرع اليأس في قلوب أبناء الأمة ، ولإيجاد مرجعية أصالة مزيفة يحتج بها في خداع العقل المسلم عن ذاته ، عند التكلم عن الأصالة والمعاصرة، ثم تحقيق عدد من الأهداف البعيدة منها إبقاء المسلم المعاصر مشغولا ومشدودا خارج مرجعيته الحقيقية مرجعية الوحي ( القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة ) ثم الاكتفاء بثقافة التلوث والتمزق في العصر العباسي، لان هذا العصر بما فيه من ثقافة فلسفية تعود جذورها إلى العقل الفلسفي اليوناني، تساعد في تهيئة نفسية هذا المسلم للقبول بالثقافة الأوروبية الحديثة لما بينهما من أواصر القربى في المرجعية .

           3 ـ المرحلة الثالثة : حيث تجمع أبناء الطوائف القديمة التي صنعت ثقافة التلوث والانشقاق الثقافي في العصر العباسي ( الفرق الباطنية ، و النصارى ، واليهود ) وقد سنحت لهم الفرصة من جديد للقيام بنفس الدور السابق الذي قام به أجدادهم المؤسسون ،لتشكيل وجه الثقافة العربية بتلوث جديد يضاف إلى ما صنعته فرقهم في ذلك العصر ، وبعد أن ضعف دور الاستشراق حيث جاء دورهم في تغريب الأمة ضمن الأدوار التالية :

     1 ـ الدعوة إلى الانسلاخ عن تراث الأمة ، والالتحام بالتراث الثقافي الأوروبي وتيارات الحداثة فيه ، و إحياء ثقافة الحركات الصوفية والباطنية في العصر العباسي ، واختراع نظريات الفكر الإقليمي بإحياء الوثنيات القديمة ( الآشورية ، والبابلية ، والفينيقية) لمحاربة الدعوة للوحدة العربية وكان لهذا الفكر دعاته من أبناء جميع الطوائف في بلاد الشام والعراق .

     2ـ الدعوة إلى فكر القومية العربية المنسلخة عن الإسلام وتعبئة الفراغ الفكري الناجم عن هذا الانسلاخ باستيراد الفكر الرأسمالي والحداثة والعلمانية والاشتراكية وقد غلب على هذا التيار أبناء الطوائف النصرانية في بلاد الشام والعراق .

      3 ـ  استيراد الفكر الاشتراكي وتأسيس الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة اليهودية

     4 ـ  الدعوة إلى الانسلاخ عن العروبة والإسلام والالتحاق بالحضارة الغربية وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة النصرانية في مصر .

      ورغم انضمام إعداد كثيرة من أبناء المسلمين إلى هذه التيارات ، إلا انهم في أكثرهم كانوا تلاميذ وتوابع لأبناء تلك الطوائف ، وقد لاحظ الناقد الكبير إحسان عباس الذي يمتاز بالعلمية الجادة ان دوافع طائفية وراء الدعوة الى الانقطاع عن تراث الأمة و أشار إلى ذلك في كتابه (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) حيث يعزو سبب عزوف بعض الشعراء المعاصرين عن التراث إلى : ( أن هناك من الشعراء أقليات عرقية ودينية ومذهبية في العالم العربي ، وهذه الأقليات تتميز عادة بالقلق والدينامية ، ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة ( أيدلوجية ) جديدة ، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئا والتخلص منه ضروريا ، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية ، لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ ، بإبراز دور تاريخي مناهض ) (26).

           وتمكنت هذه الفئات من تضليل شرائح كبيرة من النخب الثقافية من أبناء المجتمع الإسلامي في طول الوطن العربي وعرضه ، وبذلك دخلت إلينا ( العلمانية الأوروبية ) التي  تفصل الدين عن الحياة ، وترضى بسيطرة العقل الفلسفي عليها ، ثم تم تفصيل هذه العلمانية ليشمل الحياة بكاملها ، فصل الدين عن الدولة ، فصل الدين عن الأخلاق ، فصل الدين عن الاقتصاد ، فصل الدين عن العلم ، تحت مبرر أننا لن نتقدم إلا إذا طرحنا الدين من حياتنا كما فعل الأوربيون .وقد نسي هؤلاء أن مرض العداء للدين هي قضية محلية، تخص المجتمع الأوروبي وعلاقته مع الكنيسة ، لأنهم لا يعرفون خصائص العقل الفلسفي الذي يتعامل مع ( المسيحية ) من منطق الفلسفة البرغماتية ، فهو ينفصل عنها عندما تقف في وجه تطوره، ولكنه يعود فيستعملها لخدمة مصالحه عندما يحتاج إليها  في تنصير الشعوب لأجل استعمارها .

          ثم جاء دور (العلمانية الأدبية) التي تفصل الدين عن الآداب لان الدين كما يزعمون يتدخل في حرية الأديب ويقيدها مع انهم يرضون بسيطرة العقل الفلسفي على الأدب ولا يرون ذلك عيبا .

        ولئن سألتهم ، لماذا هذا المكيال الجائر ؟ أليس الأدب :رؤيةً ، وموقفاً ، وبناءً فنياً ؟ فلماذا تسمحون للعقل الفلسفي الضال أن يتحكم به ؟! ولماذا ترفضون أن يتدخل الإسلام في الأدب ؟ مع أن الإسلام يشكل الرؤية والموقف للأديب ثم تأتي قضية البناء الفني كقدرة وموهبة وخبرة للتعبير عن هذه    التجربة ، يتهربون ويلوون رؤوسهم لان المضبوع لا يدري شيئا سوى عناده .

    8 ـ خطوات خارج الركام :

       أظن انه قد آن لنا وبعد أن قمنا بتفكيك هذا الركام ، الذي صنعته عوامل وظروف كثيرة بعضها من داخل الأمة وبعضها من خارج الأمة ، يحق لنا الآن بعد هذا العناء أن نخطو خطوات خارج الركام ، نطل بها على ذاتنا ، ونستجمع قوانا الفكرية لنخطط من خلالها لمشروعنا النقدي ، الذي نطمح إليه في استعاده تفكيرنا النقدي ، الذي يعبر عن ذاتنا ويخرج من منهجنا و  مرجعيتنا .

ونرى أن هذه المحاولات تجرنا إلى فرضيات ثلاث هي :

     1ـ فرضية نقل التجربة الأوروبية في النقد برمتها وهي فرضية ذقنا طعم مرارتها من خلال عهد الانفتاح الإجباري في عهد الاستعمار والتبعية ، حيث فقدنا فيها التفكير من خلال العقل المسلم ومناهجه وخضعنا ولا نزال للعقل الأوروبي ، وهذا هو طريق المسخ والذوبان وخاصة في عصر العولمة التي تهددنا بالابتلاع الكامل ، وهي لذلك فرضية مرفوضة جملة وتفصيلا، لأنها تعني إلغاء وجودنا الحضاري وخصوصيته .

        2ـ فرضية إغلاق العقل المسلم في وجه التجارب الحضارية والانكفاء على ذواتنا ،وهذا يعني أن نمارس عملية خطيرة هي عملية الانتحار الحضاري ، وهو اختيار لا يحدث إلا في الحضارات الخائفة الطرية العود ، لأنها لا تملك مقومات البقاء ، وهي أيضا فرضية نرفضها بالجملة والتفصيل.

       3ـ فرضية الانطلاق بمشروعنا النقدي الإسلامي من ذواتنا ، ومن مرجعية الوحي بالتحديد و إحياء العقل المسلم بهذه المرجعية ، ليعود إلى حضوره وإبداعه وتميزه كما كان من قبل ، وهو طريق التميز الخصوصية ، بعد أن يتخلص من الإرث الثقيل الذي كبله في عهود التلوث و الانحطاط والاستعمار والتبعية ليطل على الحياة وهو واثق من منهجه ونفسه ، وعندها يتعلم  من الحياة ويتعامل مع الأمم من خلال منظاره الحضاري ( التعارف والتالف وامتصاص التجارب ) وهذه الفرضية هي الفرضية الوحيدة التي يقبلها العقل المسلم الواثق من دينه وربه والواضح في أهدافه وغاياته ....

  9 ـ خطوات إلى الأمام :

        توصلنا ـ فيما سبق ـ إلى ضرورة رفض الانفتاح الحضاري القسري ، ورفض الانتحار الحضاري ، وكان اختيارنا أن نعود إلى مرحلة الإحياء والتجديد الحضاري لدور العقل المسلم ، لأننا نرفض الاندثار .

وخير ما نراه لإعادة البناء والنهوض ، هو قناعتنا أن تجديد العقل المسلم ، لا يتم إلا من خلال تعرفه على مرجعيته أولا ، ثم الاستفادة من تجارب الأمم عن طريق أسلوب الامتصاص الحضاري لخبرات الآخرين فيما يخص مشروعنا النقدي . ويمكن أن يتم ذلك من خلال البحث عن ضالتنا في وسط فضائل العقل الفلسفي ، من خلال شروط تضمن لنا هذا التعامل منها :

      1ـ أن نتخلص من مرحلة الانبهار وعقد المغلوب ، لأنه أعمى واصم وغير أمين على تعريف  الأمة بفضائل عدوها .

      2ـ أن نرفض نقل تجارب الآخرين وفضائلهم المخلوطة بكفرهم كما حدث في مرحلة الانفتاح الإجباري .

      3ـ أن نعرف كيف نستفيد من تجارب الأمم الأخرى وندرس تجاربها في الأخذ عن الآخر .

      فمن تجارب الأوروبيين في الأخذ عن الآخر ، ما نفذوه في مرحلة نقل حضارتنا الإسلامية ليستفيدوا من ذلك في بناء حضارة أوروبا .

      فقد مارس الأوروبي أسلوبا محددا في نقل حضارة الإسلام وعلومها وآدابها وفنونها و ثقافتها ، وهو ما يسمى ( بنظرية امتصاص الخبرة ) والتي كانت تقوم على الخطوات التالية :

      أ ـ استيعاب المنتج الحضاري ( الإسلامي ) .

      ب ـ تفكيك هذا المنتج وتحليله للتعرف على فكره وأهدافه وخبراته .

      جـ ـ طرح أو رمي الفكر والأهداف والخصوصيات، خوفا من انتقال تأثيرها إلى العقل الأوروبي .

       د ـ امتصاص الخبرات والأساليب من هذا المنتج الحضاري مجردة عن فكرها .

       هـ ـ صبغ هذه الخبرات والأساليب بمنهجيات التفكير الأوروبي وأهدافه وغاياته ، ومن الأمثلة التطبيقية التي سارت على هذا النهج ، ما فعله العقل الأوروبي في الجانب الأدبي عندما حول حي بن يقظان إلى نموذج روبنسون كروزو أو رسالة الغفران إلى نموذج الكوميديا الإلهية ، أو قصص ابن الجيلي إلى نموذج في دونكيشوت(27)  .

      وعلينا أن نتذكر أن الأوروبي مارس هذا الدور كعلاقة اختيارية مع الثقافة الإسلامية دون قسر أو إكراه ، وليس كما مورس علينا  قسرا وقهرا وغلبة ، في عهد الانفتاح الإجباري الذي أرغمنا عليه الاستعمار الأوروبي .

وبذلك ضمن هذا الأوروبي ، نقل خبرات العقل المسلم ، ليستفيد منها ، ولكنه حمى أوروبا من أن تقع تحت تأثير الإسلام(28) .

        ولو أن الأوروبي نفذ أسلوب الانفتاح الحضاري الذي أجبرنا عليه وهو نقل الثقافة الإسلامية برمتها ، كما فعلنا في انفتاحنا ، لتحول العقل الأوروبي إلى إنسان يفكر بعقلية إسلامية ، ولكنه لم يفتح أبوابه ونوافذه مشرعة للثقافة الإسلامية ، لشدة حرصه على ثقافته ، ولشدة كرهه لنا ، و لأنهم قوم يبحثون عن البقاء ولا يبحثون عن الحق .

       ومن خلال تفكيكنا للمنتج الحضاري الأوروبي في قضية النقد المعاصر ، وفي ضوء نظرية الامتصاص ، نستطيع أن نستخلص الخبرة والأساليب التالية التي يمكن أن تفيدنا في تجديد فقهنا النقدي الإسلامي :

    1ـ أن النقد الأوروبي تم استخلاصه من خلال مصدرين هما :

      أ ـ المرجعية الفكرية : وهي مجموع الفلسفات التي أنتجها العقل الفلسفي عبر عصوره وحتى العصر الحديث ، وقد شكل هذا المصدر الرؤية الفلسفية للنقد الأوروبي .

     ب ـ المرجعية الأدبية التي شكلت الرؤية الجمالية والفنية وكلها استخلصت من النصوص الأدبية أل أوروبية من عهد النصوص اليونانية كالأوذيسة ، والإلياذة وحتى نصل إلى  النصوص الأوروبية المعاصرة ، وهي نظريات خاصة بالبيئة الفكرية والثقافية التي أبدعتها . وكل ما قام به منظرو النقد أمثال  رينيه ويليك وغيره ، هو قراءة النصوص والمذاهب الأدبية ومراقبة الإضافات الإبداعية للمذاهب والعصور والمناطق في ضوء المرجعيات الفكرية التي أثرت على تطور العقل الأوروبي وذوقه ، للتعرف على الخاص والمشترك والإضافي في هذه الجهود الإبداعية .

        وهذا ما يمكن أن نمتصه من خبرة النقد الأوروبي لصالح النقد الإسلامي والتأسيس له ، وهي أن نستخرج نظرياتنا النقدية أيضا من مصدرين هما :

        1 ـ المرجعية الفكرية : التي تشكل الرؤية الفكرية للنقد الإسلامي وهي القران الكريم والسنه الشريفة وعلوم الأمة ) ومن تراكم خبرات العقل المسلم عبر تجاربه ، في قضايا الفكر و الأدب و النقد، وهي مرجعية علم الوحي التي تخضع المتغير للثابت ، وعلى إثرها يخضع لتعميق العلاقة مع الحق ، و أما في المنظور الجمالي والفني من الجانب النظري ، فيخضع فيه الجمال لخدمة الحقيقة وتجلياتها في   الإبداع ، وبذلك تجمع هذه المرجعية ( مرجعية الوحي ) بين مرجعية الثوابت ومرجعية الإحالة إلى الوجود داخل نصوصها .

         2ـ  المرجعية الأدبية : والتي يمكن أن تشكل الرؤية الجمالية والأدبية للتفاعل مع الحياة من خلال الرؤية الفكرية للعقل المسلم ، ومن خلال ما حققه من النصوص الإبداعية عبر تاريخه العريق الممتد من العصر الجاهلي إلى عصرنا الحديث ، وما يمكن أن يستخرج من قوانين الإبداع ومقاييسه من خلال هذه النصوص وتطورها الفني والجمالي ، وما يتكرر من قوانين هذا الإبداع ، لنتعرف على الخاص والمشترك والإضافي في هذه النصوص ،التي هي المادة الأولى لاستخراج نظريات النقد الإسلامي ، من خلال إنجازات النص الأدبي الخاضع للرؤية الفكرية التي تمثل خصوصيات العقل المسلم ومعايرة في النقد .

     هذه منهجية التميز ، التي توضح مساره ، إنها طريق شاقة ومتعبة ، ولكنها صحيحة وسليمة بإذن الله ، كما يقول شاعرنا الإسلامي :

هذا السبيل وان بدا من صاحب النظر الكليـل

دربا طويلا شائكا أو شبه درب مستحيـــل

لا درب يوصل غيره مع انه درب طويـل(29)


الهوامش:

1-   المعجم الوسيط  ، ومعجم الصحاح

2-    مبشر الفزاري : شاعر جاهلي / المرزباني

3-    انظر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم

الذي رواه الحافظ ابو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر ، حيث غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما رأى عمر رضي الله عنه يقرا احد صحف الوراة ، فقال : ( انه والله لو كان موسى حيا بين اظهركم ما حل له الا ان يتبعني )

4-       محمد اقبال نقلا عن كتاب مباحث في منهجية التفكير الإسلامي  / عبد المجيد النجار / ص 185 دار الغرب الإسلامي 1992  

5-       البقرة ( 164 )

6-       انظر كتاب الفكر الصوفي في ضوء القران والسنه / عبد الرحمن عبد الخالق / دار الحرمين/ القاهرة / 1993

7-       البقرة ( 151)

8-       آل عمران ( 110 )

9-       البقرة ( 256)

10-   الحجرات ( 13)

11-   انظر كتاب الأزمة الفكرية المعاصرة / د . طه جابر العلواني / المعهد العالمي للفكر الإسلامي / ص60 / 1981

12-   انظر كتاب اثر الفكر اليوناني على الجاحظ وقدامة / محمد عبد الغني المصري 1984، ودرس في التشبيه / محمد علي جرادات / رسالة المعلم / عمان العدد الاول  1998

13-   انظر كتاب اثر الفكر اليوناني / مرجع سابق ص 12 بين الفنية و الاخلاق

14-   انظر الإسلام بين العلماء والحكام / عبد العزيز البدري / المكتبة العلمية / المدينه المنورة

15-   انظر كناب تاريخ الإسلام السياسي والاجتماعي /

 د. حسن عباس حسن/ القاهرة .

16-   الازمة الفكرية المعاصرة / مرجع سابق / ص 13

17- 18 -    الاعمال الشعرية عز الدين المناصر ة / قصيدة القبائل / قصيدة حصار قرطاج .

19- المثاقفة والنقد المقارن/ عز الدين المناصرة المؤسسة العربية ص31

20 – البقرة ( 120)

21- رواه الترمذي والقضاعي ، وقال عنه العجلوني / حسن لغيره/22-    اخرجه احمد 6/ 450 / وابو داوود في الأدب/ والبخاري في التاريخ 23-    نقلا عن كتاب الازمة الفكرية المعاصرة /مرجع سابق / ص 31 .

24-   انظر نظرية الأدب /رينيه ويلك/ ترجمة محي الدين صبحي و الشعريات عز الدين المناصرة / مكتبة برهومه .

25-  المنهج العلمي منهج قرآني / عباس المناصرة / مخطوط 26-    نقلا عن كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي الواقع والطموح/ جامعة الزرقاء الاهلية / من مقالة     د. يحى الجبوري / ص 257 / 1999

27 – حي بن يقظان لابن طفيل ، رسالة الغفران لابي العلاء المعري ، ابن الجيلي كاتب اندلسي اخذ عنه سيرفانتس قصته دونكيشوت ، وعندما سئل المفكر الإسلامي مالك بن نبي نال: مالفرق بين الحضارتينالإسلامية والأوروبية ، قال :  تماما كالفارق بين حي بن يقظان وروبنسون كروزو

28 – انظر الفكر الإسلامي / د. البهي الخولي / دار الفكر / دمشق .

29- ديوان كيف السبيل ؟ / الشاعر الإسلامي : خالد عبد القادر

وسوم: العدد 721