العلم واللغة

بدر محمد بدر

[email protected]

المؤلف: د. محمود فوزي المناوي

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة

عدد الصفحات: 324

الطبعة: الأولى 2013

موضوع هذا الكتاب شغل- ولا يزال- الكثير من علماء العربية وخبراء التربية وقادة الفكر في الوطن العربي منذ فترة طويلة، وهو "تعريب العلوم" واعتماد التدريس في الجامعات والمعاهد البحثية بالعربية وحدها، حفاظا على هوية الأمة، وحرصا على نهضتها وتقدمها.

والمؤلف هو أحد الخبراء هذا الميدان، فهو أستاذ في كلية طب قصر العيني وعضو بالمجمع العلمي المصري ومجمع اللغة العريبة بالقاهرة، وحاصل على العديد من الجوائز والأوسمة في مجال تخصصه، وهو في هذا الكتاب يقدم لنا رؤية متخصصة في تعليم واحد من أهم فروع العلم بالعربية وهو الطب، الذي يدرس الآن في الدول العربية بالإنجليزية أو الفرنسية فيما عدا سوريا.

ويؤكد المؤلف بداية على أن اللغة ليست فقط أداة للتعبير ووسيلة للفكر ووعائه، بل هى أيضا بعض الفكر وأداته، وقد امتلكت العربية العديد من خصائص ومقومات القدرة على مسايرة التقدم الحضاري، وهو ما جعلها لغة التعليم والتعلم في العالم لسنوات طويلة، نهضت خلالها الأمة الإسلامية نهضة عملية زاهرة.

 

الاستلاب الحضاري

إن الخطورة تمكن في أن الشخص الذي يتعلم علما ما بلغة أجنبية، ينتقل من محيطه الحضاري والثقافي والفكري واللغوي، بل والديني أيضا، إلى محيط حضاري آخر، أدواته لغة أجنبية، حيث تفرض هذه اللغة الجديدة نفسها على من تعلم بها، وهذا هو "الاستلاب الحضاري".

ومن الناحية التاريخية يمكن القول بأن التمازج بين الحضارة الإسلامية، وحضارات البلاد التي فتحها المسلمون الأوائل، بدأ فعليا منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وهو ما جعل العربية لسان العلماء في تلك الفترة، ولزمن طويل بعد ذلك، سواء في العلوم النظرية: علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة.. إلخ، أو في العلوم التطبيقية: الطب والصيدلة والفلك والكيمياء.. إلخ، أي لغة العلم بمفهومه الحديث.

وكان الطب أبرز العلوم التطبيقية التي اعتنى الخلفاء العباسيون الأوائل بنقلها عن الأمم الأخرى، فاستعانوا بالخبراء لترجمة مؤلفاته إلى العربية، حتى صارت هناك نهضة طبية تعاقبت خطواتها سراعا، من مرحلة الترجمة والنقل، إلى مرحلة التأليف والاكتشاف.

ثم عمرت بغداد بالوافدين من العلماء في شتى المجالات من أنحاء الأمة الإسلامية، وشارك أهل العراق وفارس والشام والهند في نهضة حركة الترجمة في تلك الفترة.

ويمكن القول بأن حركة الـتأليف بالعربية بدأت قرب نهاية القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي، ومن أبرز أطباء تلك الفترة: أبو الحسن الطبري، وله مؤلفات في الطب والصيدلة من أشهرها كتابه "فردوس الحكمة"، وهو أقدم كتاب جامع لفنون الطب والصيدلة، وصل إلينا من كتب العلماء العرب.

ومن أبرز العلماء الذين كتبوا في الطب: أبو بكر الرازي، وقد بلغت مؤلفاته 224 كتابا، ضاع منها الكثير، ومن أشهر كتبه: "الحاوي في الطب"، وهو موسوعة كبرى تقع في 22 جزءا، وكتاب: "المنصوري في التشريح"، ومن العلماء أيضا: ابن سينا والزهراوي وغيرهما.

وعندما كان الطب في أوج شموخه وازدهاره عندنا نحن العرب، كانت أوروبا تجهله جهلا يكاد يكون تاما، وهذا ما دفعهم للإقبال على تعلم الطب على أيدي أساتذته العرب والمسلمون، غير أن جهدهم الأكبر كان مقصورا على الترجمة، وظلت كتب الرازي وابن سينا والزهراوي تدرس في جامعات أوروبا عدة قرون.

ومع تراجعنا الحضاري وصراعاتنا انتزعت أوروبا ناصية العلم من بلادنا، وعدنا إلى مرحلة التراجع والكمون، ليتقدم الغرب وننقل نحن عنه، بل ندرس الطب في جامعاتنا بلغته هو.

 

طب قصر العيني

وينتقل المؤلف إلى الحديث عن نشأة مدرسة طب قصر العيني في عهد محمد علي، ورغم أنها تأسست على أيدي البعثات العلمية الطبية من أوروبا، إلا أن تدريس الطب فيها كان بالعربية، بناء على رؤية الطبيب الفرنسي "كلوت بك"، الذي كتب إلى والي مصر يقول: "إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه".

واستجاب محمد علي لهذا الرأى، وألحق "كلوت بك" المترجمين بمدرسة الطب واعتبرهم طلابا بها، وألحق معهم مائة طالب تم اختيارهم من الأزهر الشريف.

وظل تعليم الطب في مصر باللغة العربية حتى عام 1903، عندما أصدر المندوب السامي البريطاني اللورد "كرومر"، أمره باستبدال الإنجليزية لتحل محل العربية! ويبقى هذا الوضع الشائن مستمرا حتى الآن!

وفي ظل رئاسة "كلوت بك" لمدرسة الطب قام الأساتذة المصريون بتعريب 86 مرجعا طبيا عن الفرنسية، وإلى جانب ذلك كانت لهم مؤلفات عديدة بالعربية مباشرة, ومن أبرز هؤلاء الأطباء: أحمد حسن الرشيدي، وأحمد حمدي بك الجراح، وحسن محمود باشا، وكتبوا عشرات الكتب منها: الفرائد الطبية في الأمراض الجلدية، والخلاصة الطبية في الأمراض الباطنية، والراحة في أعمال الجراحة، وطالع السعادة والإقبال في علم الولادة وأمراض النساء والأطفال، وتحفه السامع والقاري في داء الطاعون البقري الساري، وغيرها.

وظلت العربية هي لغة الدراسة بطب قصر العيني إلى ما بعد الاحتلال البريطاني بحوالي عشرين عاما, وظل المعتمد البريطاني اللورد "كرومر" يضيق الخناق على مدرسة الطب حتى تراجع عدد الطلاب بها إلى أقل من ثلاثين طالبا، وفي عام 1906 تخرج 20 طالبا فقط!

ويؤكد المؤلف أن الأمر ليس حديث العلم بالعربية, أو أن يعود الطب وحده فيتكلم بها فقط, بل الموضوع يتجاوز اللغة إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإلى كل جوانب الحياة, بعد أن تلاحقت موجات ما يسمى بالعولمة، والشركات عابرة القوميات.

إن القرار الاقتصادي يؤدي بغير مواربة إلى قرار ثقافي, وبشكل أوضح: إن الذين يقررون شكل اقتصادنا, يأتي في قرارهم ضمنا، حتى ولو بدون نية مبيتة، اللغة التي يتكلم بها هذا الاقتصاد، في قرارته وبحوثه ومكاتباته واختياراته، وكذلك الشأن في كل قرار, وفي المقدمة بالطبع القرار السياسي.

البحث عن حل

في مجال تقديم الحلول يقول المؤلف إن علينا أن نبحث عن الوسائل التي تقنع "السياسي" المحلي في أي بلد من بلادنا, بأن الحفاظ على "هويتنا"، هو قاعدة للحفاظ على المكانة السياسية لأي نظام من أنظمة الحكم, وأن المدخل إلى ذلك هو الحفاظ على لغتنا القومية في حومة الصراع العالمي, وفي مواجهة حركة العولمة، أيا كانت القوى المحركة لها.

ويلفت النظر إلى أن هناك خبرات تاريخية، قديمة وحديثة، تشير إلى دور "السياسي" في تعريب العلوم ومنها الطب, الأولى في العصر العباسي الأول, والثانية في عهد محمد علي, وكلتاهما أدت إلى أن يتكلم الطب بالعربية، بالتعريب أولا، ثم بالتأليف والابتكار ثانيا.

لذلك إذا قلنا إننا يجب أن ننشط في مجال تعريب الطب، أو غيره من العلوم التطبيقية, فإنما نعني بذلك أن يكون التعريب مرحلة ممهدة لمرحلة تالية، وهي مرحلة التأليف بلغتنا القومية, وهي مرحلة تأتي بعد الترجمة والتعريب, ولابد أن يكون ذلك مدعوما بـ "التبني والدعم" من صاحب "القرار السياسي".

الخلاصة أننا في حاجة إلى قرار سياسي جامع على المستوى القومي، يؤكد إصرارنا على أن يتكلم العلم العربية، وليس الطب وحده, فالكل يعلم أن الطب مرتبط بعدد من فروع العلم الأخرى, وأنه وثيق الصلة بأجهزة التقنية الحديثة أيضا, سواء في التشخيص أو في العلاج.

ويرى المؤلف أن تحديد الزمن الذي سوف تصبح بعده العربية لغة الدراسة في الجامعات والمعاهد العلمية العليا، يتوقف على إقناع جمهور المثقفين وأصحاب القرار في بلادنا بمبدأ صلاحية اللغة، بدون قيد ولا شرط, حتى نتخطى الصعوبات التي يمكن أن تعترض تحقيق هذا الهدف, من خلال ترسيخ الفكر العربي، وتقويم العقلية التي أصيب بها بعض مثقفي هذه الأمة، كي تستوعب تلك التغيرات المأمولة، في الاعتماد على لغتنا القومية، كلغة أساسية للدراسة العلمية.

وفي الختام يؤكد الكاتب على أن الدعوة إلى استخدام اللغة العربية في التعليم الجامعي والبحث العلمي لا تعني إهمال اللغة الأجنبية، بل هي مقترنة دوما بالدعوة إلى واجب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، لاتخاذها أساسا في استمرار الاتصال بالتطور العلمي والتقني في العالم, والتمكن من اكتمال الدراسات العليا والتخصصية, ونشر البحوث العلمية في المجلات والدوريات العالمية.

فإتقان اللغة الأجنبية شيء، واستخدامها بدلا من اللغة القومية شيء آخر, إذ في إتقان اللغة الأجنبية دعم للثقافة، ورقي لها من ميادين العلم, وأما استخدامها بديلا فهو عزل للغة القومية، ووأد لها.

وتظل قضية "التعريب" مطروحة ومفتوحة للنقاش العلمي بين الخبراء والمفكرين، حتى يهييء الله لهذه الأمة من يقودها إلى النهوض واليقظة، والحفاظ على الهوية والتقدم.