كلمة ألقيت على قبر الشيخ سعيد حوى يوم دفنه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على محمد والآل،

أيها الإخوان:

إن فقد الأحبة مما يدمي القلب، ويقرع الكبد، ويذهب الفؤاد، فكيف إذا كان ذلك الحبيب من العلماء الأجلاء، والدعاة العاملين، والأئمة المصابرين المرابطين، إذا كان الموت حقاً تستلم له النفوس المؤمنة، وتخضع له القلوب المخبتة، فإن فقد الشيخ في هذه الأيام العصيبة والمرحلة المحرجة من أشق الأمور على إخوانه، لكنهم بنفوس مطمئنة إلى قضاء الله عاملة بمرضاته، يرددون منيبين خاشعين: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي الرب..

إننا ونحن على حالنا هذه يا أبا محمد – رضاً وقبولاً – نذكر فيك همم الرجال الذين يتصدون لمعالي الأمور، ودأب الدعاة الذين يبتغون وجه الله، وحكمة العلماء الذين يريدون خير الأمة، وصبر المرابطين الذين لا يخلب قلوبهم رهبٌ ولا رغب.

إننا نفتقدك أيها الشيخ الجليل في وقت يعز فيه الرجال، لكنه قدر الله سبحانه "وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا"، "كل نفسٍ ذائقة الموت" وهل يملك مؤمن إلا اليقين الكامل بهذا الناموس الذي لا يتخلف، وإلا الاعتقاد بهذا القانون الكوني الرباني والإنسان عالم من هذه العوالم التي يحكمها ذلك الناموس "ولكل أجلٍ كتاب".

إن القلب ليجزع، وإن العين لتدمع، وإن على فراقك يا أبا محمد لمحزنون..

إننا محزنون لأننا نعيش معك الغربة والهجرة والرباط، فكان ثباتك بيننا يبدد وحشة الغربة، ويهون آلام الهجرة، ويقوي معاني الرباط، ولقد عشت حياتك كلها دعوة لله تعالى، فكان السجن وهو قدر من قدر الله على الداعين إليه وسنة متبعة في طريق العاملين، وكنت مع إخوانك الذين سبقوك، وإخوانٍ راصفوك، وإخوان خلفوك في هذا الطريق، لقد كنتم جميعاً في خلوة المؤمنين، فكان لك أنس الروح، وإشراقة القلم، وصفاء النفس، ثم خرجت من السجن كما يخرج الذهب الأصفر الصافي من الكير، خرجت وأنت أشد مضاء، وأقوى شكيمة، وأغنى خبرة، وأبعد نظراً، حتى خضت في مجالات الدعوة بالقلم واللسان، وبالعزم والبيان، ثم إلى قرار المواجهة للبغي والطغيان، ثم كانت هجرتك إلى أهل النصرة من إخوانك، فكنت معهم على طريق خير المهاجرين، إلى خير من آووا ونصروا، وكان عملك على كل الجبهات مثالاً للجهاد المستبصر، والعزم الذي لا يلين، مع الصبر الجميل، والقول الثابت، الذي يثبت به الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا والآخرة.

ولقد كنت أيها الشيخ الحبيب مثابةً يأوي إليها الخائفون والحائرون، وكنت بلسماً تداوي جروحهم، وتهدئ نفوسهم، وتسعى في حوائجهم ما وسعك السعي، كل ذلك بالقدوة الصالحة والكلمة الطيب، والأمل الوطيد، والرجاء الواثق بأن ما عند الله خير وأبقى.

أما رباطك فقد كان حجةً على الذين اهتز إيمانهم، وفرقته نفوسهم، واضطربت عندهم الرؤيا، فكنت تدعو إلى الرباط والثبات حتى تمنع الفتنة بكل ما تملك من مال قليل، أو جاه متواضع، أو كلمة طيبة، أو شرح مفصل إذا اقتضى الأمر إلى أن أذن الله بأمرٍ كان مفعولا..

ولا تزال كلماتك ترن في آذاننا، وأنت تتغنى برباط العصبة المؤمنة على أرض الشام، فتطرب بذكر الأحاديث التي توردها عن فتية الإيمان المجاهدة على أرض الشام، وكان تلك المرامي التي عناها صلى الله عليه وسلم تلمع بين عينيك..

وإذا كانت المرحلة المدوية على أرض الشام التي تزلزل العروش وتدك صروح الظلم والفساد، وتدمدم على الجبارين والطغاة والمستكبرين، لو تشهدها عينك، ولو يكتحل بها بصرك، فإن ركب الدعاة الذين هم من ورائك نشرت فيهم علمك، وألقيت عليهم من حجتك، إن ذلك الركب ماضٍ إن شاء الله على طريق الحق "مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن ذلك الرباط هو وثاقهم، وإليه تركن نفوسهم" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم وإن الله لمع المحسنين". أيها الشيخ سعيد، إن كلماتٍ قليلة في جهادك ودعوتك ورباطك لا تفيك حقك، ولا يمكن أن أنصفك بهذه الأسطر المقتضبة، لكنها وقفة وفاء، وعبرة وموقف وتدبر..

وأنتم يا إخوان أبي محمد، أحسن الله عزاءكم في شيخكم وشكر سعيكم، ولا تزالون في غربتكم وهجرتكم ورباطكم مأجورين غير مأزورين، ما خلصت النيات، وصفت القلوب، وارتبطت بالله تعالى.

وأنتم يا أبناء الشيخ سعيد، لقد رباكم شيخنا رحمه الله على هذه الطريق التي دعا إليها، فكنتم خير خلف لخير سلف، وألهمكم الصبر، وأجزل لكم الأجر.

وأنت يا شيخنا الذي يغادرنا الآن، إلى جنة عرضها السموات والأرض، في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، أنت إن شاء الله مع: " الذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ"

غداً إن شاء الله نلقى الأحبة محمداً وصحبه

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وسوم: العدد 850