عن الأبنودي والفيتوري.. وقسوةِ نيسانَ

نمر سعدي

[email protected]

الأغاني كزهورٍ منزليَّة

في أوجِ الربيع الهشِّ يرحلُ عبد الرحمن الأبنودي صاحبُ الأغاني التي كانت تُربَّى كنباتات البيوتِ والزهورِ المنزليَّة على نوافذِ القاهرةِ الجميلةِ.. وكانت متداولةً أكثر حتى من رسائلِ العشَّاق في تلكَ الفترةِ الذهبية من تاريخ مصر الحديث.. رحلَ الشاعرُ المسكونُ بعشقِ وطنهِ كأنهُ على موعدٍ باذخٍ مع الورودِ البضاء العاشقةِ.. 

كانت مرحلة الأبنودي حالةً نادرةً في تاريخ الشعرِ الشعبي لا على مستوى مصر فقط.. بل على صعيد العالم العربي كلِّهِ.. لم ينازعهُ أحدٌ في مملكةِ القصيدةِ الشعبية سوى أحمد فؤاد نجم. بعد رحيل الكبارِ من أساتذة هذا النوعِ من الشعرِ أمثال بيرم التونسي وصلاح جاهين.

علاقةُ الشاعر الراحل الأبنودي بأمِّهِ هي علاقةُ كلِّ شاعرٍ عاشَ قابضاً على جمر البراءة والطفولة والعذاب والذكرى.. علاقة تتسِّم بالشفافية الطافحة بالحبِّ والانخطاف ببرق الأمومة الغامض.. أتذكرُ الآن أمهات الشعراء الكبار وكيف أن أطيافهنَّ الخضراءَ أبتْ أن تغادر قصائد الأبناء الملوعين.. ولا أنسى هذه الصرخات المبثوثة في القصائد كأنها تمد يداً للأمِّ من ضفة بعيدة.. وأتذكر محمود درويش وحبهِ الأسطوري لأمهِ وأنا أقرأ قصيدة الباب تقرعه الرياح لبدر شاكر السياب التي خاطب فيها أمَّهُ بكثيرٍ من الدمع.. أو قصائد محمد القيسي التي خلد فيها أمه حمدة.. مروراً بأمل دنقل وصورة أمِّهِ الباكية على قبره.. الشاعر هو ذلك الطفلُ الذي لا يهرم روحياً والمحمَّل بكلِّ خطايا المدن ومرايا الرفض وشهوات الحياة ونزواتها وليست الأم سوى الأجنحة الرحيمة البيضاء التي يأوي اليها طائرُ الشغف والألم كلما حاصرته قسوة القدر.. أو تاه في السراب.

***********

آخرُ العشَّاقِ المتجوِّلين

يرحلُ عاشقُ أفريقيا محمد الفيتوري أخيراً في عرسِ أقحوانةِ نيسانَ كما يليقُ بشاعرٍ عظيم.. وتماماً كما عاشَ في سنواته الأخيرة بفقر فراشةٍ وبعنفوان بحرٍ وتمرُّد عاصفةٍ خضراء.. يرحل كأيِّ حالمٍ أو طيِّبٍ في زمن الأشرار.. بانكسارِ الفارسِ النبيلِ.. وبخيبةِ أملِ العاشقِ.. وبترفُّعٍ أسطوريٍّ عن فتاتِ موائدِ اللؤماء.. بعدما خطَّ للحياة ولحبيبته أفريقيا أجملَ القصائد بولهٍ وبوجدٍ حقيقيين.. يدي تبحثُ في الليلِ الربيعيِّ والذاكرة عن ديوانيه الصغيرين الأنيقين قوس الليل.. قوس النهار ويأتي العاشقون اليك.. أو عن قصيدة نادرة كتبها في ذكرى مرورِ نصف قرن على رحيلِ الشاعرِ اللبناني الخالد الياس أبو شبكة ولكنها لا تجدُ في هذا الظلام الهشِّ المطلق إلا قصاصاتِ أحلامٍ.. 

يرحلُ بعيداً عن وطنهِ الذي أذابَ قلبهُ أعواماً طويلةً عشقاً وقصائدَ حبٍّ من أجلهِ ليُدفن هناكَ في منفاهُ المغربي لا إلا جوار العلَّامة السوداني الشهير عبد الله الطيِّب الذي أحبهُ الفيتوري كثيراً وأوصى أن يُدفنَ إلى جوارهِ..

كانَ الفيتوري نسيجَ وحدهِ وكانَ ذلك الشاعرَ المخلص لقصيتهِ إلى أبعد حدٍّ. وهو متمرِّسٌ بكتابةِ قصيدةِ التفعيلة والقصيدةِ العموديَّة.. وأنا أجدُ نفسي مشدوداً في أحيانٍ كثيرة لقصيدته العمودية التي يحسنُ دوزنة موسيقاها وانتقاءَ مفرداتها مع كثيرٍ من المحبَّة والإعجابِ بقصائدهِ التفعيلية.. هناكَ طاقة غريبة في قصيدتهِ قادرةٌ على جذبِ النفوسِ بمهارةٍ قلَّ نظيرها.. والقبض على صورٍ شعريَّةٍ هاربةٍ من لوحاتٍ تجريديَّة وسرياليَّة.. لم يعش فقط كالدرويش المتجوِّل.. بل أيضاً كالعاشقِ الشبيهِ بتروبادور لم يشفَ من حبِّ وطنهِ الذي حُرمُ منهُ في أوجِ تعلِّقهِ به..

للفيتوري قصيدة مقدَّسة قالها في الذكرى الخمسينيَّة للشاعر الياس أبو شبكة وأنا أحتفظُ بقصاصتها وأضيعها قرابةَ عشرينَ سنة.. وهي من أجمل القصائد العموديَّة لا في شِعرِ الفيتوري فحسب.. بل في الشِعرِ الحديث كلِّهِ.. يقولُ فيها:

برقٌ هو الشِعرُ.. طفلٌ سابحٌ أبداً

بينَ المجرَّاتِ.. مجنونٌ ومكتئبُ

فكيفَ لي وأنا الطفلُ الذي انغرستْ

خطاهُ في الرملِ أن آتي بما يجبُ؟

صدقتَ أيها العاشقُ.. الشعرُ برقٌ وطفلٌ سابحٌ بينَ المجرَّات.. وكيفَ لي يا سيِّد شعراءِ أفريقيا أن آتي بما يجبُ من رثائكَ.. وداعاً يا ناي افريقيا الجريح ويا قيثارة قلبها الموجوع. وداعا.