كما الوَطَن

مفلح طبعوني

من وإلى .. سميح القاسم

يا أهلَ العطاءِ والوفاءِ

في لقائِنا الأخيرِ، في بيتِهِ في الرَّامةِ، زمَّلني الشاعِرُ سميحُ القاسِمِ بمحبتِهِ ومودَّتِهِ لهذهِ المُحافظةِ، مُحافظَةِ "سَلفيتِ" الحَمراءِ.

قالَ: هذه المُحافظةُ هيَ ساحَةُ نِضالٍ تاريخيَّةٍ بجبالِها ووديانِها، بأشجارِها وهوائِها، صامِدَةٌ بِنِسائِها ورجالِها، شبابِها وأطفالِها بِرائحَةِ ترابِها وَصَلابَةِ حِجارَتِها، مُحافظةٌ أَقلُّ ما يُقالُ في تاريخِها بأنَّهُ ناصِعٌ ومَفخرَةٌ.

زمَّلني ودَثرَني براجحِ السَّلْفيتي ورفاقِهِ، الشاعِرِ الذي تَركَ بَصَماتِهِ ليْسَ فقطْ فوقَ هذهِ المُرْتفعاتِ، وَإنَّما فوقَ وعلى تضاريسِ فلسطينِ الكامِلَةِ، الشَّاعِرِ وِرفاقِهِ الذينَ تواصَلوا في أصعبِ الظروفِ مَعَنا، مع شعبِ التجذّّر والبقاءِ. وحافظوا على التراثِ النضالي رغمَ تحريضِ الرجعيَّةِ العربيَّةِ وقمعِ الاحتلالِ الصهيوني.

زَمَّلني بالقبلاتِ لكلِّ الشرفاءِ والمناضلينَ منذ الزمنِ الملكيِّ، وحتى هذا الزمنِ الصهيوني، زمنِ احتلالِها وأنفاسِها بالكاملِ.

تمكّنَ القاسِمُ من توظيفِ المأساةِ بقوالِبَ أخرجَتْنا من تلكَ الهزيمَةِ ومسخراتِها.

سميحُ القاسِمِ المُتعالي على السائِدِ والمألوفِ، القلِقُ كما العاشِقَةِ على حبيبِها الغائِبِ. سميحُ القاسِمِ صاحِبُ الحُضورِ الفريدِ، حُضورٍ يتربعُ بينَ الحاضِرينَ بسماحَةٍ تتنقلُ بانسيابٍ بينَ خلايا الأحاسيسِ والعواطفِ، لتتفاعَلَ مَعَها القلوبُ والعقولُ بحميميةٍ صادقةٍ. سميحُ القاسِمِ الإنسانُ الفلسطينيُّ المُعذبُ والمبدعُ بجماليةٍ نادرةٍ، سيرتهُ وذكرياتهُ كأنها سيرَةُ وذكرياتُ فلسطينِ الداميةِ، بمرارةٍ متفرِّدةٍ.

ذكَّرني الشاعِرُ سميحُ بما نَفَضَهُ لِسَميحٍ في كتابِهِ "إِنَّها مُجَرَّدُ مَنْفضَةٍ".

"هلْ أنتَ غاضِبٌ على أحدٍ الآنَ؟ هلْ أنتَ حاقِدٌ على أحدٍ؟ أنتَ لا تدَّعي العِصْمَةَ وَالتنزُّهَ والمَلائِكِيَّةَ، لكنكَ تجيبُ عفوَ السَّليقةِ وعلى السَّجِيَّةِ:

لا. أقسِمُ بالله وَبِكُلِّ ما هو عَزيزٌ عَليَّ، ما أنا بغاضِبٍ أو بحاقِدٍ على أحدٍ.. وإذا كانَتْ تلِمُّ بي أحْيانا نَوْباتُ غضَبٍ عابرَةٍ على قاتِلي شَعْبي وقامِعي الشُّعوبِ وأعْداءِ الحَضارَةِ وأعداءِ الديمقراطيَّةِ والتعدُّدِيَّةِ وحقوقِ الإنسانِ، كائِنينَ مَنْ يَكونونَ، فإنّني أنْفي إمكانيَّةَ الحِقدِ نفيًا قاطِعًا.. لا لسببٍ سِوى الأنانيَّةِ وحُبِّ الذاتِ في مَسألةٍ لا أسْمحُ بها أبَدًا..لا أسمحُ لأحَدٍ بتجريدي مِنْ إنسانيَّتي. لم أسْمحْ . ولا أسْمحُ ولنْ أسْمحَ.. سَمِّها أنانِيَّةً سَمِّها اسْتِكْبارًا . سَمِّها غُرورًا . سَمِّها بما تشاءُ وأمْري لله .. "

سميحُ القاسِمِ الذي لَمْ تتمَكَّنْ حَبيبتُهُ مِنْهُ ولم يَتمكَّنْ منها لأنَّ جِسْمَها المائِيَّ تشظَّى بينَ النارِ والطينِ وأبْصَرَتْ فقطْ ظلَّهُ ولمَسَتْ كفنَهُ :

"أرادَتْ أنْ تُناديني

وَلَمَّا لَمْ تَجِدْ فَمَها

تشظَّى جِسْمُها المائِيُّ

بينَ النارِ والطِّينِ

وشاءَتْ أنْ تُشاهِدَني وَتَعْرِفَني

وشاءَتْ أنْ تَمَسَّ يَدي

ولمَّا كُنْتُ مَخْلوقًا خُرافِيًّا

بلا جَسَدٍِ .

بلا أهْلٍ

وَلا بَلَدِ

تَعَذَّرَ أنْ تُشاهِدَني وَتَعْرِفَني

وَلَمْ تُبْصِرْ سِوى ظِلّي

وَلَمْ تَلْمَسْ سِوى كَفَني".

أخذَ ذاكِرَتي إلى الهَمِّ العالمِيِّ، إلى المستوطنينَ الأوروبيِّينَ في أمْريكا قبلَ عِدَّةِ قرونٍ وإلى مُمارساتِهِمْ الحَيَوانِيَّةِ ضِدَّ السُّكانِ الأصْلِيِّينَ،الهُنودِ الحُمْرِ مُقارِناً بَيْنَهُم وَبَيْنَ المُحْتَلِّ الصُّهْيونِيِّ في هذه البِلادِ.

حَدَّثني عن حِوارِهِ معَ رابِعَةِ العَدَوِيَّةِ وَعَنْ جَوابِهِ على سُؤالِها "هلْ يولدُ"؟ " هلْ يولدُ"؟:

يولَدُ في دِمَشْقْ

مُكَلَّلاً بِالبَرْقْ

يولَدُ في بَغْدادِ

مِنْ حِكْمَةِ الأجْدادِ

يولَدُ في بَيْروتْ

لِطِفْلَةٍ تَموتْ

يولَدُ في عَمَّانِ

للنَّارِ وَالدُّخانِ

يولَدُ في الجَزائِرْ

يولَدُ في الكِنانَهْ

وَيُرْجِعُ الأمانَهْ:

ثائِرَةٌ وَثائِرْ

وَطِفْلَةٌ جَميلَةٌ

تَلْعَبُ تَحْتَ الشَّمْسْ

لَوْ سُئِلَتْ عَنْ اِسْمِها

رَدَّتْ: أنا اسْمي القُدْسْ

رَدَّتْ: أنا اسْمي القُدْسْ

رَدَّتْ: أنا اسْمي القُدْسْ

سميحُ القاسِمِ وَلأنَّهُ ما زالَ أمامَهُ الكثيرُ لينجِزَهُ، خُصوصًا في مجالِ الالتزامِ الوطنِيِّ، ولأنَّهُ يُحِبُّ الحَياةَ رَغمَ قسوتِها ويريدُ تغييرَها إلى الأفضلِ منْ لأجْلِ البشرِيَّةِ المَظلومَةِ ومِنْ أجْلِ مُسْتقبَلٍ مُنيرٍ للطفولَةِ:

"أيُّها المَوْتُ، فَاَمْهِلْني

حتَّى أَجْرَعَ كَأسِي المُتْرَعَهْ

بِصُروفِ الدَّهْرِ

وَنَوازِعِ النَّفْسِ

جِدِّها وَهَزَلِها

ليقولَ:

"ينقُصُني اليَوْمُ ولا يَبْقى

مِنِّي شَيْءٌ لِلأمْسِ وَلا

يَبْقى شَيْءٌ لِلْغَدِ..

اَمْهِلْني يا مَلَكَ الوَعْدِ .."

سميحُ القاسِمِ الذي يَهْدي السَّبيلَ لِلأعْداءِ قَبْلَ الأصْدِقاءِ أوْ كما قالَ الشاعِرُ"أبو سَلمى" :

" يَهْدي السَّبيلَ مِنَ اليَمينِ إلى اليَسارِ"، سميحُ القاسِمِ الذي حاوَلَ ويُحاوِلُ أنْ يُثقفَ أعْداءَهُ عَلَّهُ يُخْرجُهُمْ من دائرةِ الدَّمِ، خوْفاً عليهِمْ وعلى شَعْبِهِ.

سميحُ القاسِمِ الذي عبَّدَ طريقَ الكرامَةِ الإنْسانِيَّةِ، التي آمَنَ بِها ودافَعَ عنها، طريقَ الخلاصِ من الحقدِ.....

سميحُ القاسِمِ الشَّاعِرُ الإنْسانُ، السَّامي بأمَمِيَّتِهِ وَبهَمِّهِ الوَطَنِيِّ.

سميحُ القاسِمِ الشَّاعِرُ الطيِّبُ،الجَميلُ، الوَفِيُّ. سَيَظلُّ الإنسانَ الذي يَحْمي إنسانِيَّةَ شَعْبهِ من السُّقوطِ.

سيظلُّ بَيْننا وَمَعَنا دَوْمًا هذا الشَّاعِرُ الذي أحْبَبْناهُ كما الوَطَن ...

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الشاعر الكبير سميح القاسم في مهرجان فرخة الدولي محافظة سلفيت يوم السبت 14.7.2012