إبراهيم خليل عبدان

إبراهيم خليل عبدان

صلاح الدين

الصديق الأخ أمضى أياماً عدة لا يواجه الناس .. لا يأكلُ .. لا يخرجُ .. حتى شحُب لونه وهزُل جسمه، وأضحى جلداً على عظم..هكذا كان حال خالد في إجازته، فشل أبوه وأمه وأخوته جميعهم في اختراق وحدته وعزلته تلك .. بقي في إجازته يومان..عليه أن يلتحق بقطعته العسكرية البعيدة، سمعتْه مرّةً من النافذة يبكي بكاءً مريراً ويقول: يا الله! ما هذا الذي اقترفتهُ يداي؟ أين أخفي وجهي من الله؟ من الناس؟ من أمي وأبي وأخوتي؟، كيف أقوم بما لا أرضاهُ لأهلي ولأقاربي ؟ تبّاً لي.. وتبّاً لكَ أيها الضابط الخنزير..( وفي ذات صباح يدخل إلى الدار صديقه محمّد) فأومأتُ إليه بأن يدخل غرفة خالد، ومن غير كلام ركض محمد إليه مقبّلاً رأسه وواضعاً رأس خالد على صدره، فمحمّد هو الصديق الأخ لخالد..- ما بك يا خالد ؟ ما بك يا أخي ؟ ما بك يا قلبي ؟- تعبتُ يا محمد، تعبتُ، أكاد أختنق .- ممَّ يا خالد ؟ لا تخف ِ عني شيئاً، فأنا محمد يا خالد .- أنا قاتل يا محمد، أجل، نفذتُ أوامر الضابط بإطلاق النار على الأبرياء أثناء مهاجمتنا لبعض القرى، أنا لا أستحقك، ابحث عن صديق أخ ٍ غيري ..- أقاتلٌ أنت يا خالد ؟؟ !! قتلت أخوتكَ وأهلكَ ؟؟ قاتلَكَ الله، أتعني حقّاً ما تقول ؟- نعم يا محمد.. وهنا صمت محمد لوقت طويل وهو يعضّ على شفتيه بقوة وحسرة، وعيناه تقدحان شرراً ثم تابع قائلاً :- أخي خالد، أنت الآن في حضرة ربّ ٍ غفور ٍ رحيم .. شديدِ العقاب، ولا أعرف أن باب توبته مغلقٌ في وجه أحد .- أعد العبارة يا محمد.. أعدها أرجوك.. أسمعني كلامك هذا.. كلامك جديد عليّ!- أخي خالد: لا وقت لدينا الآن، امسح دموعك هذه، وأصلح من شأنك، وتأهّب لساعة الصفر، فنحن منها على بعد خطوة صغيرة ..- لا أفهمك يا محمد.. أرجوك.. أرى بريق أمل في عينيك يا محمد.. ولكني لا أفهمك ..- أخي خالد، التوبة من عند الله، وليست من عند بشرٍ مثلي، لكني أرى أن تلتزم بكل فروضك وواجباتك تجاه ربك ومن ثم تلتحق بركب الثورة على نيّة القصاص والثأر لدينك ولوطنك ولعِرضك ولنفسك من هذا الضابط الخنزير وأمثاله ..- كيف هذا يا محمد ؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ دلّني أرجوك، أقبّل يدك ورجلك دلّني ..- لا عليك يا خالد، أنا سأتدبّر أمرك إن شاء الله، سأجمعك بشبّان يخافون الله وحده، أمّا أنت فاعقد نيّة التوبة والقَصاص من الآن.. فلا تدري متى تموت ..وعند هذه اللحظة ساد المكان حالة من الصمت.. لكن دموعاً غزيرة بدأت تنهال من عيني خالد الذابلتين، ولأول مرة تفترّ شفتاه عن ابتسامة خفيّة، وفجأة يرمي الغطاء الذي كان يغطي به جسمه الهزيل، وينتفض كليث ٍ جريح..