رحلة الخلدونيّة إلى الزاب الغربي

عبد الله لالي

بسكرة الجزائر

[email protected]

في الثالث والعشرين من شهر ديسمبر 2011 م ووافق يوم جمعة ؛ أقامت الجمعيّة الخلدونيّة للأبحاث والدّراسات التاريخيّة ( بسكرة ) رحلة ثقافيّة علميّة إلى الزاب الغربي[1]، وهذه عادة سنويّة لا تتخلّف عنها الخلدونيّة منذ عدّة سنوات ، إذ يعقب كلّ ملتقى تقيمه الجمعيّة رحلة علميّة وثقافيّة، لمزيد من النفع والفائدة ولتكون نوعا من التطبيق العملي لما تمت دراسته، خلال أشغال ملتقياتها التاريخيّة والتي يشارك فيها أساتذة وباحثون من مختلف ولايات الوطن ، وأحيانا من خارج الوطن..

وقد جاءت رحلة هذه المرّة بعد الملتقى العاشر ( بسكرة عبر التاريخ ) والذي خصّص هذا العام لـ( الزوايا الصوفيّة ودورها في المحافظة على الشخصيّة الوطنيّة )، وكنت قليلا ما أشارك في مثل هذه الرّحلات على أهميّتها لأسباب خاصّة ، لكن هذه المرّة – وهي الثانية – وبإلحاح من أخي وصديقي الأستاذ فوزي مصمودي قرّرت المشاركة لاسيما وأنّ معرفتي بالزاب الغربي قليلة جدّا ، بل إنّ قدمي لم تطأ من قبل أولاد جلال ولا سيدي خالد.

كان الانطلاق من دار المعلّم ببسكرة حيث يقيم الأستاذة والضيوف المشاركون، وكانت الحركة دؤوبة في رواق دار المعلم وما يؤسف له أنّ بعض الأساتذة تعجّل بسفر العودة ، فحرمنا من فائدة صحبتهم والاستفادة من علمهم، وتأخر الانطلاق ما يقارب نصف الساعة لتوديع أؤلئك الأساتذة، ثمّ جاءت لحظة الانطلاق حوالي الساعة الثامنة والنصف مع بداية ارتفاع الشمس عن مشرقها، وكان صباح بسكرة هادئا وديعا على غير عادته ..إنّه يوم الجمعة.. !

في هذه الرّحلة تشكلت قافلة صغيرة من حافلتين وبضع سيّارات، ووددت لو أنّ الجميع كانوا في حافلة واحدة ليكون العرس ثقافيّا بامتياز والرّحلة علميّة حتى النخاع..وغاب عن الحافلة التي أركبها الأستاذ فوزي مصمودي الرئيس السابق للجمعيّة ومدير المتحف الجهوي العقيد محمّد شعباني( بسكرة ) حاليا، وقيل لنا أنّه ينتظرنا أمام المتحف غير أنّنا عندما وصلنا إلى المتحف لم نجده، وسمعنا بعد ذلك أنّه تخلّف بسبب مرض ابنه، ومع ذلك التحق بنا بعد صلاة الجمعة.

كان إلى جانبي في الحافلة كلّ من الأستاذ سليم كرام نائب مدير الجمعيّة وشاعرها، والأستاذ صالح بن علية ( مدير متوسّطة ) والأستاذ محمّد قويدري مستشار بالمحكمة العليا ومفتش بالقضاء، فعرفت أنّ الرحلة ستكون شيّقة ومفيدة ..بدأت التعليقات الطريفة والنكت وتخللّها نقاشات علميّة رائعة.

قال لي الأستاذ صالح بن علية هل تعرف الشيخ عمر عبد الكافي ، فقلت له نعم أعرفه من خلال ما يقدّمه من برامج متميّزة في بعض القنوات العربيّة ، فقال: لقد تتبعت له برنامجا رائعا يفسّر فيه القرآن الكريم ويذكر لفتات لغويّة مدهشة، كما يذكر معلومات رائعة .. وذكر أنّه سمعه يفسّر قول الله تعالى : " قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا " أنّ تقيّا كان رجلا فاسقا عندهم بقريتهم أو بأرضهم.

فقلت: هذا رأي من الآراء في تفسير الآية ، وهناك رأيان آخران اطلعت عليهما، الرأي الأوّل: إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا ، أي إن كنت جنيّا من الجنّ والتقيّ من معانيها في اللغة الخفي الذي لا يرى وكذلك الجنيّ ، والرأي الثالث : إن كنت تقيّا أي إن كنت تخاف الله فابتعد عنّي لتوقاك الله...( ولعلّي سمعت هذين الرأين من الشيخ الشعراوي وهو يفسّر هذه الآية بإحدى القنوات الفضائيّة ).

وذكرت أنّ اللفتات البيانيّة الرائعة تميّز بها الدكتور فاضل السمرائي ، منذ بضع سنوات في قناة الشارقة ، فقال الأستاذ صالح : نعم لقد تتبعته ، وعندي أوّل كتاب له في اللفتات البيانيّة .. وهو كتاب رائع جدّا لم أر مثله.

كنت مشتاقا لمعرفة تفاصيل المنطقة وتمتيع النظر بمناظر الطريق على الجانبين، لاسيما بعدما قالت إحدى الأستاذات المشاركات إنكم تمتلكون بلدا رائعا وجميلا جدّا ( غير أنّي قلت في نفسي : لو أنّك جئتها في هجيرها وعند لفح حرّها ؛ لفررت منها فرارك من الأسد )، كانت الصحراء في شتاء بسكرة ربيعا متألقا وشمسا ساطعة وهواء نقيّا منعشا، نتمنى لو يبقى ويدوم.. ولم يكن لي أن انبهر بالصحراء وانبساطها وصفاء هوائها ورهبة سكونها لأنّني ابن الصحراء ، فيها ولدت وعلى تربتها نموت وترعرعت ..لكنّ الحضارة بحسناتها وسيّئاتها غزت ما حولنا بإسمنتها المسلح ، وضجيجها المقرف فازدحمت الشوارع وامتلأت الفضاءات الرّحبة حتى ضاقت على أهلها، فصرت كلما وجدت أرضا من البادية هفت لها نفسي ، واسترجعت ذكريات الصبا وأيّام الطفولة الأولى.

قلت رغبت في مطالعة المشاهد من حولي والتملّي منها طويلا، إلا أنّ حديث الإخوان كان أكثر جذبا ومحاورتهم أعظم جدوى حتى أنّ لم أشعر كيف انطوت مسافة الطريق ووصلنا إلى أولاد جلال.. !!

نظرت إلى الحافلة الصغيرة فوجدت فيها كلّ أطياف الجزائر ، قد اجتمعت والتأمت في عرس الخلدونيّة البهيج ، بدءا بسائق الحافلة الذي هو من قمم جبال الأوراس ، ثمّ الأساتذة من بجاية وتيزي وزو والنعامة وندرومة والبليدة ، والجزائر العاصمة ووفد أدرار وأساتذة من الأغواط ، فضلا عن رجال الخلدونيّة من بسكرة.

كانت محطتنا الأولى والتي لم نطل الوقوف عندها؛ هي مربض للإبل بمكان قرب بلديّة الشعيبة يسمّى بئر النعام ، توقفت الحافلة ونزل المشاركون منها ومن الحافلة الثانية ومن السيّارات، وراحوا يأخذون صورا للذكرى أمام قطيع الإبل الرائع ، وسمعت أحد إخواننا من أدرار يقول لصاحبه : ألم تملّ من الإبل وتريد التقاط الصور أمامها أيضا ..؟ !!

ولكنّني في ضجيج المشاركين لم أسمع ماذا كان ردّه، وقلت في نفسي كلنا نعيش قريبا من مرابض الإبل وهي على مرمى حجر منّا ، ولكن بيننا وبينها برزخ من الحضارة الزائفة يجعلنا لا نلتفت إليها ، ولا نتأمّل خلقها الرائع وفوائدها العظيمة؛ ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) إلا عابري سبيل.. !!

وكانت محطتنا الثانية أولاد جلال، والمقصد ضريح النبي سيدي خالد بسيدي خالد ..وذكرني المكان كلّه باتساعه ورحابته ببسكرة ( أقصد المدينة ) قبل عشرين سنة خلت أو أكثر لاسيما الجهة الشرقيّة منها على ضفاف وادي سيدي زرزور، هذه أوّل مرّة أزور فيها هذه المنطقة، ولكن بدت مألوفة لديّ كأنّي ترعرعت في أحضانها، وسرحت في وديانها، شعور غريب يكتنف جوانحي وعبير الماضي يجيش في صدري ، وتكاد عينيّ تهملان شوقا ولهفة...

وصلنا المسجد وكان خارج المدينة على ضفة وادي  ( جدي ) وهو من أشهر الأوديّة ببسكرة بل في الجزائر، والذي يمتدّ من منطقة الأغواط ويصبّ في صحراء بسكرة المنبسطة على مدّ البصر ، الساحرة شتاء المهلكة صيفا ..كان بناء المسجد ضخما جدا له قبّتان ومنارة مائلة إلى الجهة الغربيّة ، ما يدلّ على قدمه وترسخه في أعماق التاريخ، وقريب منه مقبرة صغيرة كتب على بابها ( مقبرة الذواودة )..

دخلت المسجد وكلّي شوق لرؤيّة الضريح الذي يقال أنّ صاحبه نبيّ مرسل من عند الله، ولم تقم الأدلّة القاطعة على صحّة هذه الدعوى ، إلا ما قيل أنّ الشيخ عبد الرحمن الأخضري رآه في رؤيا صالحة واستدلّ على مكان دفنه بهذه الرؤيا ، والرؤيا طبعا ليست دليلا شرعيّا ولا عقليّا وإنّما يستأنس بها العبد المؤمن.. لكن عندما دخلنا المسجد وجاء الدّليل ليحدثنا عن تاريخ المسجد والضريح؛ أشار إلى أنّ عديدا من المفسرين وعلماء من المشرق أقرّوا بصحّة نبوّته، وأشار إلى لوحة مثبتة بالجدار خلفنا كتبت عليها أسماء هؤلاء العلماء.

بعدها انتقلنا إلى داخل المبنى الذي حوى الضريح ، وكان الضريح في باحة كبيرة أحيطت بزخرفة خشبيّة منمّقة ، وزينت جدران المكان برسوم تعبيريّة خلابة ، ونظرت إلى الضريح فإذا هو عبارة عن صندوق خشبي الكبير ارتفع عن الأرض بضعة أشبار، وفوقه ما يشبه النعش، وغطي بأقمشة ملوّنة بالأخضر والأحمر..قلت في نفسي : والله هذا مخالف للشرع أشدّ المخالفة، ولم كلّ هذه التهاويل والزخارف الباذخة ؟ إنّها الجاهليّة العاميّة تطغى على كلّ شيء .

أخذ كثير من الأساتذة والضيوف صورا للذكرى وكلهم جاؤوا لزيارة المكان زيارة سياحيّة ثقافيّة، لا لزيارة تمسح أو اعتقاد فاسد.. ولم يزد أكثرهم على أن قرأ الفاتحة عند القبر، بعدها خرجنا من المسجد لنعرج على المقبرة الصغيرة ، وكان إلى جانبنا الأستاذ نصر الدّين مصمودي مدير المركز الإسلامي ببسكرة وابن عمّ الأستاذ فوزي مصمودي ( مدير المتحف الجهوي ) والرئيس السابق للجمعيّة الخلدونيّة، فقال ( وهو يشير إلى الجهة اليمنى عند مدخل المقبرة ) هذا هو قبر حيزيّة ، وحيزيّة معروفة في المنطقة بل وفي الجزائر بكاملها وقد ماتت بعد زواجها من ابن عمّها سعيد بمدّة يسيرة ، وتغنى بمأساتها ابن قيطون الشاعر الشعبي الشهير وصديق زوجها سعيّد وحدثت القصّة في عام 1295 هـ كما أثبت الشاعر ذلك في قصيدته، وقال في مطلع هذه القصيدة:

عزوني يا ملاح في رايس لبنات       سكنت تحت اللحود ناري مقديا[2]

وتغنى بهذا الشعر أيضا كبار الفنانين الجزائريين أمثال خليفي أحمد ورابح درياسة والبار عمر وغيرهم.

كان قبر حيزيّة دارسا لا تكاد تستبين معالمه ، فقلت في نفسي: أين الجمال وأين الحبّ والعشق والغرام ، وأين من برّح به الهيام ، هذه أطلالهم وتلك قبورهم قد امحت وزالت.. ثم أشار الأستاذ نصر الدّين مرّة أخرى إلى قبر على بضعة أمتار من قبر حيزيّة وقال: هناك قبر فرحات بن سعيّد حليفة الأمير عبد القادر في الصحراء ، هذا الرّجل الذي كان لا يستطيع أن يواجهه في المعركة أقلّ من مئة فارس ، والذي قتل غيلة وغدرا..وكتب على قبره ( هذا مقام المرحوم فرحات بن سعيّد 1786 – 1842 م شيخ عرب وخليفة الأمير عبد القادر).

وخرجنا من المقبرة لنتجه إلى الحافلة وتواصل القافلة رحلتها عائدة إلى أولاد جلال، لزيارة الزاوية المختاريّة والتي أسّسها الصالح بن المختار، وتفرعت عنها ما يقارب العشرة زوايا في ما بعد..أهمها زاوية الهامل بالأغواط.

وعند مدخل الزاوية المختاريّة في البلدة القديمة لأولاد الجلال وجدنا شيخها ( الشاب ) الذي تولّى مقاليد الزاوية بعد وفاة أبيه ومجموعة من رجالاتها في انتظارنا وقد استقبلونا بحفاوة بالغة ، وأعطيت لنا في المدخل ورقة كبيرة مصورة عن جريدة ( بسكرة نيوز ) كتب فيها تاريخ الزاوية وحديث عن شيوخها وبعض نشاطاتها.

وسارعوا بإدخالنا إلى ساحة المسجد فقابلنا شيخ وقور جالس على كرسيّ ، سأل عن الأستاذ فوزي مصمودي فقيل له أنّه لم يحضر معنا لأنّ ابنه مريض فدعا له بالشفاء ، ثمّ دخلنا المصلّى فرأينا طلاب الزاوية متحلقين في انتظارنا، والتئم الجمع ليشكلوا حلقة كبيرة وأجلس الشيخ الوقور إلى جانب إحدى السواري على كرسي ..وقال شيخ الزاوية هذا كبيرنا وينوب عنّا في كلّ شيء.

وبدأ الشيخ بالكلام مرحبّا بوفد الجمعيّة ومتحدثا عن تاريخ الزاوية وبعض شيوخها ، ولم أكن مهتمّا كثيرا بالتصوير غير أنّي هذه المرّة ألهمني الله أن أصوّر كلمة الشيخ في      ( فيديو )، وفعلا لو لم أصورها لندمت أشدّ الندم فقد جاءت كلمة مؤثرة بليغة ، تدلّ على فصاحة صاحبها وطلاقة لسانه وغزارة علمه ، وقد دامت حوالي خمس عشرة دقيقة ..ومما ذكره فيها أنّ هذه الزاوية من أشهر وأقدم الزوايا في المنطقة ، وأنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس زارها وكذلك الشيخ البشير الإبراهيمي، وقد كان الشيخ ( المتكلم ) حاضرا، ثمّ أضاف أنّ هذه الزاوية زاوية علم ودين تعلم القرآن والفقه واللغة ، وأهلها أهل تصوّف صحيح خال من البدع والشركيّات ، وذكر أنّ شيوخ الزاوية نعتقد أنّهم من أولياء الله الصالحين ، ونحن لا نعبدهم ولا نقدّسهم ، إنما نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا.

وعندما أنهى كلمته طلبت منه إحدى الأستاذات المشاركات أن يدعو لابنها بالنجاح في شهادة البكالوريا، ترقرقت عيناه بالدموع وقال : أنا من يحتاج إلى دعائكم ..وبعد إلحاح الحاضرين رفع يديه بالدّعاء ودعا دعوة عامّة لكافة المسلمين. 

ثمّ دخلنا إلى قاعة كبيرة قدمت لنا فيها بعض الإكراميات ، تمثلت في كعك وشاي ، بعدها دعا الدّاعي للقيام على عجل حتى ندرك صلاة الجمعة بليشانة ، ونتناول الغداء في ضيافة الدكتور محمّد فرج الله  ( وهو طبيب مشهر في بسكرة مختصّ في الأمراض الباطنيّة )، والذي كان من المساهمين في تمويل الملتقى العاشر للجمعيّة ، لكن قبل مغادرة الزاوية المختاريّة لفت انتباهي أمران ، الأوّل هو عدم معرفة معظم الأساتذة المشاركين اسم الشيخ الذي ألقى فينا كلمته المؤثرة ، وقد سألت إمام الزاوية فأخبرني أنّه ليس من الأسرة المختاريّة ولكنّه من كبار شيوخ الزاوية ، واسمه الشيخ معيوف فرّاح، أمّا الأمر الثاني فهو وجود إمام للزاوية غير شيخها ، وقد قال لنا هذا الإمام أنّه لن يخطب الجمعة فيها اليوم ؛ لأنّه مدعو إلى لقاء هام في مكان آخر ، سمّاه ولم يعلق بذهني.

وعند خروجنا من الزاوية متجهين إلى الحافلة التي توقفت بعيدا عن الزاوية ، بسب ضيق الشارع المؤدي إليها قال لي الأستاذ محمّد بومدين... من مدينة آفلوا أستاذ التعليم الابتدائي له اهتمامات ثقافيّة وفكريّة متنوّعة وكنت قد تعرّفت إليه للتوّ :

-          هل رأيت ذلك الشيخ كيف كان يتكلّم .. !!

قلت: نعم والله كنت سأحدثك في الأمر نفسه.. إنّ فصاحته وبلاغته مدهشة ، كيف لا نرى أمثال هؤلاء الشيوخ في قنواتنا التلفزيّة ، ولا يعرضون علينا غير العيي والمتعتع.. !!

ثمّ سألني : ماذا فعلتم في انتخابات[3] الخدمات الاجتماعيّة الخاصة بقطاع التربيّة ، ماذا اخترتم ؟ الوثيقة رقم واحد أم الوثيقة رقم 2 ؟

فقلت ( وكأنّ الأمر بديهي بالنسبة إليّ ): الوثيقة رقم واحد بطبيعة الحال، وأضفت قائلا: وكنت مرشحا وفزت بأغلبيّة الأصوات.

فابتسم وقال لي : نحن أيضا اخترنا الوثيقة رقم واحد ، وأنا أيضا كنت مرشحا وفزت.

وصار الحوار وديّا ورائعا ، بما توافقنا عليه من أشياء كثيرة.

كان سائق الحافلة يسابق الرّيح وهو يحاول الوصول بنا إلى ليشانة في الوقت المحدّد قبل صلاة الجمعة ..وبدأ بعض المشاركين يطلق الفتاوى للخروج من المأزق ، قال: أحدهم نحن في سفر تجاوزت مسافته المئة كيلومتر وبذلك سقطت عنّا صلاة الجمعة ، وقال آخر لقد تجاوز عددنا اثني عشر والإمام معنا، ( وأشار إلى شاب لطيف يتقد ذكاء وحيويّة وتطبع كلامه النكت الظريفة ، وكان إماما خطيبا من قالمة )، والصحراء واسعة نصلّي حيث شئنا.

فقلت : ذلك على غير مذهب الإمام مالك..فقال أحد الجالسين إلى جانبي: ولم ؟ قلت لأنّ الإمام مالكا يشترط الإقامة للجمعة ، فلا تصحّ لمسافرين أو إمام غير مقيم أو مسجد غير قارّ.

وكان نقاشا فقهيّا ظريفا لم ينته حتى دخلنا مشارف ( ليشانة ) ، وكان المؤذن قد رفع صوته معلنا عن الصلاة ، فقال الأستاذ قويدري هذا الأذان الأوّل ما زال في الأمر فسحة، فردّ عليه أستاذ آخر : بل هو الأذان الثاني فالساعة الواحدة وعشر دقائق ، فقال لا بأس أدركنا الخطبّة.  

صلينا الجمعية في ليشانة وكان إمام المسجد خطيبا شابا مفوّها، صاحب صوت جهوري .. وما كادت تقضى الصلاة حتى تنادينا إلى الحافلة مجدّدا فلما استرخينا على مقاعدنا أراد الأستاذ قويدري أن يداعب الإمام الشاب الذي من مدينة قالمة وأظنّ أنّ اسمه كان بلالا  فقال له : لم كنت تصلي والإمام يخطب ؟

فقال : لا ما صليت والإمام يخطب وإنما كنت واقفا ، بسبب ازدحام المسجد ولم يكن لي خيار غير الوقوف..

وكانت دعابة فتح بسببها حوار ظريف آخر حول الاختلافات المذهبيّة وأثرها على وحدة المجتمع..

وأخيرا وقفت بنا الحافلة أمام بيت الدكتور محمّد فرج الله وقد بلغ بنا الجوع مبلغه ، فأدخلنا إلى قاعة فسيحة حسنة الأثاث ، جيّدة الفرش كما يقول الرّحالة القدامى ، إلا أنّ ذلك لم يكن ليهمنا كثيرا إزاء قصاع الشخشوخة التي كنّا ننتظرها بشوق ولهفة، وجاء الدكتور محمد فرج الله ووقف بباب الصالة.. ولعلّه لاحظ ما بنا من جوع فقال: اصبروا ..

ولقد كنّا صابرين من قبل ومن بعد ولله الحمد .. !!

وجاءت القصاع وأيّ قصاع .. !! اجتمع على القصعة الواحدة ( التي بين يدي ) أكثر من اثني عشر شخصا ، ولم يقووا – رغم جوعهم – على الإغارة إلا على أطرافها .. ووددنا لو أقيمت حول هذه المأدبة الدسمة، مأدبة أخرى أدسم للعلم والفكر والحوار الثقافي الثريّ.. غير أنّ الوقت لم يسعفنا، ورحلتنا ما تزال في منتصفها فخرجنا من بيت الدكتور فرج الله ميممين ضريح الشيخ محمّد بن عزوز البرجي دفين برج بن عزوز.

وصلنا إلى المسجد بعد الصلاة مباشرة ووجدنا النّاس خارجين منه، فصلينا فرادى وكنّا هذه المرّة أيضا على عجلة من أمرنا نسابق الزمن ، حتى نصل إلى الزاوية العثمانيّة آخر المحطّات وأهمها ، وكان شيخها في انتظارنا وطال به ذلك وهو شيخ كبير يتعبه طول الانتظار، وما إن خرجنا من مسجد محمّد بن عزوز البرجي حتى وجدنا الموائد قد صفّت وعليها التمر والحليب، فتناولنا منه الشيء اليسير ثمّ اتجهنا إلى ضريح محمّد بن عزوز البرجي لإلقاء نظرة عليه هذا العالم الفذ في زمن انحسر فيه العلم وقلّ العلماء.

وعندما خرجنا إلى باحة المسجد مرّة أخرى تحلقنا حول الأستاذ محمّد قويدري ، الذي هو ابن المنطقة والخبير بها فألقى فينا كلمة حول شخصيّة الشيخ محمّد بن عزوز البرجي وطريقته ( الطريقة الرحمانيّة ) وفصّل في دورها الجهادي ومقاومة المستعمر الفرنسي.

ومن أهمّ ما استدلّ به على صحّة هذه الطريقة وسنيتها قوله: قال :سيدي عبد الرحمن الأخضري لا يمكن أن يكون الصوفيّ صوفيّا حقا إلا إذا كان عالما أو فقيها.

بعد هذه الكلمة الرائعة - وكلّ كلمات وتدخلات الأستاذ محمّد قويدري رائعة ومتميّزة ، تجد فيها غزارة العلم ودقة المعلومات - بعدها اتجهت القافلة ميمّمة شطر الزاوية العثمانيّة ، والزاوية العثمانيّة التي تأسّت عام 1780 م لها هيبة وحبّ كبير في قلوبنا ، ولعلّ ذلك من تأثير شخصيّة شيخها الشيخ عبد القادر عثماني ، الذي يأسرنا دائما بتواضعه وكرمه الجم ، ولعلّه يصدق فيه قول الشاعر :

يغضي حياء ويغضى من مهابته      فما يكلّم إلا حين يبتسم[4]

كان الشيخ في انتظارنا كعادته في ساحة الزاوية الفسيحة بلباسه الأبيض الناصع وقامته الفارعة ، في وجهه سمت الإيمان وإغضاءة الحياء ..

لم أقبل رأس شيخ من قبل ولا تميل نفسي إلى ذلك ، وحتى في المرّة الأولى التي زرت فيها الزاوية ( في رحلة سابقة للخلدونيّة ) لم أقبل رأسه ، لكن هذه المرّة وجدتني مدفوعا بعاطفة الحبّ والإكبار فسلمت عليه ثمّ قبلت رأسه، ولم أر أحدا من الأساتذة والشيوخ إلا وقد قبّل رأسه ، عرفانا وإجلالا لهذا الرجل العظيم بالعلم والخلق الرفيع والأيادي البيضاء التي له ولأسرته ، في ميدان التربيّة والتعليم والدعوة والإرشاد، من غير طمع ولا تطلّع لدنيا زائلة ، ويكفي أنّهم كتبوا في مدخل الزاوية أنّ الزاوية لا تقبل الهدايا ولا الهبات لا من الأشخاص ولا من الحكومة أو الهيئات، واكتفت بما تدرّه عليها أوقافها.

كانت الزاوية مختلفة تماما عن بقيّة الزوايا الأخرى، باحتها فسيحة جدا صممت على الطراز الحديث وانتشرت بها الأزهار والأشجار الجميلة في أحسن تنسيق..قادنا الشيخ أوّل ما قادنا إلى مكتبة الزاوية النّادرة المليئة بالمخطوطات التي لم يطبع كثير منها ، ولعلّ نسخه محدودة ومعدودة في العالم العربي والإسلامي، واقترح أحد الإخوة أن يدخل الأساتذة والضيوف فقط تفاديا للزحام ، وبقي جلّ أعضاء الجمعيّة خارج المكتبة ، إلا أنّ الإغراء كان كبيرا والشوق لرؤية المخطوطات والكتب القديمة فوق الاحتمال ؛ فتسللنا الواحد تلو الآخر.

والتفّ الجمع - بعد جولة قصيرة في المكتبة – حول الشيخ عبد القادر ليحدّثنا عن المكتبة ومخطوطاتها ومما قاله : إنّ كثرين يخطئون حين يظنّون أنّ هذه المكتبة هي ملك للزاوية، إنّما هي مكتبة العائلة وقد أسّسها والدي رحمه الله من حرّ ماله ، وبذل في سبيل اقتناء كتبها الغالي والنفيس حتى أنّه لما كان يسمع بكتاب نادر أو مهم في أيّ بلد عربي أو إسلامي يسافر من أجل شرائه ، مهما بذل في ذلك من مال أو ناله من مشقة وتعب.

وبعدما أنهى الشيخ عبد القادر عثماني كلمته التقطت لنا معه بعض الصور للذكرى ، ثمّ دعينا إلى جلسة شاي وكعك في مضيفته الفسيحة بالطابق الأوّل من الزاوية، وكانت جلسة متميزة ، دارت فيها أحاديث وحوارات شتى حول التاريخ والثقافة والفكر.. وكان من الذين تحدّثوا بالمناسبة الأستاذ فوزي مصمودي الذي شكر شيخ الزاوية والقائمين عليها ، وقال أنّ الخلدونيّة بعد كلّ ملتقى أو زيارة للمنطقة لا يمكن أن تختم جولتها دون زيارة الزاوية العثمانيّة..

كما تحدّث رئيس وفد أدرار ( نجاري الصّديق ) - وهو شيخ شاب إمام أستاذ بورقلة -  فشكر الجمعيّة الخلدونيّة وكذلك الزاوية العثمانيّة وشيخها الذي استقبلنا بحفاوة وترحاب، ثمّ طلب من الحاضرين أن لهم ( أي وفد أدرار ) بأن يوفقوا في تأسيس الزاوية النجاريّة ببلديّة سالي ولاية أدرار ، وقبل أن نخرج من مضيفة الزاوية تبادلت الهواتف مع مجموعة من الأساتذة والمشاركين ومن بينهم أعضاء وفد أدرار، على أمل التواصل وتقويّة الروابط والصلات بيننا.

وخرجنا من الزاوية العثمانيّة ونحن لا نريد مغادرتها وكان الشيخ في توديعنا ، ووقف أمام مدخل الزاوية رغم كبر سنّه وضعفه إلى أن غادرت الحافلة ..وعدنا إلى بسكرة بهبوط الظلام ، ودخلناها وهي تشع بأنوار الكهرباء ..وأنوار أخرى من الفكر والثقافة والتاريخ والذكريّات الطيبة تشع بقلوبنا وعقلونا..

                

[1]  - الزاب الغربي هو كلّ البلديات التي تقع  في الجهة الغربيّة من ولاية بسكرة ( الجزائر )  ، ومن أراد مزيدا من الفائدة عليه بالرجوع إلى دراسة الأستاذ فوزي مصمودي ( الزاب المصطلح والدلالات ).

[2]  - مقديا : مشتعلة

[3]  - طرحت وزارة التربية بالجزائر مؤخرا استفتاء حول كيفيّة تسيير الخدمات الاجتماعيّة لقطاع التربيّة ( الوثيقة رقم 1 تقضي بتسييرها مركزيا، والوثيقة رقم 02 تقضي بالتسيير المحلّي على مستوى الثناويات والمتوسّطات  ) وكان رأي النقابات الحرّة مع الوثيقة رقم 1 .

[4]  - البيت للفرزق في مدح زين العابدين علي بن الحسين.