من أسرار الحياة 60

التسامي شخصي والتعاطف مجتمعي

الذّات قبل المجتمعات

د. خالد السيفي

أما إذا استطعت نسج غيمة التأمل خاصّتك، وبلغت مدارج التسامي والنقاء، وإذا حققت البراءة والطهارة والصفاء، فانك مدعو لمعرفة ما يأتي بعد ذلك. يجب أن تفهم أن ما يأتي بعد التّأمل والتّسامي هو التّعاطف.

الأول: التسامي هو شأن شخصي.

الثاني: التّعاطف شأن مجتمعي.

التسامي هو الخطوة الأولى، والتعاطف هو الخطوة الثانية.

التأمل أو التسامي حيوي للذات الشخصية لتطويرها وصقلها وتمتينها.

التعاطف يخصّ الآخر وأساسي لعلاقتك مع محيطك وتفاعلك فيه وتعاونك معه.

بعض المتأمّلين يقعون في أسْر الأنانية، فلذّة التسامي قد تنسيهم دعوة الآخرين إليه ومشاركتهم فيه، فيصبح تأمّلهم مُرّا. هذا شرك، أحذّركم من هذه المصيدة. لا تحتكر التأمّل بل تشارك فيه مع الآخرين.

إيّاكم والتّملُّك لأنه تَعلُّق، وعندما تَتَعلّق تعْلَق.

 إيّاكم والتّملّك لأنك بعده تُستملَك له، فتُستهلَك فتهلَك.

أرجوكم لا تحتكروه فيفسد ويصبح كريها. فمَنِ احتكر اعتزل، ومن اعتزل لم يشارك، ومن لم يشارك اختزن فاكتنز، ومن اكتنز رَكَد، ومن ركد تعفّن، والعفَن موت.

لا تحتكر شيئا أبدا فتصبح بخيلا جشعا بليدا، وفي اللحظة التي تحصُل عليه تخلَّ عنه، فيتعاظم كسبك منه وتحصيلك له. وكلّما زدت في العطاء وسّعت المكان وأخليت المجال للمنال. هنا يصبح كل شيء بهيجا لذيذا.

التعاطف ليس العطف. فمحرِّك العطف الشفقة، ومادته النفقة، ودالته الاستجداء وأُسّه الرثاء على الآخر.

أمّا التعاطف فمبني على المساواة لا المحاباة، وعلى الأفقية لا الفوقية، لا فيه استجداء ولا رجاء ولا استعلاء. عماده الندّية بدل الدونية. التعاطف تبادلية لا اتكالية، إيثار لا استئثار.

التعاطف مؤازرة لا مشاجرة، وصال لا انفصال، اختيار لا إجبار، وإسناد لا إبعاد. هو وفاق لا فراق، والتقاء لا انطواء، فيه وُدٌ لا حَدٌ. انه تدعيم وتقيّيم وتقويم لا تحطيم. التعاطف تجميع لا توزيع، انه تأصيل لا استئصال، ودعوة بناء لا فناء، يكون للآخر نصر وجبر لا كسر. هذا هو التعاطف المخالف للعطف جملة وتفصيلا.

التعاطف يدعو إلى الفردانية مع الاجتماع، لا إلى الفردية الأنانية خارج الإجماع. ويصبو إلى الاستقلال مع الجماعة لا إلى الاستقالة والقوقعة. التعاطف موضوعه إبداعي جماعي لا تغرّب سلبي وغيابي.

كل شيء في حقيقته رائعا وما علينا إلا اكتشاف معادلة التّحوّل الصحيحة، ألا وهي التأمّل والتعاطف أو الذات قبل المجتمعات.