كنت في عمان

جميل السلحوت

[email protected]

لا يعرف معنى الحرية الا من خبر العبودية والظلم، ولا عبودية  أسوأ من ان تعيش تحت احتلال بغيض، يسرق وطنك ويستعبدك وشعبك، فيقتل من يقتل ويجرح من يجرح، ويحاصر ويصادر ويبني جدرانا توسعية، ويسجن ويهجر...الخ.

وأنا أعاني من ذل الاحتلال منذ وقوعي ووطني تحت براثنه منذ الخامس من حزيران 1967 والذي يصادف لسوء حظي تاريخ ميلادي، فقد ولدت في مثل ذلك اليوم الأسود من العام 1949

ففطمت على ويلات أورثتني ويلات أخر، ليس أقلها تقرحات جهازي الهضمي.

أقول هذا وأنا أستذكر سنوات ما قبل الاحتلال عندما كنا نصل عمان من القدس في حوالي الساعة،وأصبحنا بفعل جبروت وظلم الاحتلال نحتاج يوما كاملا للوصول اليها، نمر حواجز عسكرية وتفتيشات"أمنية" قد تصل ووصلت سابقا درجة التعري، وتحسس ما بين الفخذين قبلا ودبرا، والحواجز العسكرية -خصوصا تلك المحاذية للنهر من الجهة الغربية- قد تغلق لدقائق أو لساعات دون سابق انذار، ليبقى المسافر يتلظي تحت لهيب الشمس الحارقة صيفا في اكثر منطقة منخفضة في الكرة الأرضية، لهيب شمس يرهق الشباب، فما بالكم بمن تجاوز الستين من عمره مثلي، ترى أطفالا رضعا وفي أعمار مختلفة ممدين في أحضان أحد والديهم، أو على أحد مقاعد الباص، هذا يطلب ماء، وذلك يصرخ ضيقا، وترى امرأة حاملا أو عجوزا هرمة وقد مدت رأسها على المقعد لا تقوى على شيء، تحمل العجوز سبحتها، تحرك خرزاتها، تسبح بحمد ربها، وتحوقل، وتلعن الاحتلال و"اليوم اللي شفناه فيه" فتنهرها عجوز أخرى قائلة"وحدي الله يا حجّه..بلاش يسمعوك ويردونا، والله اللي اكثر من عشر سنين ما شفت بنتي ولا شفت اولادها" والمشكلة في الباص المتوقف لا تكمن في صياح طفل يريد أن يقضي حاجته، فقد يقضيها في ملابسه أو أمام الآخرين، لكنها في هدر كرامة عجوز أو مريض يعاني أو تعاني من سلس البول، فتراه يتقلب ضيقا وذرعا داعيا الله أن يصبره حتى يصل الجانب الشرقي للنهر ليجد مكانا يقضي حاجته فيه، فهو بعيد عن مكاتب الجسور حيث دورات المياه، وترى أفواها عطشى  يلوك لسان صاحبها شفتيه بشكل عفوي ليطرد الجفاف عنهما، وتنطلق الشتائم من أفواه عجائز يلعنون فيها القادة العرب الذين تركونا تحت احتلال أهلك البشر والشجر والحجر، وتسمع عجوزا تقول لجارتها في المقعد بحسرة"والله يا خيتي خايفه أموت وأنا في بلاد وولادي في بلاد ثانيه" فترد عليها جارتها "توكلي على الله يا خيتي، انشا الله بنقلعوا من بلادنا قبل ما تموتي وبيرجعوا اولادك إلك، بس قولي يا خيتي بدون مواخذه ليش ما تظلي عند اولادك تايفرجها ربنا؟" فترد عليها:"يا ريتني ما سمعت هالحكي منك، وين بدّي أدشر الدار والأرض اذا رحت عند الولاد؟ أي ما هي الأرض أغلى من الولاد يا خيتي" ....يتحرك الباص بعد ان يفتح الجندي الحاجز، يسير شرقا،تشرئب الأعناق تنظر الى النهر الذي جفت مياهه، فالنهر لم يعد نهرا بعد أن تم سحب مياهه الى طبريا، ومن هناك الى النقب، ولتتحول آلاف الدونمات على ضفتي النهر الى صحراء قاحلة، بعد أن كانت مزروعة بالخضار والفواكه المروية، ولتتذكر مدى انحسار مياه البحر الذي يتهدده الجفاف بعد ان انقطعت عنه مياه النهر التي كانت تعوضه عن الكميات الهائلة التي تتبخر في الجوّ، وتتساءل اذا ما كان البحر الميت منكوبا كشعبك؟ وهو البحيرة الوحيدة الأكثر ملوحة في العالم، والتي يطفو الانسان على سطحها كيفما شاء ودون معرفة في السباحة، يسير الباص وهمومك اكبر من بحيرة مصيرها الجفاف حتما، اذا لم يسارع ذوو الشأن في انقاذها قبل فوات الأوان،... ترى العلم الأردني يرفرف أمامك، فيصفق له قلبك قبل يديك، فهو صنو العلم الفلسطيني وشبيهه، بل يزيد عليه بنجمة تتوسط مثلثه الأحمر...يبتسم لك الجنود ورجال الأمن الأردنيون، فتفرح بهم وقد يكون أحدهم قريبك الذي لا تعرفه، فأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الأردن منذ النكبة الكبرى في العام 1948والهزيمة الكبرى في حزيران 1967، وهم يعيشون كمواطنين كاملي الحقوق، وهذا ما لا يحظى به اللاجئون الفلسطينيون في الدول العربية الشقيقة الأخرى، خصوصا في لبنان حيث يعاني الفلسطينيون معاناة كبيرة، بحجة عدم التوطين،أما في العراق بعد الاحتلال فقد تعرضوا للقتل والنهب والاغتصاب على أيدي اللصوص والسراق ودعاة الطائفية المذهبية الذين عادوا على ظهور دبابات الجيوش المحتلة، كما أن العلاقة  الأخوية بين الشعبين قائمة منذ فجر التاريخ، فالمصاهرة وحتى التملك من قبل أبناء القطرين متواصلة عبر أجيال، فالشعب واحد والأمة واحدة والأرض واحدة، والاقليمية من صنع الاستعمار...تتم اجراءات الجسور في الجانب الأردني بشكل سريع جدا، تنهي معاملتك وتخرج لتجد أحد أقاربك –ان كان لك أقارب في الأردن- بانتظارك، ينتظرك وقد عانى ما عانيت من انتظار تحت لهيب شمس حارقة، فمنطقة المظلات لا تكفي لتظليل عابري الجسر، لكنك فرح بلقاء قريب وبخلاص -ولو بشكل مؤقت- من سطوة محتل لم يحفظ يوما كرامتك، فيدب النشاط في جسدك الذي وهن، ويصيبك اكتائب وأنت تنظر الى وطنك خلفك مكبلا بقيود الاحتلال..

 عبرت الجسر الى عمان يوم الأحد 12-9-2010 ثالث أيام عيد رمضان المبارك، لحضور خطبة ابن أخي، كان أخي طه وابنه في استقبالي على الجسر، كان أخي قد ترك ابنه في الخارج ليراقب مجيئي، وخوفا من أن نضيع عن بعضنا، مررت بابن أخي، رآني ورأيته ولم يعرف أحدنا الآخر، وبحثت عن ابيه فالتقينا وعرفني على ابنه، مما زاد أحزاني حزنا آخر، يا الهي!!

ماذا فعلت بنا الأيام والسنون؟ من يصدق أنني مسافر الى عمان لحضور خطبة ابن أخي فلم يعرفني ولم أعرفه؟ فأين دعاة حقوق الانسان؟ وأين الرأي العام العالمي -الذي يتكلمون عنه-

والذي يسكت على الاحتلال كل هذه العقود، التي عشناها ثانية ثانية، ودقيقة دقيقة لترتسم عذابات على أجسادنا، التي سيواريها التراب في قادم الأيام، والتي لن تكون آمنة فقد تتعرض عظامنا الى التجريف، كما تعرضت عظام آبائنا وأجدادنا في مقبرة مأمن الله في القدس، وفي مئات المقابر غيرها؟ استقلينا السيارة ...جلست بجانب أخي مذهولا وواصلنا المسير الى عمان من طريق وادي شعيب فبعد دقائق سنستنير بنور عمان،وسنهتدي بهدي أهلها الطيبين، وسيهمس نسيمها العليل همسات تبعث الدفء في القلوب.

في الطريق الى عمان:

مررنا ببلدة الكرامة، وكان حال قناة الغور الشرقية أسوأ بكثير من حال البحر الميت، أما قناة الغور الشرقية فقد جفت منذ سنوات طويلة، وتشققت جدرانها وأرضيتها ونمت فيها الأعشاب والأشواك، ولم تعد تلك القناة التي حذرنا المعلمون من مدّ أرجلنا فيها خوفا من أن تجرفنا، مثلما جرفت عددا من أطفال وصبيان المنطقة، عندما مررنا بها أثناء رحلة مدرسية في العام 1966، زرنا خلالها جرش واربد وأم قيس والحمّة التي كدت أغرق فيها لولا حذاقة سبّاح لبناني كان يستجم في الفندق الصغير المقام بجانب البركة التي حول رأس النبع، وعدنا لننام ليلتنا الأولى في حرم دار المعلمين في عجلون، وصعدنا الى قلعة الربض حيث يستطيع زائروها رؤية القدس الشريف جنة السماوات والأرض، ثم زرنا الكرك ومعان وانتهى بنا مطاف اليوم الثاني في مدرسة وادي النبي موسى عند مدخل المدينة الوردية-البتراء- وفي الطريق الصحراوي بين عمان ومعان تعطل بنا الباص بعد ساعات الظهر بقليل، فانتشرنا في الشارع نتسابق بصبيانية متناهية ملوحين لسيارات الشحن التي تنقل البضائع كي يزودوننا بمياه الشرب، وكان في المنطقة قطيع جمال، من ضمنه ناقة في رقبتها رسن، أمسكتها به وأنختها، وطلبت من زميلي الذي كان برفقتي أن يمتطيها لأصوره على ظهرها، وقبل اكتمال وقوفها خاف وصرخ وسقط على وجهه الذي تهشم وسالت منه الدماء، فعجبت من ذلك لأن شيوخ بلدتنا كانوا يروون لنا أن من يقع من على ظهر جمل، لن يلحق به أيّ أذى لأن الجمال تبسمل عندما يقع شخص ما من على ظهرها، ولمأ سألت جدتي عن  اصابتنا عندما نقع ونحن نلعب قربها مع أنها تبسمل لم تجبني ونهرتني، وغضبت مني عندما قلت لها أن الله –سبحانه وتعالى- يستجيب لبسملة الجمل أكثر من بسملتها، لكنني امتطيت الناقة فوقفت بي،  ففرحت بذلك رغم الجراح النازفة من وجه زميلي، وفي هذه الأثناء مرت بنا سيارة مكشوفة فيها شاب بلباس البحر، فرفعت يدي لسائقها كي يتوقف فوقف، فسألني عن حاجتي وعن سبب وجودي وزميلي في هذا المكان، فشرحنا له بأننا طلبة في رحلة مدرسية، وأشرنا له الى باص الرحلة الذي ابتعدنا عنه أكثر من كيلو متر، زودنا بماء بارد من قربة، وطلب منا أن نركب في سيارته ليعيدنا الى معلمينا وباصنا المعطوب، وكنت مركزا نظري على وجهه، فسألني هل تعرفني؟ فأجبت: نعم انك الأمير حسن، فرد باسما لا... أنا الأمير محمد، وعند الباص تحدث مع مدير المدرسة و مع المعلمين سائلا إياهم عما سيفعلونه، فأخبره المدير بأنه بعث معلما مع سائق شاحنة ليأتي بميكانيكي من عمان لاصلاح الباص المعطوب، فسأله الأمير: واذا جاء متأخرا وبقي هؤلاء الأولاد هنا فمن يضمن أن لا تفترسهم الذئاب؟ وقال للمدير سأرسل لكم باصا، ويبدو انه كان بحوزته جهاز ارسال حيث وصلنا باص سياحي جديد وواسع قياسا بباصنا، وفي فترة قصيرة جدا، أي قبل وصول الأمير الى عمان، وكانت تكاليف رحلتنا على حساب الأمير الذي كان وحيدا وبدون حراسة.

 رثيت لمزارعي الأغوار الذين يفتقدون مياه قناة الغور التي حولها الأسرائيليون من اليرموك قبل أن تصل الى القناة، وعند مدخل وادي شعيب الغربي، هناك سدّ فيه بقايا مياه رأيت قطعانا من الغنم ترتادها للشرب، ووادي شعيب هذا فيه مياه جارية وهي أشبه ما تكون بقناة صغيرة جدا يستطيع طفل تخطيها دون ازعاج أو خوف، والوادي الذي يمتد باتجاه مدينة السلط التاريخية، واد سحيق يحيط به جبلان شاهقان وشديدا الوعورة، وبجانب الشارع قرب السيل صخور شاهقة مشققة وقابلة للانهيار، و أهل المنطقة استغلوا الأرض المحاذية للسيل لزراعة الأشجار المثمرة مثل الرمان والتين والعنب والتوت وغيرها، كما أن البعض أقام مزرعة وبيتا للتنزه هناك، والمنعطفات كثيرة وحادة في الوادي، تمتعنا بالمناظر الجميلة ومررنا من طرف السلط الجنوبي، وواصلنا الصعود باتجاه مدينة صويلح، وعند المرتفعات أخذت"الموبايل" من أخي، واتصلت بزميلة شاعرة، كنت قد قرأت بعضا من كتاباتها لكن لم يسبق أن قابلتها، اتصلت وأنا متردد خوفا من الاحراج، وعندما ردت كان صوتها رنانا وعذبا،فهمست لها محييا على استحياء، وذكرت لها اسمي، فرحبت بي هي الأخرى  بلهجة تنبئ عن صدقها وطيب معدنها، وثقتها العالية بنفسها، فقد سبق وأن قرأت هي الأخرى شيئا من كتاباتي، واتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي.

نور في عمان:

في بيت أخي في تلاع العلي  في عمان تناولنا طعام الغداء ونحن نستعيد الذكريات عن زمان مضى، في وطننا المحتل، سألني وزوجته عن الأقارب وعن أبناء بلدتنا، والعجيب أن الأسئلة الأولى هي عمّن مات وعمّن بقي حيّا، فهل هو الخوف من الموت أم من الفراق الذي طال؟ وفي الواقع فانني لا أعرف الجواب، ثم انهالت الأسئلة عمن تزوج من أبناء العائلة وكم خلف من البنين والبنات؟ وما هي أسماؤهم؟ وكم سنة بلغوا من العمر؟ ثم يأتي السؤال عن عمل فلان وفلانة، فماذا يعمل كل واحد منهم؟ وما هو تحصيلهم العلمي؟ كان خبر وفاة(صاحبي) الصغير وقريبي الطفل عبد الحيّ موسى السلحوت صدمة لمن سمعوا به من الأقارب، مع أن أحدا منهم لم يشاهده ولم يعرفه، ويبدو أن سقوطه على رأسه من علو مرتفع ووفاته كانت مفاجأة محزنة عن طفل لم يكمل ثلاثة أعوام ونصف من عمره، وعندما هاتفتني عمّته سعاد المتزوجة والمقيمة في عمان تستفسر عن والدتها واخوانها لم أخبرها بالخبر المفجع.

 أمضينا ليلنا نتسامر ...نستعيد ذكريات محفورة في الذاكرة ...هم يسألون عن الأهل في الديار، وأنا أسأل عن الأقارب في أرض الشتات...انها حكاية الفلسطيني المؤلمة، سألوني عن ابن عمّي رائد صالح السلحوت، وحيد والديه الذي أمضى ثماني سنوات في الأسر من أربعة عشر عاما هي مدة محكوميته، وأخبرتهم عن تحرير محمد سليمان ابن عمه بعد أن أمضى مدة محكوميته البالغة ثماني سنوات، كما أخبرتهم عن وفاة والد رائد في آذار-مارس- الماضي دون أن يتمكن من رؤية ابنه الوحيد، لقد أسلم روحه لباريها وهو يردد " رائد...وين رائد...يغيب عن الوعي ...ويصحو...يقلب نظره فيمن حوله وكأنني به يبحث عن وجه رائد" قضى نحبه دون أن يرى وحيده وفلذة كبده منذ ثماني سنوات، فقد منعه المرض حتى من زيارته، فرحمك الله يا أبا رائد، وفك الله أسرك يا رائد، واللعنة على الاحتلال الذي فرق بين المرء وبنيه. عند الثالثة صباحا استأذنتهم لأنام...حاولوا استبقائي ساهرا معهم، فيبدو أن شجون الحديث قد استهوتهم وأبعدت النعاس عن عيونهم، لكنني لم أستجب لطلبهم، فدخلت الغرفة التي خصصوها لنومي، أغلقت الباب خلفي، وخرجت الى البرندة التي أمامها، أشعلت سيجارة، وشرعت أمعن النظر في الأضواء التي تنير الشوارع أو يتسلل نورها من نوافذ البيوت، نظرت الى كل الاتجاهات، وكأنني أشبع ناظري من أمكنة لم أعرفها من قبل...عدت الى السرير...استلقيت على ظهري ...مددت نظري من النافذة ...لكن هذه المرّة الى السماء، فقد هجرني النوم...وعندما انطلق صوت أذان الفجر من المسجد المجاور غفوت  دون أن أتدثر بأي شيء، فقد كان الجوّ حارا جدا.

استيقظت قبل الثامنة صباحا، تقلبت في فراشي، خرجت من غرفة النوم الى الصالون، لا أحد في البيت مستيقظ غيري، تمنيت فنجان قهوة، دخلت المطبخ نظرت لعلي أعثر على البنّ لأعد قهوتي، فلم أجد شيئا، ولم أحاول العبث بحثا في المطبخ، خوفا من خروج صوت أو ضجيج قد يوقظ النائمين، فعدت الى البرندة اللصيقة بغرفة نومي، جلست أنفث سجائري وأتجول بنظري في الأماكن التي أشاهدها ولا أعرف أسماءها، لم أجد كتابا أطالعه، فأخي وزوجته وأبناؤهما لا اهتمامات ثقافية لهم، الوالدان يتنقلان بين عمان وأمريكا، في حين يعيش الأبناء ويعملون في أمريكا، وتحديدا في مدينة ميامي  ذات الشاطئ الساحر والجزر الصغيرة الخلابة التي تنتشرفي الأطلسي قبالة المدينة، وهنا تذكرت المرحوم كمال ابن أخي الأكبر محمد والذي توفي في كانون أول –ديسمبر- 2008 عن عمر يناهز الخمسين عاما في بورتوريكو، تلك الجزيرة الجميلة الواقعة في البحر الكاريبي والمشهورة بجزيرة الضفادع لكثرة ضفادعها، مات هناك ودفن هناك حيث عاش ومات غريبا، ولم يتمكن والداه من اعادة جثمانه ليدفن في جبل المكبر-القدس مسقط رأسه، ولم يتمكنا أيضا من دفنه في عمان، لأن الدوائر الرسمية كانت في اجازة عيد الأضحى، ولم يستطع أحد عمل الاجراءات الرسمية اللازمة للسماح بدخوله الأردن ميتا، فأورث والدته التي كانت بجانبه حزنا أصابها بجلطة دماغية، أدت بها الى شلل نصفي، لتبقى طريحة الفراش في بورتوريكو، رحماك يا رب، ما للموت يلح على ذاكرتي في عمان التي جئتها لحضور خطبة ابن أخي؟ هل هو  جزء من مأساة شعبي المشتت في أصقاع المعمورة؟ أم ماذا؟ فابن عمي موسى محمد السلحوت توفي في عين الباشا ودفن في مقبرة سحاب في الأردن، وزوجته زهية أحمد صبيح توفيت قبله ودفنت في السعودية، وقريبي وزوج ابنة عمي الأديب الراحل خليل السواحري مات في الأردن، ودفن قرب شفا بدران، وصهري المرحوم اسماعيل جوهر مات في عمان ودفن في احدى مقابرها، فهل قدر الفلسطيني أن يطرد من وطنه، وأن يعيش مشتتا في أرض اللجوء، حتى المقابر لم تعد تجمع رفات أبناء الأسرة الواحدة؟ فتبا للاحتلال وكل من يساعد الاحتلال على الاستمرار في احتلاله البغيض، فالاحتلال هو السبب في كل هذه المعاناة، ولذا فانني لا أتمنى لأي شعب أن يقع تحت احتلال، وسحقا للسراق واللصوص والمجرمين الذين يعتبرون احتلال العراق الشقيق(تحريرا)رغم سيل الدماء النازف في بلد هو مهد الحضارات.

أصبحت الساعة العاشرة صباحا ولا أنيس لي سوى علبة سجائري التي قاربت على نفاذ سجائرها، توجهت الى الصالون..وهاتفت زميلتي الشاعرة، هاتفتها على استحياء فقد خشيت أن تكون نائمة، وأن أكون سببا في ازعاجها، فلم أعد أعرف متى ينام ومتى يستيقظ أهل عمان؟ وان كنت متأكدا أن(الغلابا) من أمثالي يستيقظون مع صياح الديك على رأي والدتي العجوز، سعيا وراء رغيف الخبز الحافي على رأي الأديب المغربي الراحل محمد شكري، أو رغيف الخبز المرّ على رأي شهيدنا ماجد أبو شرار.

ما علينا جمعت شجاعتي في العاشرة من صباح الاثنين 13 ايلول الحالي واتصلت برقم زميلتي، فنور عمان في يوم قائظ يملأ الأجواء، وحرصا مني على عدم ازعاج أخي وأفراد أسرته النيام، فقد فرض الوضع عليّ أن يكون حديثي همسا، فجاء صوتها رنانا وعذبا، فتأكدت أنها يقظة، وحددت لي الساعة السابعة مساء للقائنا في بهو أحد فنادق عمان الشهيرة لعدم معرفتي لأيّ مكان، ولمّا سألتها عن كيفية معرفتنا لبعضنا البعض، أجابت ضاحكة بأنها قد رأت صورا لي، ستعرفني من خلالها، بينما وصفت لي نفسها وهي تضحك بأنها امرأة بشعة المنظر، ومن خلال بشاعتها سأعرفها...قالت لا تهتم لذلك فأنا سأهتدي اليك..فهل يعقل أن تكون صاحبة هذا الصوت الجميل بشعة حقا؟ وما نوعية هذه المرأة التي تصف نفسها بالبشاعة، فكل النساء جميلات، وهذه هي المرة الوحيدة في حياتي التي أسمع بها امرأة تصف نفسها بالبشاعة، على كل"ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلا"  فلتكن جميلة أو بشعة فهذا شأنها، وسألتقيها كزميلة كاتبة بغض النظر عن جمالها أو عدمه، انهينا المكالمة وهي تضحك وأنا مذهول على أمل اللقاء مساء.

 عمان لا تنام

استيقظ أخي وزوجته في الحادية عشرة، احتسينا القهوة العربية، وأكلت قليلا من الخبز مع قطعة جبن بلدي، لأتناول دواء تقرحات القولون التي أعاني منها، وهذا الدواء يترسب في الكليتين، مما جعلني أفتت هذه الترسبات بالليزر ثلاث عشرة مرة في العشرين عاما الماضية، وذهبنا للتجول في أسواق مدينة عمان والتسوق لشراء بعض الملابس لأبنتيّ، فما دمت في سفر يجب أن تعود بهدية، وفي عمان توأم القدس لا أشعر بالغربة مطلقا، فشعبها مضياف طيب كطيب المدينة نفسها، وعادات الأشقاء في الأردن لا تختلف عن عادات شعبنا في فلسطين، فالشعبان توأمان سياميان لا ينفصلان، لا تستطيع التفريق بين الشعبين، والاقليمية معدومة، والشعب الأردني الشقيق عيونه وقلوب أبنائه على فلسطين وشعبها، ولا غرابة في ذلك، فدماء الشهداء من الشعبين اختلطت في الدفاع عن القدس وعن كافة الأراضي الفلسطينية، وضريح شهداء الجيش العربي الأردني شامخ في الطرف الشمالي الشرقي من مقبرة باب الأسباط، على بعد أقل من مائتي متر من باحات الحرم القدسي الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتزينه الورود بشكل شبه دائم، والمصلون في معراج الرسول الأعظم يقرأون الفاتحة على أرواح من ارتقوا الى قمة المجد دفاعا عن ثرى القدس الطهور كلما مروا من هناك، فالقدس ملك لكل العرب والمسلمين، وشاء قدر الفلسطينيين أن يكونوا سدنة لمقدساتها، فلبوا النداء وحفظوا الأمانة، وكان ولا يزال الأخوة الأردنيون هم أول من هبوا ولا يزالون للذود عن القدس بشكل خاص، وعن فلسطين بشكل عام، وهم من احتضنوا اللاجئين والنازحين وقاسموهم الغذاء وعملوا على ايوائهم يوم ضاقت بهم الأرض على اتساعها.

دعانا أخي لتناول طعام الغداء سمك"المسقوف" المشوي، وطريقة شوائه على التنور، والبهارات الموضوعة عليه، لا يتقنها الا الأشقاء العراقيون، والذين توارثوها عن الآباء والأجداد، ويقدمونها على مطاعم شاطئ دجلة ومن سمكه الذين يصطادونه منه، وخصوصا في مطاعم شارع ابي نواس في بغداد الرشيد، ولما وقع عراق الحضارة تحت احتلال بربرية القرن العشرين في آذار 2002وتشرد ملايين العراقيين هربا بحياتهم، من قوات الاحتلال الغاشم، ومن تفجيرات القوى الظلامية التي تستهدف المدنيين العراقيين، وتدمر من نجا من نيران مجرمي الحروب، ارتأى بعض العراقيين أن يفتتح مطاعم في أرض اللجوء تقدم "المسقوف" والأكلات الشعبية العراقية، لكن سمك المسقوف في عمان ليس من نهر دجلة، بل هو من سمك البرك الاصطناعية، والخبز في المطعم على التنور العراقي، والسمك يشوى على التنور ايضا، أكلنا بشهية حتى التخمة، وشربنا الشاي العراقي الثقيل المميز، واستمعنا الى المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي، وهو يصدح بأغانيه التي تقدمتها أغنية:

عيرتني بالشيب وهو وقار***ليتها عيرت بما هو عار

فتحسست رأسي الأشيب، وحزنت على زمن الطرب الذي رحل عن بلاد العرب، وحلت محله أغاني الجسد الفاضحة، فهل نحن مهزومون في كل شيء في هذا الزمن الرديء؟

في المطعم سألت نادلا شابا:هل أنت عراقي أم أردني؟ فأجابني: أنا مصري يا بيه، تركنا له مبلغا مقابل خدمته، فمئات الآلاف من أشقائنا المصريين يعملون في الأردن، بحثا عن رزق العيال الذي شحت موارده في أرض الكنانة.

طاف بي أخي في شوارع عمان التي يعرفها، فمن يغيب عن عمان بضع سنين سيفاجأ عندما يعود اليها من اتساع العمران فيها، فالمدينة تتسع بشكل متسارع ولافت، كنت في عمان لبضعة ايام عام 1967 على أمل الدراسة في الجامعة الأردنية، كانت المسافة بين محطة الباصات المركزية في العبدلي ومدينة صويلح برية تزرع فيها حقول الحبوب كالقمح والشعير، لم يكن بينهما سوى الجامعة الأردنية ومستشفى، أما الآن فانه لا يوجد شبر بدون بناء حديث، حتى أن صويلح أصبحت أحد أحياء عمان الكبرى، واللافت هو هجرة أبناء الريف والبادية الى عمان، فأكثر من نصف مواطني المملكة هم من سكان عمان، وهذا بالطبع على حساب الأراضي الزراعية، وعلى حساب حياة التمدن في العاصمة، ويلاحظ أن الحياة انبعثت في الأحياء الجديدة من خلال المحلات التجارية و"المولات" الضخمة القائمة على الطراز الأوروبي والأمريكي، وهذا بالطبع على حساب أسواق المدينة القديمة، التي أغلق بعضها أبوابه لأنه لم يعد لها جدوى اقتصادية، وفي شوارع وأسواق عمان  تنتشر المحلات التجارية التي تحوي مختلف البضائع متعددة المصادر الانتاجية، وفيها المطاعم الشعبية وتلك الحديثة، والمقاهي التي تحرص على وجود جزء مكشوف منها قرب الرصيف لمدخني الأرجيلة، والذين يضيقون ذرعا بالأماكن الضيقة، الحياة صاخبة في شوارع عمان، والازدحام المروري كبير رغم اتساع الشوارع وتنظيمها، حتى أنك تظن أن كل مواطن في عمان يملك سيارة، لكثرة السيارات في الشوارع، ولتلافي الحوادث فقد عمدت البلدية الى عمل جسور فوقية للمشاة، فعمان لا تنام فهي مستيقظة دائما، جميلة أنت يا عمان، وتطورك وازدهارك يقفز بخطى متسارعة، فالى الأمام والى المزيد، فشعبك يستحق الكثير الكثير من الخير الذي نتمنى أن يبقى وفيرا.

آهٍ يا عمان...فقد سلبتني وقتي فموعدي مع زميلتي الأديبة الشاعرة يقترب، وأنا انسان ألتزم بالمواعيد، لن أغادرك،..وأستأذنك كي  انتقل الى مكان آخر وسأهتدي بنورك يا عمان،  فلا بدّ من لقاء شاعرتك التي ستهمس في أذني شيئا من عبقك وعبقها،وسأهتدي الى الفندق من خلال سائق تاكسي الأجرة بعد أن افترقت عن أخي وابنه.

 مع شاعرة في عمان

 فندق الشيراتون في عمان، حديث وضخم، مدخله باتجاه الغرب، بناؤه على شكل هلال، جاست في بهو الفندق قرب المدخل الرئيس، أشعلت سيجارة في انتظار زميلتي الشاعرة التي لم تحضر بعد، لم تخلف الموعد لكنني وصلت قبل موعد اللقاء بنصف ساعة، راقبت رواد الفندق من النساء بحثا عن امرأة وصفت نفسها بأنها امرأة بشعة، تدخل الفندق امرأة سمراء، في منتصف الأربعينات من عمرها ممتلئة الجسم أنيقة، نافرة الصدر:

غراء فرعاء مصقول عوارضها***تمشي كما يمشي الوجي الوحل

هكذا وصف الأعشي "هريرة" فهل هذه المرأة هي زميلتي الشاعرة؟ وان كانت هي فلماذا وصفت نفسها بـ"بالبشعة"؟ أم هي الثقة الزائدة بالنفس؟ نظراتها تجوب بهو الفندق المصمم على شكل مدرج، وقفت أمام نادل تريد سؤاله، رفعت لها يدي على أمل أن تكون هي، فلم تكمل جملتها مع النادل، واتجهت صوبي، قبل أن تمد يدها مصافحة، قالت والبسمة تعلو محياها:أستاذ جميل؟ فقلت لها نعم أنا جميل، اقترحت أن نجلس في المقطع الثاني من بهو الفندق، فوافقتها، رحبت بي بأدب جمّ...وسط ضحكاتها التي تنطلق كخرير جدول صغير تنساب مياهه من على صخرة صلدة، فرددت عليها بحياء بأنها ضللتني عندما وصفت نفسها لي بأنها أمرأة بشعة، فكل النساء جميلات، فهل هي الثقة الزائدة بالنفس أم ماذا؟ لكنها أكدت من جديد أنها بشعة، مع انها امرأة جميلة ولافتة، وأنوثتها تنضح بكبرياء، ما علينا ان كانت جميلة أم لا، فهذا شأنها وليس شأني، فأنا أقابل المرأة الشاعرة، وليس المرأة الفاتنة، وهي امرأة متزوجة وأمّ لأربعة، ترددت في الحديث معها، فأنا رجل حييّ خصوصا عندما أكون في حضرة امرأة أيّ امرأة، فما بالكم اذا كنت أمام شاعرة وجها لوجه، في اليوم السابق أخبرتني على الهاتف انها هي أيضا  امرأة لا تجيد الكلام عندما تواجه الرجال، فهي لا تنطلق في الحديث كما تفعل على الهاتف، لكنها انطلقت في الحديث سائلة عن الأهل في القدس، وعن القدس ومقدساتها، ودخلنا في حديث عمّن بنى المسجد الأقصى؟ كونه مسجد اسلامي خالص، وأن اسرائيل غير مؤهلة لحكم القدس الشرقية، لأن اليهود لا يعترفون بالديانتين السماويتين الأخريين-الاسلام والمسيحية- وفي القدس أقدس مقدسات المسلمين والمسيحيين، وزميلتي تنحدر من أصول أعجمية مسلمة، جدها الأكبر انحاز الى جانب شريف مكة الحسين بن علي، في خروجه على العثمانيين، فقاطعتها مازحا: اذا جدّك ساهم في هدم دولة الخلافة؟ فقالت ضاحكة:نعم جدّي ساهم في هدم دولة الخلافة، واستقر  الحال بأسرتنا في مرج ابن عامر، الى أن حلت نكبة الشعب الفلسطيني الكبرى في العام 1948 ولجأت في الأردن، وشاعرتنا متزوجة من فلسطيني لاجئ في الأردن أيضا، وهي تعتبر نفسها عربية مستعربة، بل وفلسطينية مشردة، مع اعتزازها بأصولها الأعجمية، وزميلتي الشاعرة مثقفة بشكل لافت، فقد تحدثنا في السياسة، وفي الأدب، وفي علم الاجتماع، وعن الأوضاع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين والأردن، وعن أمنيتها بزيارة فلسطين وتحديدا القدس، وهي امرأة شاعرة تجيد الحديث كما تجيد الاصغاء، وتضفي على الجلسة جوّا مرحا، فهي تعرف كيف تكسر حاجز الصمت، وتشعرك بأنها تعرفك من زمن بعيد، والمرأة بدأت الكتابة بعد سن الأربعين، ولغتها بليغة انسيابية جميلة، لا تصنّع فيها، تكتب قصيدة النثر بايقاع وموسيقى واضحين، وتسعى لكتابة القصيدة الموزونة، فالمرأة ذوّاقة للفنون، وتهوى الشعر، وفي تقديري أنها كانت ستبدع لو لجأت أيضا لكتابة القصة والخاطرة، أهديتها عددا من الكتب لي ولكتاب من فلسطين، فانطلق نور الفرح من عينيها...احتسينا القهوة وافترقنا على أمل اللقاء في اليوم التالي.

جولة في عمان

صباح الثلاثاء14ايلول 2010 وفي الحادية عشرة صباحا، جاءتني زميلتي الشاعرة بسيارتها، والتقطتني من امام قاعة البنفسج القريبة من بيت أخي، لتأخذني في جولة في ربوع عمان، عمان التي تكبر وتتسع بصورة متسارعة، وتكثر سياراتها وشوارعها، والجسور والأنفاق، ومررنا بجسر معلق بين جبلين، لم أشاهد مثيلا له من قبل بالرغم من أنني زرت أكثر من دولة عربية وأوروبية، وأمريكا، عمان رأيتها مدينتين، واحدة قديمة  down town وأخرى جديدة، لم أستطع معرفة أين تبدأ عمان؟ وأين تنتهي؟ قالت رفيقتي ودليلتي السياحية-على فكرة ابتسمت في داخلي عندما روادتني نفسي بأنني سائح، فقد ارتبطت بذهني السياحة الأحنبية في بلادي، وغابت عني السياحة الداخلية، فهي سياحة أيضا، ويبدو أن تناقضي جاء من كوني أعتبر الأردن الشقيق بلدي تماما مثلما هي فلسطين، وحسمت الأمر بأنني اعتبرت جولتي هذه سياحة داخلية، في مدينة عربية لها مكانة في القلب- قالت أنها ستدور بي في أحياء عمان الفقيرة وأحيائها الغنية، سرنا بين جبلين مكتظين بالأبنية القديمة، فقالت: على يسارك مخيم الحسين، وفجأة استأذنت لوضع ملابس لدى خياط ،محله الذي يخيط به على يميننا، وعلى رصيف الشارع مباشرة، ويبدو أن مقطع ذلك الشارع مخصص لخياطي الملابس، كما تدل اللافتات على أبواب المحلات...لم تجد الخياط ، وما هي إلا بضع دقائق، فاذا بنا في حيّ راق الى درجة الترف، قالت لي أنت في عبدون أحد أرقى مناطق عمان، فاكتشفت أن رفيقتي لم تقدني الى أطراف مخيم الحسين للتنزه والسياحة، ولمشاهدة الأحياء الفقيرة، بل لقضاء عملها لدى الخياط، وهذا ما لم أصارحها به، فقد كانت شديدة الحرص على  تقديم عمان لي بأبهى صورها وجمالها، فشاعرتنا شديدة الانتماء لبلدها، فخورة بنسبها الأعجمي، وبانتمائها للأردن، وفلسطين، فزوجها من أصول فلسطينية، وابن شيخ قبيلة بدوية من بدو النقب، وهكذا فقد جمعتني وزوجها أصولنا البدوية، لم نلتق وإياه فظروف عمله وارتباطاتي بمواعيد خاصة حالت دون ذلك، لكننا تحدثنا هاتفيا، فها نحن ثلاثة، حسناء تنحدر من أصول تركية، ومن أضنة الجميلة تحديدا، وفلسطيني في أرض اللجوء والشتات، وآخر مقيم على تراب وطنه، ويعض بالنواجذ على تراب القدس، وها هي عمان ملتقانا، في عبدون فيلات فاخرة، تحيط بها حدائق ورود وأسوار، وفيه شوارع واسعة ونظيفة، وسيارات فارهة، وأناس أنيقون في مظهرهم، ونساء جميلات أيضا، ويبدو أننا كنا في الحيّ الدبلوماسي، حيث السفارات التي ترتفع على سواري أبنيتها أعلام بلادها.

توقفت بنا أمام بناية، وعرضت علينا أن نحتسي القهوة، فوافقتها، لكن اللافتة باللغة الانجليزية تشير الى أن المقهى للسيدات، وما لبثت دليلتي السياحية بأن أخبرتني أنه مقهى للعائلات، كنا في منتصف النهار، ولا أحد في المقهى غيرنا، فتحدثنا بأمور شتى، كان الأدب والأدباء محورها، وبدا لي أنني أمام امرأة مطلعة ومثقفة، لكنها متناقضة حتى مع ذاتها، فهي متحررة ومحافظة، علمانية ومتدينة، ضد الحجاب والنقاب وترتدي العباءة وتغطي الرأس في المناسبات العامة، أرستوقراطية وانسانة عادية، مقبلة على الحياة وهاربة منها، واضحة وغامضة، تردد كثيرا بأنه لا يبقى للانسان ما يفعله بعد سن الأربعين، ومؤمنة بأن سن الأربعين هو سن النضوج، فخورة بما مضى من حياتها، ونادمة لأنها وزوجها لم يوفرا شيئا لأبنائهما، علما أن ابنها البكر أنهى تعليمه الجامعي، ويعمل في الامارات العربية، وتزوج وطلق، وهي متعاطفة مع طليقته، وابنها الثاني سيكمل تعليمه الجامعي هذا الفصل، أما ابنتها الكبرى فهي في السنة الجامعية الثانية، والابنة الثالثة في المرحلة الثانوية، تحلم بأن يكون لها بيت تملكه، للتخلص من الايجار الذي يكلفهما آلاف الدنانير سنويا، ويشكل عبئا على ميزانية الأسرة،  قلت لها: أنت انسانة متناقضة كبقية أبناء هذه الأمة، وصدق فينا مظفر النواب بقوله" ان الواحد منا يحمل في الداخل ضده" فضحكت قهقهة.

رنّ هاتفها النقال، فردت بسخط وغضب، كانت المحادثة من ابنتها الطالبة الجامعية، والتي أخبرتها بأن القسط الجامعي ارتفع هذا العام، فهي تدرس في برنامج التعليم الموازي، الذي يدفع فيه الطالب ضعف القسط ،من وين بدنا نجيب يا ربِّ؟

غادرنا المقهى وهموم قسط ابنتها الجامعي يرتسم تكشيرة على وجهها، فأعادتني الى بيت أخي وقد ازدادت جمالا رغم حزنها...وافترقنا على أمل لقاء لم نحدده.

عروس من عمان

مساء نفس اليوم الثلاثاء كان الموعد مقررا لطلب عروس لابن أخي المغترب في أمريكا، وحضر خصيصا لعمان من أجل ذلك، أخي طلب العروس من والدها قبل وصولي الى عمان،

فابنه الآخر متزوج من ابنة عمها، التقى العروسان وقبلا ببعضهما البعض، العروس ستكمل عامها السابع عشر بعد شهرين، رأيتها طفلة وتحفظت من هكذا زواج، لكن بما أن الطرفين متفقان وراضيان، لم يعد لرأيي دور، عائلة العروس تنحدر من احدى عشائر بلدتنا، وتعيش في احد أحياء عمان، في القويسمة ما بين عمان والزرقاء، ذهبنا أنا وأخي وابنه، فليس لنا أقارب من عائلتنا في عمان، كما أن معارفنا قليلون، فأخي يتنقل بين عمان وأمريكا، ووجدنا في استقبالنا اكثر من عشرين رجلا من عائلة العروس، لا نعرفهم ولا يعرفوننا، تعرفنا عليهم وتعرفوا علينا، هم أقارب وأبناء عمومة لأصدقائي من عائلتهم المقيمين في بلدتنا احدى ضواحي القدس، وضعوا فنجان قهوة واحد أمام أخي، وتكلمت أنا طالبا تجديد النسب من ابنتهم ايمان لاياد ابن أخي، فرد عم ّ العروس"أجتكم عطية ما من وراها جزية، فالنسب نسب اللحى الطيبة شرواكم" ورددت عليه بأننا جاهزون لكل طلباتهم وبتكاليف العروس مثل قريباتها وأكثر، فصبوا لنا القهوة وقرأنا الفاتحة، وحددنا الخطبة مساء السبت 18 أيلول الحالي، سهرنا وتسامرنا الى منتصف الليل تقريبا، وأقسم عمّ العروس على غدائنا في بيته ظهر اليوم التالي، لم يقبل عذرا، ولا تعنيه مواعيدي التي ارتبطت بها مع الأصدقاء، ولم يعد أمامنا سوى قبول الدعوة، برجاء تأخيرها الى المساء بدل الظهر، وكان لنا ذلك، وأثناء السهرة سألني أحدهم ضاحكا ومازحا: "فكرك مين أحسن بلادكم وللا بلادنا" فأجبته: عمان جميلة لكن القدس اجمل، وتذكرت طفلة فلسطينية  في العاشرة من عمرها من مخيم الدهيشة قرب بيت لحم، شاركت ضمن وفد أطفال في مخيم صيفي في باريس،أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأجروا معها مقابلة في التلفزيون الفرنسي، وسأٍلتها المذيعة الفرنسية: هل باريس جميلة؟ فأجابت: نعم باريس جميلة لكن القدس أجمل، فباريس ليس فيها مسجد يضاهي المسجد الأقصى، لقد صدقت تلك الطفلة فالقدس جنة السماوات والأرض، وأضيف انها توأم عمان، ولا بد ان تتحرر القدس، وأن تعود الى سابق مجدها، وما المحتلون الا"عابرون في كلام عابر" كما قال بلبل فلسطين الراحل محمود درويش.

في ضواحي عمان

لم أشعر بالغربة في عمان، فأينما حللت وجدت نفسي بين أهلي وربعي، بمن في ذلك أولئك الناس الطيبون الذين لا أعرفهم بشكل شخصي، فالشعب الأردني مضياف، أخلاقه رفيعه، ويساعد الآخرين حتى وان كانوا لا يعرفونهم، والشعب الأردني هو أكثر الشعوب العربية التصاقا بفلسطين، يعتبرها قضيته الأولى، وتحرير القدس همّه الأول، ويستحيل عليك معرفة الأردني من الفلسطيني، فالشعبان مندمجان متحابان متصاهران متحدان،  تجولت وأخي في عمان دون معرفة بأسماء الأمكنة فيها، بعد الظهر لسعنا الجوع، فقدنا سيارتنا  الى الطريق السريع-الأتوستراد- طريق ياجوزالواصل بين عمان والزرقاء، هناك عدة مطاعم شعبية، بجانب كل واحد منها حظيرة غنم، ما عليك سوى أن تختار الخاروف أو الجدي الذي تريده، أو تختار اللحم الذي تريده، وسيشوى على الفحم أمامك، جلسنا تحت مظلة امام احد المطاعم، ننتظر شواءنا، واذا بأسرة مكونة من رجل يقود طفلا دون الرابعة من عمره وامرأته المنقبة، تحتضن طفلا رضيعا، تكلم الرجل مع النادل، بحوزتهما نصف دينار لا يملكان غيره، طلبا منه أن يبيعهما به "ساندويشا" لطفلهما الجائع، لهجة الرجل أوحت لي بأنه عراقي جار عليه الزمن، اقتربت منه، سألته:هل أنت عراقي؟ فأجاب:نعم، دعوته  كي يجلس وأسرته على طاولة وأن يطلبوا ما شاؤوا من الشواء...وافق بعد تردد، وبعد أن انحدرت على وجنتيه دمعتان كريمتان، صاحبتهما دموع من عينيّ، يا الهي...هل أبكي عراقي أم أبكي فلسطيني؟ ألم يكتف زناة التاريخ باحتلال فلسطين وتشتيت شعبها، رفعوا هم شعار"العودة الى أرض الآباء والأجداد، عودة شعب بلا أرض الى أرض بلا شعب" كذبوا حتى صدقهم الآخرون، وكذبوا وكذبوا حتى صدقوا أنفسهم، واعتبروا أنفسهم محررين "لأرض الميعاد التي وعدهم بها الرب...أرض اسرائيل"-هكذا يسمون فلسطين التاريخية- من -الغوييم- الغرباء، وها هم يحتلون منبع الحضارة، يحتلون عراق العزة والكرامة، يدمرونه، يقتلون شعبه ويعتبرون ذلك"تحريرا" فيا لعار القوة التي"حررت" العراق من وحدة أراضيه، ومن عروبته، ومن شعبه، وأشعلت نار الفتنة الطائفية فيه ،العراق المحتل الآن، والملايين من أبنائه الذين تشتتوا، وقتلوا، ودمرت بيوتهم وممتلكاتهم، هو ذلك البلد الشقيق الذي ما تخلى يوما عن قضايا أمته، هذا العراق هو الذي منع تصدير التمور العراقية وأرسلها هدية مجانية للشعب الفلسطيني في نكبته الأولى عام 1948وأوقف مجاعة محققة كادت تفتك بمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، الذين هربوا من ديارهم بثيابهم من ويلات الحرب والمجازر التي تعرضوا لها، خففت آلام أخي العراقي، وذكرته بأمجاد العراق العظيم، وأفضاله على العرب والمسلمين، وذكرته بوحدة الدم بين شعبينا الشقيقين، وبمقبرة شهداء الجيش العراقي القائمة على مدخل مدينة جنين الجنوبي، لم تعد بي شهية للطعام، وضعت مائة دينار هي كل ما كان في جيوبي في يد الطفل العراقي، وغادرنا المكان ودموعي تغسل نار حزني على أمتي التي ما عادت ماجدة، وطلبت من أخي العودة الى بيته، فما عدت قادرا على التجوال، وتقرحات جهازي الهضمي بدأت تؤلمني...وأصابني الوهن، فكم من الآلام ستحتمل يا قلب؟

عبد الحيّ يلاحقنا في عمان

كنا جلوسا مساء الأربعاء15- ايلول في بيت أخي، واذا بأخي عرفات وابني عمي ناصر وموسى يدخلون البيت قادمين من القدس لحضور خطبة اياد ابن أخي، وموسى هو والد عبد الحيّ صاحبي الصغير الذي قضى نحبه بحادث مروع في العشرة أيام الأخيرة من رمضان الماضي، وسعاد شقيقة موسى وعمّة عبد الحيّ متزوجة في مدينة الزرقاء، ولا تعلم بذلك، فقد كانت نفساء ولم يخبرها أحد، بينما عمّتاها أمينة وأميرة قد علمتا بالموضوع ولم تخبراها، في اليوم التالي سنزور سعاد في بيتها في وادي الحجر، وقد اقترحتُ عدم اخبارها من طرفنا، وتَركُ الأمر لزوجها ولأفراد أسرتها ليختاروا الوقت المناسب لذلك، فمن غير اللائق أن تخبر امرأة فرحة بلقاء شقيقها وأبناء عمومتها بعد غياب طويل، بخبر مأساوي، زرنا سعاد ظهر الخميس، شربنا القهوة واستأذنا بالانصراف، على أمل العودة، وذهبنا الى أمّ بيرين قرب شفا بدران، الى مزرعة يمتلكها أخوانا داود وراتب المغتربان في أمريكا أيضا، المزرعة جميلة، وموقعها رائع، وفيها بيت صغير، تقع قبالة بيت"حكيم" بطل كرة السلة الأمريكي السابق، وهو مسلم  تنحدر أصوله من النيجر كما يقول سكان المنطقة، لعب مع احدى الفرق الأمريكية، وجمع ثروة كبيرة وعاد الى الأردن،  حيث تزوج  وأقام فيه، ابتاع عشرات الدونمات على قمة جبل، و بنى قصرا من عدة أبنية ومسجد، ويحيط الأرض سور حجري لافت، أحضر أخي خاروفا، وأشعلنا الموقد، المزرعة ستة دونمات، في منطقة مفتوحة، نسيمها عليل رغم حرارة صيف هذا العام، أخي الساكن في عمان دعا ثلاثة أصدقاء له الى المزرعة، أحدهم يعمل في دائرة أراضي عمان، والآخران محاميان، وهم أبناء عمومة من عشيرة العبابيد التي تقطن في محيط بيادر وادي السير التي تغنى بها شاعر الأردن الراحل مصطفى وهبه التل، وضيوفنا كريمو النسب، حميدو الأخلاق، تشعر أنك تعرفهم منذ ولادتك، فلهجتهم شبيهة بلهجتنا، وعاداتهم شبيهة بعاداتنا، وهم أبناء عمومة، حيث ننحدر وإياهم من أصول واحدة، بيننا وبينهم نسب ومصاهرة منذ أجيال، اثنتان وتسعون امرأة عبادية تزوجن من رجال من عشائرنا عشائر عرب السواحرة قضاء القدس، هم يعرفون ذلك ونحن نعرفه أيضا، تسامرنا وتمازحنا ، وتحاورنا في قضايا كثيرة ومتشعبة، تمازحنا وضحكنا بفرح طفولي، ولعبنا أو بالأحرى لعب بعضنا، ومشى مسافات كنوع من الرياضة، أو على رأي موسى ابن عمي نحن نمشي كي نهضم الطعام ونعود للشواء من جديد، سألونا عن الأوضاع في فلسطين، وتحديدا في عروس المدائن القدس، فالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد اليها الرحال، يؤرق احتلاله عقل وفكر العرب والمسلمين جميعهم، بقينا في المزرعة حتى بعد العاشرة ليلا، وانفضت جلستنا وضيوفنا يقسمون أغلظ الأيمان كي نلبي دعوتهم لنا بتناول طعام الغداء في بيت أحدهم، ولم يقبلوا لنا عذرا، لكننا وعدناهم بتلبيتها في مرحلة لاحقة فالأيام بيننا.

وعدنا الى البيت ممتلئي البطون بشواء على الفحم وعلى الصاج، ولم نترك ثلثا للماء وثلثا آخر للهواء كما أوصانا رسولنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، حتى أنني استذكرت فكاهة يرددها البعض عن أحد الأعراب الذي صلى الجمعة في المسجد الأقصى، وكان موضوع الخطبة عن آداب الطعام، فذكر الخطيب الحديث النبوي الشريف القائل:"اذا أكل أحدكم فليأكل ثلث بطنه، وليترك الثلث الثاني للماء، والثالث للهواء"، فلم يفهم الأعرابي الحديث، وسأل أعرابيا بجانبه:وش يقول الشيخ؟ فرد عليه: يقول الشيخ اذا أكلت ملّي بطنك من الزيق للزيق، والهوا خليه لوقت-الذيق-الضيق.

وداع شاعرة من عمان

صباح السبت 18ايلول الحالي استيقظت مبكرا كما هي عادتي، لم أجد كتابا أقرأه، فأخي طه في عداء دائم مع الكتب، لا يقرأ شيئا، وأنا لم تتح لي الفرصة لزيارة احدى مكتبات عمان، واختيار بعضا من الكتب، أو لأكون صادقا مع نفسي لم يخطر على بالي أن أشتري كتبا، ويبدو أن الفكرة أسقطت من تفكيري كوني لا استطيع اصطحابها معي، الى وطني مسلوب الحرية، وحريتي المسلوبة فيه، فلله درّك يا وطن ما أروعك! بالرغم من كل القيود التي تكبلك، ولله درّك يا عمان كم أحببت أن أتعرف على كلّ شبر فيك، فلك في القلب مكانة خاصة، وقلبك ينضح حبا لكل العربان الذين يفدون اليك، في الليلة الماضية جاءنا جار أخي طه الدكتور محمود الأستاذ الجامعي العراقي، والذي يُدرس في احدى جامعات عمان، جاء للسلام علينا، تسامرنا وإياه، مع أنه يتحفظ كثيرا عند الحديث بالسياسة، الرجل مثقف لكنه يخاف شيئا في داخله، يحب وطنه، ويتعاطف مع القضية الفلسطينية بشكل كبير، ويعلم الكثير عما يدور في فلسطين، ومعجب بآداء حكومة الدكتور سلام فياض، مؤمن الى درجة كبيرة بدور الثقافة في التعريف بقضايا الشعوب العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ويبدو أنه اكتسب ذلك من خلال تعلمه في أوروبا وتجواله في بعض دولها، حدثته عن لقاء الدكتور سلام فياض في29 حزيران في مكتبه في رام الله مع عدد من المثقفين الفلسطينيين-كنت واحدا منهم- للتداول في مشروعنا الثقافي الذي نريده، فأبدى اعجابه بذلك، وأشاد بالدور الكبير لبلبل فلسطين الراحل الكبير محمود درويش، وكيف ساهم من خلال أشعاره بالتعريف بالقضية الفلسطينية، فقلت رحمك الله يا محمود كيف خدمت قضيتنا أكثر من الجامعة العربية، وأكثر من أيّ فصيل فلسطيني، فالرجل قضية كما قال الشهيد غسان كنفاني، وأنت قضية بذاتك أيها الدرويش الراحل عنا، والساكن في قلوبنا، واقترح أخونا العراقي انتاج مسرحيات وتسهيل جولات لها في المدن الأوروبية، لتكون وسيلة اعلامية عن شعب الشهداء الذي عانى كثيرا.

ما علينا تقلبت في فراشي الى أن ملّني السرير، وفي العاشرة صباحا تكلمت مع زميلتي الشاعرة، وأخبرتها أنني على سفر صباح غد الأحد، فردت عليّ بصوتها الرنان بأنها ستأتي خلال نصف ساعة لاصطحابي معها في جولة أخرى في عمان، فقبلت عرضها شاكرا، انتظرتها على الرصيف بجانب بيت أخي، وقادت سيارتها في أماكن لا أعرفها، أماكن  عامرة بأهلها وروادها، كانت تذكر لي أسماء الأمكنة، لكن يبدو أن ذاكرتي شاخت ولم تعد تحتفظ بكل ما تسمع، فلم أحتفظ الا بشيء واحد هو مرورنا بقرب أبنية في مرحلة التشييد، قالت عنها أنها قصر للعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وواصلت بنا المسير باتجاه الجنوب الغربي حتى خلت نفسي أنني في الطريق الى الأغوار، والى الجسر الذي يربط بين ضفتي نهر الأردن الذي يعاني من الجفاف، ولا أعلم ان كانت تسير باتجاه مكان تعرفه، أم أنها ضلت الطريق هي نفسها، لكننا وجدنا أنفسنا في ماحص والمحيص، وهما بلدتان في أطراف غرب عمان، تتجلى فيهما الأخوة الاسلامية المسيحية، وتتعانق فيهما مآذن المساجد والكنائس، ويظهر التزاوج الثقافي بين الديانتين الذي أنجب مظاهر حضارية لا تجدها في كثير من قرى وبلدات الريف، وصلنا دوارا في وسط البلدة، دارت حوله زميلتي الشاعرة، ورددت ضاحكة: دعنا نعود من هنا وإلا سنصل الأغوار،هذه المنطقة أدخلها للمرة الأولى، وبالتالي فانني جائع لاشباع نظري منها...طبعا زميلتي كانت تشرح لي تفاصيل ما تعرفه عن كل مكان نمر فيه، وأنا لست مستمعا جيدا، مع أنني أسمع وأستوعب كل ما يقال لي أو على مسامعي، فقد كنت كثير الأسئلة، فبي ظمأ لمعرفة عمان، ومعرفة المزيد عن أهلها الطيبين، أنا المرابط في مدينتي الحبيبة –القدس- المحاصرة والممنوعة من التواصل مع محيطها الفلسطيني، وامتدادها العربي، والتي تتعرض لطمس ملامحها العربية والاسلامية، بشكل يومي، ويزداد تهويدها وتفريغها من مواطنيها يوما بعد يوم، ويبدو أن زميلتي أدركت ما يجول في خاطري، فدعتني لاحتساء قهوة الصباح في مطعم بجانب الدوار الذي يتوسط البلدة، فلبيت العرض شاكرا، جلت بنظري حيث أبنية البلدة القديمة، تتسلق بطني جبلين يتوسطهما واد ينحدر باتجاه الغرب، ثم ترتفع الأبنية الحديثة باتجاه الشرق الى قمة الجبل، دخلنا الى مطعم أنيق، في بناء قديم، يدل على ذوق رفيع لمن صمموه، فقد حرصوا أن تكون المقاعد الخشيبة تراثية تتناسب وعبق البناء القديم، وتنبئ بأن هذه البلدة تضرب جذورها في عمق التاريخ، لكن ما يقدمه المطعم لزبائنه ورواده يشي بأن البلدة ليست في منأى عن الحداثة، تداولنا الحديث حول الشعر وأوزانه، وزميلتي متواضعة حدّ التلاشي، لها طموحات في كتابة القصيدة المقفاة، تعشق الشعر، وبها شغف لمعرفة المزيد المزيد عن الشعر والشعراء، وعندما يدور الحديث عن الشعر والأدب أجد مرافقتي طالبة نجيبة ومستمعة حاذقة، تريد أن تلتهم وأن تهضم كل جديد، تسأل عن أمور أدبية كالطالبة النجيبة التي تبحث عن دروب التفوق، رأيتها شابة مقبلة على الحياة، وقدمت نفسها لي كأنها عجوز مدبرة عن هذه الدنيا، رأيتها غابة استوائية كثيرة الأمطار متنوعة في نتاجها وعطائها، رأيتها باحثة عن الحقيقة تريد التهامها دفعة واحدة، زميلتي امرأة يرهقها مصير أبنائها، وتحمل هموم زوجها الذي كان يعمل مديرا لبنك، فاحتالوا عليه وأحالوه على التقاعد بنصف راتبه، مما أثر على المستوى المعيشي للأسرة، زميلتي يبدو أنها تخاف الموت مع أنها في ريعان الشباب، وهي ليست من أنصار"بعد الأربعين يا ربي تعين" بل هي من المؤمنين بأن العمر ينتهي في الأربعين، ولا يعود للانسان ما يستطيع عمله، لكنها على قناعة بضرورة تنمية ثقافتها من خلال المطالعة بشكل مكثف، فقد فاتها الشيء الكثير، وهي الزوجة الوفية، والأمّ الرؤوم، وربة البيت التي ترعى زوجا وأربعة أبناء أصغرهم ابنة في المرحلة الثانوية، رنات هاتفها النقال تتواصل من أبنائها وزوجها، فلكل منهم طلباته، وهي الصدر الحنون الذي يلجأون اليه، وهي تلبي طلباتهم راضية مرضية، أعادتني الى بيت أخي بعد أن أمضينا ساعتين، فشكرا لك يا نور التركماني، ووداعا على أمل اللقاء.

خطبة في عمان

مساء السبت 18 ايلول الحالي هي الساعة المحددة لخطبة اياد وايمان، وسيكون الحفل قريبا من بيوت والدي العروس وأبناء عائلتها، في قاعة جمعية أبناء الشيوخ في القويسمة، استقليت أنا وعرفات وموسى وناصر سيارة أجرة في الخامسة مساء، سألني السائق:أيّ الشوارع تريدني أن أسير بكم للوصول الى القويسمة؟ فأجبته: الشارع الذي تريده المهم أن نصل...وكان لسؤاله مغزى، فهو يريد أن يتأكد اذا ما كنا نعرف المنطقة أم لا، وعلى دراية بشوارعها أم لا، فتأكد أننا لسنا من سكان عمان وأننا لا نعرف الشوارع، فدار بنا شوارع وحارات كثيرة، لم أشاهدها من قبل، فقد سبق وأن زرت القويسمة وبيت أهل العروس مرتين في نفس الأسبوع، فقلت للسائق: يا أخي قل لي أيّ مبلغ تريد وسأعطيك إياه بدون نقاش وبدون عداد السيارة، لكن أوصلنا هدفنا، فخجل الرجل من نفسه واختصر المسافة وعاد بنا بعد أن دار أكثر من ثلاثة أرباع الساعة زيادة عن المعدل المطلوب، وأخذ ضعف الأجرة. المهم أننا وصلنا القاعة وهي قاعة غاية في التواضع، طابق للنساء وآخر للذكور، ومعروف ضمنيا عدم وقوف أهل العريس لاستقبال المدعوين- وغالبيتهم العظمى من ذوي العروس- كي لا يروا" الحريم" المنقبات...جلسنا في قاعة الرجال، تعرفت على عدد من أبناء بلدتي من حامولة السراوخة، وجميعهم من أقارب العروس، والكل يريد أن يعرف أخبار الوطن، والأقارب، يسأل عن أقارب يعرف أسماءهم لكنه لم يلتقهم في حياته، ويسأل البعض عن مدى امكانية أن تسفر المفاوضات بين السلطة وحكومة نتنياهو عن نتائج ايجابية، فأجبتهم بأن الجواب لا يعلمه الا الله ونتنياهو، فالرجل مخادع ومناور حاذق، وله فهمه الخاص بالسلام، فهو يريد سلاما وأرضا، والرئيس الأمريكي باراك أوباما يريد من العرب والمسلمين أن يطبعوا العلاقات مع اسرائيل قبل أن تنسحب ، وأن يعترفوا بيهودية اسرائيل، كبادرة حسن نيّة، وهو بهذا يسوق موقف نتنياهو وأخشى ما أخشاه أن يتم له ذلك لعدم قدرة القادة العرب والمسلمين على أضعف الايمان وهو قول"لا"، ويعتمدون على النوايا الحسنة "للصديقة أمريكا وللجارة اسرائيل" تماما مثلما اعتمد أسلافهم على نوايا"الصديقة بريطانيا" وأجهضوا ثورة الشعب الفلسطيني في العام 1936 والتي شهدت عصيانا مدنيا وأطول اضراب شهده العالم والذي استمر لستة أشهر، لكن هذه المرة بتصفية القضية الفلسطينية دون تحقيق الحد الأدنى من الحقوق المشروعة والثابتة لشعب الشهداء الفلسطيني، لم أسمع شخصا متفائلا بامكانية تحقيق السلام مع حكومة نتنياهو، وأسأل الله أن يكونوا مخطئين، مضت ساعتا الخطبة وكأن قدر الفلسطينيين أن لا يكون للفرح مكان لأحدهم، فحتى حفلات الزواج تطغى عليها السياسة بدل الغناء.

 يوم الأحد التالي حان موعد الرحيل، والعودة الى الوطن، وصلت الجانب الأردني من الجسر في الواحدة ظهرا، طمعا بأن يكون تزاحم الصباح قد انتهى، وطمعا في الراحة لجسدي المنهك، فقد عمدت أن أدفع سبعة وستين دينارا للعودة ضمن ما يسمىv.i.p. وارتأيت أن أجعل من نفسي"شخصية مهمة" مدفوعة الأجر ولو لساعات حتى يسهل مروري، فدخلت القسم المخصص لذلك، واذا به يعج بالمئات، ودرجة الحرارة كانت عالية جدا ولا تطاق، فالجسر كان مغلقا في اليومين الماضيين بمناسبة عيد الغفران اليهودي، الذي تشل فيه الحركة في اسرائيل تماما، سلمت أوراقي ووثائقي وانتظرت الفرج، وعند الرابعة حضر ثلاثة ضباط من الأمن العام الأردني، دخلوا الى المكاتب، خرج أحدهم بعد دقائق قليلة وخاطب الجمع قائلا: الآن ستحضر باصات سياحية وستقل جميع المغادرين باستثناء ابناء القدس، وفعلا حضرت أربع باصات، وأقلت العائدين الى وطنهم على دفعتين، في حين غادر المقدسيون في سيارات صغيرة.

في الجانب الاسرائيلي أوقفني أحد رجال الجمارك، احتجز بطاقة هويتي وشرع بفرض رسوم جمركية عليّ لأنني أحمل ثلاث "كروزات"سجائر من السوق الحرة على الجانب الأردني، وقانونهم يسمح لي بـ"كروز" واحد كما أخبرني، وفجأة دخلت مجندة، ضمها الى صدره وغابا في قبلات عميقة، ولما التفت إليّ، أعطاني بطاقة الهوية وطلب مني أن أغلق حقيبتي وأن أخرج، وواصل الضم والتقبيل، فخرجت وأنا أقول ساخرا"دام الضم والتقبيل بينكم يا شعب اسرائيل".

عدت الى بيتي وعيني على عمان وأدباء عمان.

"انتهى"