الملك المظفر

الشيخ: علي الطنطاوي

الاحتفال بالمولد

إن أول من ابتدع الاحتفاء به، هو الملك المظفر، صاحب اربل (1)، فمن هو هذا الملك المظفر؟ وما خبره؟ سأحدثكم عنه هذا الحديث.

كان الملك المظفر قائداً من قواد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وعاملاً من عياله. أما لقب الملك فكان في اصطلاح تلك الأيام يطلق على كل وال أو حاكم، ولو كان والي مدينة، أو حاكم قرية، بل لقد جرت عادة الأيوبيين - وهذا من قبيح عاداتهم، التي أدت إلى الانقسام المستمر- أن يطلقوه على الولد من أولادهم، وهو صبي، كما يطلق ملوك أوربة على أبنائهم لقب (البرنس).

وكان أبوه من شجعان التركمان، وكان يلقب بـ (كجك) ومعنى كُشُك في التركية، الصغير، لأنه كان قصير القامة، صغير الجسم ولكنه كان قوياً مفرط القوة، جريئاً بالغ الجراءة وكان من قواد آل زنكي، حضر الوقائع العظيمة، وفتح الفتوح الجليلة، وولي أعالي العراق والجزيرة؛ فسار فيها السيرة الحميدة، وأوقف فيها الأوقاف، ولما شاخ وقارب المائة، نزل عما كان يليه، ولا لنفسه إلا مدينة إربل.

وكان ابنه الملك المظفر - هذا يدعى كوكبوري، ومعناه في لسانهم (الذئب الأزرق) وكان منقطعاً إلى صلاح الدين، رحمة الله على روحه، شهد معه المشاهد كلها، وكان أحد قواده الكبار، وكان من أثبتهم في المعارك قدماً، وأجرئهم قلباً، وأعرفهم بفنون القتال، ما عرف الهزيمة قط.

ولما تضعضع الجيش الاسلامي غداة معركة حطين، وكاد ينكسر ويتمزق، بقي ثابتاً في الميدان مع السلطان صلاح الدين، والملك تقي الدين صاحب حماة في قطعة صغيرة من الجيش، وتلقوا بصدورهم هجمة الافرنج ثم ردوها كما تتلقى صخرة الشاطئ الموجة العالية العاتية، ثم تردّها، وعاد بذلك الجيش الاسلامي إلى مواقعه، وكان الظفر الأبلج، الذي لا تزال تتحدث حديثه العصور.

وفي حصار عكا، كان له مع السلطان أشرف موقف، يعرفه ويعرف أمثاله، من عاد يقرأ هذه الصفحات الغر المحجَّلات من تاريخنا، صفحات البطولة المعجزة التي احتواها تاريخ "الأبطال الثلاثة": نور الدين، وصلاح الدين، والظاهر. وأنا أوجب على كل مسلم اليوم أن يقرأها مرة ثانية، ليجدد إيمانه بالله، وبأن فلسطين ستعود إلينا، وليعرف من أين الطريق إلى استرجاع فلسطين.

ما سيرة الملك المظفر في السلم فلم تكن دون سيرته في الحرب، هنالك النجدة والثبات والظفر، وهنا العدل والإحسان والكرم، وليس ذلك عجباً ولا نادراً في ذلك العصر، فإن الناس - كما قال القائلون - على دين ملوكهم ومتى صلح الرأس صلحت الجوارح، ومتى كان السلطان مثل صلاح الدين، كان الأمراء مثل الملك المظفر.

لقد قرأت سيرته، وسمعت خبره من شاهد عيان، وعصري صادق، هو القاضي ابن خلكان، فما دريت أأقرأ سيرة ملك من الملوك؟ أم رئيس جمعية خيرية للمواساة والصدقات والترفيه والإحسان؟ هذا هو عمله الذي يعيش له ويعش منه، ولا هم له غيره، ولا عمل له سواه.

ولقد عرفت سير كرماء ضربوا بكرمهم الأمثلة، ولكنهم كانوا طول الشعراء والمغنين والسائلين، ويبذرون ويضعون الأموال في غير مواضعها. أما الملك المظفر فكان كرمه للناس جميعاً، ولولا ما سنّ من سنن سيئة في يوم المولد، من اللهو والسماع لشهدت بأنه لم يكن له من بابته نظير (أي من أشباهه ونظائره).

لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة والبذل، لا للشعراء في كان للشعراء منه حظ، ولكن للفقهاء والفقراء والوعاظ والمحتاجين، وكان يجلُّ العلماء، ويدني مجالسهم، ويستسلم لهم، ويهشُّ للوعظ ويصفي الفوائد.

وكان له كل يوم قناطير من الخبز توزع توزيعاً عاماً على الفقراء، في أماكن خصصها لذلك في نواحي البلدة، فلا يطلب أحد شيئاً منه إلا أعطيه، فكان العامة يأكلون خبزهم من ماله، ولا يتكلفون له، ولا يفكرون فيه.

وكان يرى الخبز حقاً لكل إنسان، يأخذه مجاناً، كالماء والهواء، وهذه الثلاثة هي ضرورات الحياة، وهي على درجات، أما الهواء الذي لا يصبر عنه الحي لحظة، فهو ميسور في كل مكان، أما الماء فيصبر عنه قليلاً، لذلك كان كثيراً موفوراً، وإن خلت منه مواضع، أما الخبز فيصبر عنه أمداً أطول، لذلك كان أقل.

وكان إذا عاد من الديوان، وجد على بابه كل يوم طوائف من المحتاجين فيوزع عليهم الثياب الرخيصة النافعة التي اتخذت لدفع البرد ورد المرض، لا للفخفخة والفخر، ويعطي كلاً عطية صغيرة: دينارين أو ثلاثة.

ورأى المرضى الذين لا يرجى لهم شفاء - الزَّمني – والعميان فبنى لهم أربعة مستشفيات. وتلك هي سنة الإسلام، شرع بها من الملوك الوليد بن عبد الملك، ثم صارت شعار الملوك الصالحين من المسلمين، وقرر لهم كل ما يحتاجون إليه من الفرش والحمامات والمراحيض والخدم والممرضين، ورتًّب لهم المطابخ تقدم لهم الطعام والشراب، وعين لهم وعاظاً يعظونهم ويعلمونهم، ومحدثين يقرؤون لهم ويسلونهم، وكان يزورهم زيارات مفاجئة، ويقف عليهم واحداً واحداً، يسأل كلاً عن طعامه وشرابه، وما يشكو منه، وما يشتهيه، ويبرّهم بالمال والفاكهة والطرف.

وأنشأ داراً للضيافة، ينزل فيها كل مسافر ثلاثة أيام، يتغدى فيها ويتعشى، وإذا أراد السفر أعطوه نفقة ومعونة. وفتح مدرسة عظيمة، جعلها قسمين: قسماً للحنفية، وقسماً للشافعية، وأقام لها المدرسين، وجعل لهم وللطلبة المرتبات والعطايا، وفتح مدرستين للصوفية!

وكان له عمال يسافرون مرتين في السنة إلى البلاد الساحلية التي كانت بيد الافرنج، يفكون أسرى المسلمين، ويعينوهم على العودة إلى ديارهم.

وجعل للحج بعثة رسمية، تذهب كل سنة مع الحجاج، تخدمهم وتتعهدهم وتعين الفقير والمنقطع منهم. وأرسل معها ستة آلاف دينار لفقراء الحرمين. وكان له بمكة المآثر الجليلة، منها أنه كان أول من أجرى الماء إلى عرفات ليلة الموقف، وكان الحجاج يشكون قلة الماء، وأنفق فيه النفقات الطائلة.

***

وكان يؤخذ عليه، أنه كان على طريقة مبتدعة المتصوفة، الذين يقيمون حفلات السماع، ويتواجدون ويرقصون، ويأتون أعمالاً ليست من الدين، ولا يعرفها السلف ولا أوائل الصوفيين، وكان مولعاً بها، يزور مدارس الصوفية التي أنشأها لهم فيجمع له المغنون - المنشدون - فيسمع منهم، مثل الذي تسميه إذاعة دمشق الأناشيد الدينية، والدين بريء منه (۱)، ولم يسمع مثله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون، ولا عرفوه، ومن هذه الأناشيد ما لا يخلو من كفر صريح، وسؤال الرسول ما لا يقدر عليه إلا الله، ووصفه بما لا يوصف به إلا الله. ومنها ما هو وقاحة وسوء أدب وغزل بالرسول صلى الله عليه وسلم ووصف جماله، وذكر للهجر والوصال...

والدين ما كان عليه الرسول وصحبه، ومن زعم أن في المحدثات ما هو من الدين، فقد نسب النقص إلى الشريعة، وادَّعى بأنه زاد في القربة والطاعة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيصدم هذا الكلام كثيراً من القارئين، ويرون فيه غير ما عرفوا وألفوا، ولكنه هو الحق، والحق أحق أن يتبع.

أعود إلى الموضوع. لقد قلت لكم، أن الملك المظفر كان أول من سن الاحتفاء بالمولد، وأنا أنقل إليكم وصفاً لذلك الاحتفاء، نقلاً عن المؤرخ الفقيه ابن خلّكان وهو شاهد عيان لتروا أنه لم يكن احتفالاً دينياً ولم يكن مجلس عبادة وذكر، ولا مقام طاعة وتبتل، وإنما كان (معرضاً) كهذه المعارض التي تقيمها دول هذه الأزمان فيه اللهو وفيه الغناء وفيه كل شيء.

كان الناس يتوافدون إلى (إربل) حتى تصير مثل أرض المحشر؛ يصحب كل منهم أهله، ويحمل تجارته إن كان تاجراً، وبدائع مصنوعاته إن كان صانعاً مبتكراً، ويعدّ خطبه ومواعظه إن كان خطيباً أو واعظاً، وقصائده إن كان شاعراً.

ويقيم المظفر أبنية مؤقتة من الخشب، كل واحدة بطبقات أربع أو خمس يؤجرها لمن شاء، فإذا كان شهر صفر زينوها بأنواع الأصباغ والستائر والأوراد والصور والأعلام والأضواء، حتى تكون أعجوبة، ويدع لنفسه وحشمه عشرين منها ينتقل إليها، وكذلك يفعل القواد وكبار رجال الدولة.

ويكون في الباقي جوقات المغنين والممثلين وأصحاب الخيال - شيء مثل كراكوز- وتبطل معايش الناس، وتتعطل المدارس إلى يوم المولد.

والملك يدور كل ليلة فيقف على المغنين وأصحاب الخيال وعلى كل بناء وقبة يتفرج ويعطي العطايا، وكان يجعل المولد سنّةً في الثامن من ربيع الأول وسنة في الثاني عشر منه للخلاف الوارد في تعيين يوم مولده صلى الله عليه وسلم.

وتبدأ الاحتفالات ليلة المولد بسوق عدد هائل من الإبل والبقر والغنم بالطبول والأناشيد والناس وراءها بالأعلام والمزامير والصياح حتى تذبح ويعدّ لحمها للولائم، فتقام القدور، ويعد الطعام الكثير، ثم يذهب إلى المسجد فيخرج من صلاة العشاء وبين يديه الشموع العظيمة والمشاعل والناس وراءه حتى ينته

إلى (الخانقاه) فيقيم تلك الليلة ساعاً عظيما - أي ما يسمونه اليوم ذكراً، وما هو بالذكرـ ويأتي الصوفية بعجائب الإنشاد والرقص والتواجد، فإذا كان يوم المولد، نصب له برج كبير فيجلس عليه مع رؤساء دولته، وبرج أوطأ للصوفية والعلماء، ويمر الجيش بين يديه في عرض عظيم، بفرسانه ورجالته وأعلامه وراياته وطبوله، وجماعات الصوفية والمنشدين، وطلبة المدارس، وعامة الناس ثم يقوم الخطباء والوعاظ. وينشد المنشدون ويخلع على الجميع ويعطيهم، ثم يدعى كل من حضر - وهم آلاف مؤلفة - إلى الموائد فيأكلون جميعاً.

وقد ألف له الحافظ ابن دحية رسالة في المولد كانت أول مولد ألّف.

***

وقد اختلف العلماء في هذه البدعة التي ابتدعها، فمنعها الأكثر، ومنهم من قال بجواز الاحتفال بالمولد، بشرط خلوه من المنكرات، وأنا أرى أن الاحتفال بالمولد، بحيث تنشر في الناس سيرته صلى الله عليه وسلم، ويذاع هَدْيه، ويدعى إلى الاستنان بسنته، واتباع شرعته، أمر مطلوب وإن لم يفعله السلف، لأنه من الأمر بالمعروف الذي يحسن في كل وقت. أما قراءة هذه الموالد المكذوبة، والاجتماع على اللهو والغناء واغتياب الناس وأمثال هذا فلا يجوز أبداً.

هذه سيرة رجل كان من أنفع الناس للناس، ومن أعدل الملوك في الرعية، ومن نماذج الحكم الصالح، وكان ذلك طبعاً فيه لا تطبعاً، وكان يقدّم إليه الطعام فيأكل منه لقمة فيستطيبه فيقول:

ارفعوه وخذوه إلى فلان الفقيه أو فلان الفقير. وكان يستحسن الثوب فيخلعه ويقول: خذوه إلى فلان الصالح أو فلان المحتاج.

وكان قائداً من أبرع القواد ومحارباً من عباقرة المحاربين.

توفي ليلة الأربعاء 18 رمضان سنة 630هـــــــ.

رحمه الله وغفر له ما أساء فيه.

***

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

(۱) وهي ولاية إلى جنب الموصل، ويسمونها اليوم اربيل.

(1) أي من هذا الفاسد.

وسوم: العدد 858