جمال الدين الأفغاني

أ. محمد سعيد الطنطاوي

السيد محمد جمال الدين بن صفتر - أو صفدر، ومعناها مخترق الصفوف - الحسيني الأفغاني. ولد بأسعد آباد من أعمال كابل قاعدة بلاد الأفغان سنة 1254هــــــ، فهو إذن شريف النسب ينتمي إلى الحسين بن علي رضي الله عنها، ولما كان في الثامنة من عمره، انتقل به والده إلى كابل، وألحقه ببعض مدارسها القديمة، فأخذ على أساتذتها علوم العربية والتاريخ والانشاء، والعلوم الدينية والفلسفية على اختلاف أنواعها، ولما أتم دراسة هذه العلوم على الطريقة القديمة، رحل إلى الهند، فدرس فيها بعض العلوم الحديثة، وتعلم اللغة الانجليزية، فجمع بذلك بين الثقافة القديمة والحديثة.

وتعلم الفرنسية وهو كبير، أتى بمن يعلمه الحروف الهجائية، ثم انفرد بتعليم نفسه نحو ثلاثة أشهر، يحفظ من مفرداتها، حتى استطاع أن يقرأ من كتبها ويترجم منها، ثم توسع في ذلك أثناء إقامته في باريس.

وفي سنة 1273 هــــ توجه إلى الحج ودعا خلال ذلك إلى فكرة الجامعة الاسلامية، لإيقاظ المسلمين وتنبيههم إلى أخطار الاستعمار، وأنشأ لهذا جمعية سماها " جمعية أم القرى "، ومجلة تحمل نفس الاسم.

ثم عاد إلى أفغانستان، واتصل بأميرها " دوست محمد خان" ثم اتصل من بعده بالأمير " محمد أعظم "، فجعله رئيس وزرائه لينهض ببلاد أفغانستان حتى تقوى على رد الطامعين فيها من الانجليز وغيرهم، فعمل الانجليز على إثارة الفتن في أفغانستان، وتمكنوا من عزل الأمير "محمد أعظم" وتولية أمير أخ يرضون عنه، فأخذ جمال الدين يعمل على إثارة الشعب الأفغاني على الإنجليز والأمراء المستبدين ليقضوا على نفوذ الإنجليز في بلادهم.

ثم أراد أن يجعلها ثورة إسلامية عامة على الانجليز وغيرهم من الأوربيين الطامعين في المسلمين، وكأن الاسلام قد أعدّه لهذه الثورة بما منحه من لسان فصيح، وقلب قوي، وثقافة واسعة، فرحل إلى الهند وأخذ يدعو إلى الإصلاح الديني والسياسي والعلمي والاجتماعي بين أهلها، حتى ضاق الانجليز به وأحاطوه بجواسيسهم في كل حركاته وسكناته، واضطروه أن يرحل من الهند إلى مصر، وذلك سنة 1286هـــــ.

وأقام بمصر أربعين يوماً، ليتركها إلى استنبول بدعوة من السلطان عبد العزيز، ولكن إصراره على دعوته لتنبيه المسلمين من غفلتهم، وشدته في ذلك، أثارت عليه عدداً من العلماء، الذين لم يألفوا الأسلوب الجديد، ولم تهدأ الفتنة بينهم إلا برحيله عنها إلى مصر عام 1288هــــ.

وبقي في مصر ثمان سنين ينبه النفوس، ويوقظ العقول، ويثير مع الاستعمار والاستبداد. ويواصل في الوقت نفسه دروسه لخيرة الطلاب، لتثقيفهم وتعويدهم على النظر الواعي الصحيح. وكان يأخذ بتلاميذه فيرفعهم إلى مستوى يسيطرون فيه على الكتاب، ولا يستعبدهم الكتاب، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقيقة ذاتها، وكان من أنبه هؤلاء الطلاب الشيخ محمد عبده، الذي أصبح من أعلام عصره في مصر.

ولم يكتف جمال الدين بهذه الدروس التي كان يثقف بها هؤلاء الطلاب ويهذبهم، فأخذ يعقد الندوات، لبث الوعي الصحيح، على أوسع نطاق يستطيعه. ولما استبطأ هذا أيضاً ورآه أضيق من جهوده وحماسه، انتسب إلى المحفل الماسوني ليكون ميداناً له يبث فيه آراءه بحرية، فلما تبين له أن أعضاءه إنما يتشدقون بالألفاظ الرنانة ليخفوا بها حقيقتهم الكالحة، وأنهم كرهوا كلامه ومحاولاته ووقفوا في طريقه، نقدهم بأسلوبه العنيف، وقرعهم بقارص الكلام، واستقال من محفلهم لينشئ محفلاً آخر يكون فيه مطلق الحرية، فعظم الإقبال عليه، واتسعت دائرة نشاطه، وأحدثت هزة في البلاد لا تقل عن الهزة الفكرية التي أحدثها بدروسه وندواته.

***

ماذا كان يريد السيد جمال الدين في مصر؟

كان يريد في درسه النظامي توسيع عقول الطلبة وتفتيح آفاق جديدة في فهم العالم، وتعليم الحرية في البحث، وإيجاد شخصيات من الطلبة تبحث وتنقد وتحكم، خالفت النص أو وافقته (1)، خالفت المألوف المعروف أو وافقته.

وكان يريد في درسه العام أن يتحرر الشعب من العبودية للحكام، ويفهموا موقفهم من الحاكم، وموقف الحاكم منهم، كل يعرف حدوده ويؤدي واجبه، فإذا تخطى الحاكم هذه الحدود، قال له الشعب: لا، بملء فيه.

كما كان يريد تكوين رأي عام واسع الثقافة، قوي، حازم، يفهم الأمور الداخلية والخارجية ويكون في كل ما يعرض من الحوادث العظام رأياً يقنعه، ثم يفرضه على أولي الأمر منهم حتى لا يتلاعبوا به، يفهم أن من حقه أن يعيش عيشة صالحة ينعم بدخله، وله غلة جهده، فإذا أخذت الحكومة منه الضرائب فعلى قدر ما تستدعيه المصالح العامة، لا الشهوات الشخصية. ولذلك كان من حقه الإشراف على وجوه الدخل والخرج.

وكان يريد في السياسة أن يقتنع الشعب بحقه في الحكم فإذا فهم ذلكـ وهذا ما عمله جمال الدين وصحبه - طالب بالمجلس النيابي، فيُعطاه بناء على فهمه وطلبه وقدرته، لا على أنه منحة تمنح له، فإذا ما أعطيه بجهده كان أجدر بالمحافظة عليه، وحرص عليه حرصه على دمه، فاستقر وثبت، ولم تستطع سلطة ما أن تلغيه أو تهمله.

ولكن هذا كان أكثر من أن يحتمله الإنجليز - الذين كانوا قد بدؤوا يتسلطون على مصر - أو الحكام المستبدون، فقرروا في 6 رمضان سنة 1296 - نفيه عن مصر، وأودع باخرة سارت به إلى بومبي.

وبقي جمال الدين في الهند ثلاث سنوات ألف أثناءها رسالته في الردّ على الدهريين، أبطل فيها مذهبهم، وأظهر جهلهم وسفه إلحادهم، وبينّ أن الأساس الوحيد للفرد الصالح والمجتمع الصالح هو الدين. ثم بلغته أخبار الثورة التي قام بها عرابي في مصر على توفيق باشا وأن الانجليز يريدون استغلال هذه الثورة للاستيلاء على مصر، فأراد أن يشغلهم عن ذلك، بثورة يقوم بها في الهند، ولكن الانكليز شعروا به فضيقوا عليه حتى تمكنوا من التغلب على الثورة المصرية وتشريد زعمائها، ومنهم الشيخ محمد عبده الذي نفي إلى بيروت.

ثم نفاه الانجليز عن الهند، فذهب إلى لندن، ولكنه لم يقم بها طويلاً فغادرها إلى باريس، وهناك استدعى إليه الشيخ محمد عبده من منفاه في بيروت، فقدم إليه سنة 1301 حيث أسسا معاً هناك جمعية "العروة الوثقى" من مسلمي الأقطار المختلفة، ومجلة سمياها أيضاً مجلة " العروة الوثقى" لتدعو المسلمين إلى النهوض في دينهم ودنياهم، وتحرضهم على المستعمرين لبلادهم، ولا سيما الانجليز، كما تحرضهم على الثورة على المستبدين من ملوكهم ليكونوا أحراراً في بلادهم، ويمكنهم النهوض بما بقي منها في أيديهم.

وقد تألب المستعمرون، والملوك المستبدون، على هذه المجلة وحاولوا دون تمكين المسلمين من قراءتها، وحرموا دخولها إلى مصر والهند، فاضطرت إلى التوقف بعد ثانية أشهر - من 15 جمادى الأولى سنة 1301، إلى 26 ذي الحجة سنة 1301 - صدر خلالها ثمانية عشر عدداً. وكان لها أثر كبير في إيقاظ كثير من المتنورين في الشرق، وتبصيرهم بالشرور التي جلبها لهم الاحتلال. ولم يقتصر أثرها على الشرق، بل تعداه إلى أوروبا نفسها، حتى أن الانجليز - وقد أحسوا بأثر العروة الوثقى في تهييج الرأي العام على انجلترا - طلبوا من جمال الدين أن يتفاهموا معه، فأرسل إليهم الشيخ محمد عبده، الذي أجرى عدة مباحثات مع ساستهم. لم تأت بنتيجة بالطبع - كمباحثه مثلاً مع لورد هرتنكتن وزير الحربية الانجليزية، الذي سأله: ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الانجليز، وهي خير من سلطة الأتراك ومن جاء على أثرهم، خصوصاً وأن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأنهم جميعاً لا يفرقون بين حاكم أجنبي وحاكم مصري؟ فرد الشيخ محمد عبده ما خلاصته: أن هناك في المصريين من يحبون أوطانهم حب الشعب الانجليزي لبلاده، وأرض مصر منذ زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والمعارف، وأخذ كل من أبنائها نصيباً على قدره، ولا تخلو قرية مصرية من قارئين وكاتبين، يقرؤون الجرائد العربية ويوصلون ما فيها إلى من لم يقرأ، والنفرة من ولاية الأجنبي من طبيعة البشر، فضلاً عما لتعاليم الإسلام في هذا الشأن.

وبقي جمال الدين في أوروبا إلى أن دعاه ملك فارس الشاه ناصر الدين، فسافر إليه جمال الدين سنة 1303، فأكرمه وقربه وعينه وزيراً للحربية، على أن يجعله بعد ذلك رئيساً لوزرائه، فقام بدعوته الإصلاحية في فارس، حتى كثر أنصاره فيها، وقوي سلطانه على نفوس المثقفين من أبنائها، فخاف منه الشاه على سلطانه، وخشي منه الجامدون من العلماء على سلطانهم، فأخذوا يناهضون ما يدعو إليه.

فطلب جمال الدين من الشاه ناصر الدين أن يأذن له في رحلة إلى روسيا، فساح فيها مدة، ثم انتقل منها إلى فرنسا - وكان الشاه ناصر الدين قد رحل إلى فرنسا أيضاً ـ فلقي جمال الدين فيها، وألح عليه أن يعود معه إلى فارس، على أن يجعله رئيس وزرائه، فرجع معه إليها، وعاد إلى دعوته الاصلاحية فيها، ثم عرض على الشاه أن يجعل حكومته دستورية على نظام حكومات أوروبا، فقاومه أعداء الإصلاح، وعملوا على الإفساد بينه وبين الشاه ناصر الدين حتى نفاه من فارس.

فقصد جمال الدين إلى العراق، ثم غادرها إلى انجلترا حيث أنشأ فيها مجلة ساها "ضياء الخافقين"، نهج فيها منهج مجلة " العروة الوثقى"، وكان يحمل فيها على الشاه ناصر الدين، ويؤلب عليه الأحرار من أبناء فارس. وحاول الشاه إغراءه ليكف عن حملاته فلم يفلح اغراؤه، فاستعان عليه، فيما يقال، بالسلطان عبد الحميد، الذي ما زال يتلطف بدعوة جمال الدين إلى استانبول حتى رضي بالقدوم عليه، فقربه منه، وجعل يستشيره في شؤون دولته، ولا يقصد من ذلك إلا أن يراقب حركاته ويبقيه على القرب منه، وخاصة لما وردت الأخبار بمقتل الشاه على يد أحد أتباع جمال الدين.

وبقي جمال الدين على هذا الحال إلى أن مرض بالسرطان في فكه الأسفل وتوفي سنة 1314هـــــ رحمه الله تعالى.

***

وقد وصفه تلميذه محمد عبده، بأنه كان ربعة في طوله، وسطاً في بنيته، قمحياً في لونه، عصبياً دموياً في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين، عظيم الاحداق، ضخم الوجنات، رحب الصدر، جليل المنظر، هشاً بشاً عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خُلقه ما ينطبق على كمال خَلقه.

أما أخلاقه، فسلامة القلب سائدة في صفاته، وكان له حُلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلا أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينا هو حليم سر وإذا هو أسد وثاب. وكان كريماً يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي بما تأتي به صروف الدهر.

وكان قليل الاحتفال بالأكل، قليل النوم، كثير السهر، قوي الشهوة للكلام، تواتيه المعاني ويطاوعه اللسان.

ولما أخرج من مصر، ذهب بعض محبيه يحملون له إلى السويس، مقداراً من المال عرضوه عليه وسألوه أن يقبله قرضاً، فأبى وقال: أنتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسته حيثما ذهب.

ورأى بعض الناس مرة يجمعون إعانة لأحد الأشخاص فسألهم: أهو مريض؟ قالوا: لا. قال: هل هو صحيح البنية؟

قالوا: نعم. قال: صحة البدن وذل السؤال لا يصح أن يجتمعا لإنسان.

ولما استدعاه السلطان عبد الحميد إلى استانبول، كان في انتظاره لما وصل إليها الياور السلطاني، فسأله: أين صناديقك أيها السيد؟ فقال: ليس معي غير صناديق الثياب، وصناديق الكتب.

قال الياور: حسناً أين هي؟ فقال السيد: صناديق الكتب هنا - وأشار إلى صدره - وصناديق الثياب هنا - وأشار إلى جبته -.

وعاش جمال الدين - كالشيخ عبد الحكيم وابن عابدين – عزباً طول حياته. وكان كلما شكا إليه أحد كثرة العيال وقلة ذات اليد يعينه على قدر استطاعته، فعرض عليه السلطان يوماً أن يزوجه جارية حسناء من قصر يلدز، فامتنع السيد من ذلك. فسئل: ما تؤيد رأي أبي العلاء:

هذا جناه أبي عليـــــ        ـــــيَّ وما جنيت على أحد؟

قال: كلا، وكيف يصح لعاقل أن يعتبر الزواج جناية، وبه بقاء النوع واستكمال العمران؟ أما أنا فمعرفتي بما تتطلبه حكمة الزواج من معاني العدل وعجزي عن القيام به دفعني أن اتقي عدم العدل ببقائي عزباً.

وكان السيد كثير الإعجاب بذكاء الشيخ محمد عبده وفضله، وكان كلما ذكره يقول: صديقي الشيخ. وكان السيد عبد الله نديم في آخر أيامه يكثر التردد على منزل جمال الدين، فقال له يوماً: قد اكثرت من الثناء على الشيخ محمد عبده كأنه لم يكن لك صديق غيره، وتنعت غيره بقولك: صاحبنا أو فلان من معارفنا. فتبسم السيد جمال الدين وقال: وأنت يا عبد الله صديقي، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ أنه كان صديقي في الضراء، وأنت صديقي في السراء.

***

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 858