أنفاس الحرية على دروب الإيمان..

في صباحات دمشق النديّة، حيث تتسلل أشعة الشمس عبر أزقتها القديمة، ويصدح الأذان من مآذن الجامع الأموي، بدأت قصة جديدة للحجاج السوريين في عام 2025، العام الأول بعد التحرير. كان الحجّ هذا العام ليس مجرد فريضة دينية، بل رحلة روحيّة تحمل في طياتها أنفاس الحرية، وأصداء وطن يتنفس من جديد بعد سنوات من القهر والشتات والتشرد.

وعلى مدرج مطار دمشق الدولي، وقفت قوافل الحجاج، وجوههم مضيئة ببسمات الأمل، وأياديهم تمسك بجوازات سفر لم تعد تخشى أختام الأمن أو تهديدات الطريق. لأول مرة منذ أربعة عشر عاماً، غادر 22,500 حاجّ سوري بلدهم الحبيب إلى الأراضي المقدّسة، يحملون في قلوبهم دعوات لوطن يتعافى، ولشعب يبحث عن سلام طال انتظاره.

كان المشهد لوحة إيمانية رائعة، تجمع بين دموع الفرح وأناشيد الشوق، وهم يُودّعون مدينتهم التي عادت إليهم، كما يعود الحاجّ إلى ربّه. حاجّةٌ سورية ابنة دمشق البالغة من العمر أربعة وثمانين ربيعاً، تقف متكئة على عصاها، عيناها تتلألآن فرحاً وطرباً وهي تهمس: "ما زلت أحلم.. هل حقّاً سيطأ قلبي أرض الحرم؟". كلماتها تحمل صدى سنوات من الحرمان، عندما كان الحجّ حُلماً بعيد المنال، يتطلّبُ عبور حدود مُشتعلة، أو جوازات مزورة، أو رحلات محفوفة بالمخاطر إلى دول الجوار، أو عودة مُرعبة. لكن اليوم، يحمل حُجاجنا جوازاً سوريّاً يحكي قصّة وطن حُرّ، ويغادرون من مطارِ عاصمتهم بكرامةٍ وعزّةٍ وفخر لم يعرفونها منذ عقود.

في ظلّ النظام البائد، كان الحجّ مغامرة محفوفة بالمخاطر، كانت قوافل الحجاج تتسلل عبر معابر الحدود، تحمل أرواحاً مُرهقة تخشى الاعتقال أو المصادرة. يروي الحاج أحمد، الذي حُرم من الحجّ ذات عام بسبب جواز سفر مرفوض، كيف كان النظام يُصادر حتى مياه زمزم والتمور، كأنّما يُعاقبُ الحُجّاج على إيمانهم وعبادتهم. أمّا اليوم، فقد تبدلت الصورة تماماً، التأشيرات تُستخرج الآن من قلب دمشق، عبر نظام إلكتروني يُسهل الإجراءات، والإقامة في مكّة باتت في فنادق مريحة، والحاجّ يغادر مطاره وموظفو بلده يودّعونه بكل حبّ واحترام، بل يجد وزير أوقاف دولته يودّعه بعينين تلمعان بالفخر قائلاً: "هذا الحجّ الأول بعد تحرير سورية، حيث يسافر الحاج بلا خوف، ويعود بلا قيود". كلماته لم تكن مجرد خطاب رسمي، بل وعد بمستقبل يُعيد للسوريين كرامتهم، ويجعل من حجّهم رحلة إيمان وسلام. ثمّ يصلُ بلاد الحجاز فيجد أهلنا في المملكة يستقبلونه بالورود والابتسامة والتكبير والضيافة الكريمة والخدمة الطيبة.

في الأراضي المقدسّة، سيكون الحُجّاج السوريون رسل الوطن الجديد، سيقفون على صعيد عرفات الخير، يرفعون أكفّهم بالدعاء لبلدهم سورية ولأهلها، للنازحين واللاجئين والمصابين، ولكلّ من حمل وطأة الحرب. أمّا رئيسنا أحمد الشرع، فقد توجه برسالة طيبة مؤثرة عبر الفيديو، دعا فيها حجاج سورية أن يكونوا "أفضل رسل لسورية"، فحملوا في قلوبهم دعوات لوطن ينهض من رماده، كما ينهض الحاج من ذنوبه بعد الحجّ. حتى أنّ جميعهم يدعون بمحبّة وصدق وإخلاص من كلّ قلوبهم لرئيس وقائد هذا البلد.

لقد كان مشهد الحجاج عموماً والسوريين بشكل خاص لوحة من الأمل الجميل الذي ينتظره كلّ مسلم، بثيابهم البيضاء، يمزجون دموعهم بابتساماتهم، يروون قصص السنوات العجاف، ويتبادلون آمالهم المستقبلية، كلّ خطوة كانت تروي حكاية وطن، وكلّ دعاء كان يحمل أمنية بعودة النازحين، وبناء سورية التي تستحق أبناءها ويستحقونها.

ورغم هذا النور، لا تزال ظلال الماضي الحزين تلقي بثقلها، الاقتصاد الهشّ، وطرقات الوطن التي ما زالت تحتاج إلى إعادة إعمار، تجعل من الحجّ تحدياً لبعض السوريين. لكن الأمل يبقى أقوى، فالحكومة الانتقالية، التي أشرفت على تنظيم هذا الموسم بكفاءة، تَعدُ بمستقبلٍ يسهل فيه الحجّ، ويصبح في متناول الجميع، كما كان في أيام سورية القديمة قبل عهد العائلة المجرمة، عندما كانت قوافل الحجّ تنطلق من دمشق إلى مكة في مواكب الفرح.

موسم الحجّ لعام 2025 لم يكن مجرد رحلة إلى بيت الله الحرام، بل كان استعادة لروح سورية، وتجديداً لعهد الكرامة. من مطار دمشق إلى جبال مكّة، حمل الحُجّاج السوريون أحلام شعب، ودعوات وطن يتعافى، كانوا كالطيور التي عادت إلى أعشاشها بعد عاصفة طويلة، تحمل في أجنحتها بشائر الربيع، ومع كلّ خطوة في هذه الرحلة المقدّسة، كانت سورية تكتب فصلاً جديداً من قصّتها، فصلاً يبدأ بالحريّة، وينتهي بالسلام.

وسوم: العدد 1128