العالم الورع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة

المستشار عبد الله العقيل

(1336 - 1417ه / 1917 - 1997م)

معرفتي به

كان معروفًا لديّ بآثاره وأخباره عن طريق إخواني في سورية، ثم كان لقائي الأول به حين زرته في بيته بمدينة حلب عام 1965م، في طريقي إلى تركيا، حيث سعدتُ به، ورأيتُ فيه من صفات التواضع والبشاشة والخلق الكريم والأدب الجمّ والبساطة في الحديث، والعمق في الفهم، والتدقيق في المسائل العلمية، ما ترك أبلغ الأثر في نفسي.

وحمدتُ الله على أن عرفته عن قرب بعد أن كانت معرفتي به سماعية، ثم شاء الله عزّ وجلّ أن تتكرر اللقاءات في سورية والكويت والأردن والسعودية وأوروبا وغيرها، فزادت المعرفة، وتوثقت العلاقة إذ وجدت فيه العالم العامل، والداعية الصادق، والمؤمن الزاهد، والفقيه المتمكن، وكان يتميز بالهدوء وطول الفكر والتأمل ودقة الملاحظة مع التواضع الشديد وعدم التكلف.

مولده ونشأته

وُلد في منتصف شهر رجب عام (1336ه / 1917م) في مدينة حلب الشهباء بسورية، وكان والده وجده يحترفان التجارة بصنع المنسوجات الغزلية، وقد نشأ في حجر والده الذي كان محبًا للعلماء حريصًا على حضور مجالسهم وسماع دروسهم ومواعظهم، ثم لما بلغ الشيخ عبد الفتاح الثامنة من عمره أُدخل المدرسة العربية الإسلامية الخاصة، ثم دخل المدرسة الخسروية وهي ثانوية شرعية، وبعد التخرج ذهب إلى مصر للدراسة بالأزهر فالتحق بكلية الشريعة حتى حصل على شهادة العالمية عام 1948م، ثم تخصص في أصول التدريس بكلية اللغة العربية بالأزهر وتخرج فيها عام 1950م عاد بعدها إلى بلاده سورية.

مشايخه وتلامذته

وقد تلقى العلم على مشايخ كثيرين في مصر وبلاد الشام والهند وغيرها، كما حصل على جائزة عالمية لخدمته الحديث النبوي الشريف، ومن أبرز مشايخه في حلب الشيخ أحمد الزرقا وابنه الشيخ مصطفى الزرقا.

كان الشيخ عبد الفتاح من علماء بلاد الشام الأفذاذ، ومن رجال الدعوة المعروفين، ومن قادة الحركة الإسلامية المبرزين، وكانت له المنزلة الكبيرة في نفوس العلماء في العالمين العربي والإسلامي، وفي نفوس أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة وعامة الناس.

وقد تخرّج على يديه الكثير من طلبة العلم، وشباب الدعوة في حلب ودمشق والرياض، حيث درّس بالمدارس الثانوية بحلب، ثم بكلية الشريعة بجامعة دمشق، ثم بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم بجامعة الملك سعود بالرياض.

أما تلامذته في ميدان الدعوة فهم منتشرون على صعيد العالم العربي والإسلامي كله، وقد كانت له رحلات علمية ودعوية في معظم أنحاء العالم.

كان الشيخ أبو غدة حنفي المذهب، ولكنه كان يكره تتبع الرخص والأخذ بشواذ الأقوال والتعصب المذهبي.

مؤلفاته

لقد ألّف أبو غدة وحقق حوالي مئة كتاب معظمها في خدمة الحديث النبوي الشريف وقد طبع منها أكثر من ستين كتابًا ومما حقق:

- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام اللكنوي.

- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة في علوم الحديث للكنوي.

- إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة للإمام اللكنوي.

- رسالة المسترشدين للإمام الحارث المحاسبي في الأخلاق والتصوف النقي.

- التصريح بما تواتر في نزول المسيح للإمام محمد أنور شاه الكشميري.

- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي.

- فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية في الفقه الحنفي للإمام علي القاري.

- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية.

- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للإمام علي القاري.

- فقه أهل العراق وحديثهم للعلاّمة محمد زاهد الكوثري.

كما ألَّف عددًا من الكتب منها:

- مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل.

- صفحات من صبر العلماء.

- كلمات في كشف أباطيل وافتراءات.

- العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج.

- الإسناد من الدين.

- السنة وبيان مدلولها الشرعي.

- تحقيق أسمى الصحيحين.

- منهج السلف في السؤال عن العلم.

- قيمة الزمن عند العلماء.

- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث.

كما حقَّق الكتب التالية:

- من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر.

- أمراء المؤمنين في الحديث.

- المتكلمون في الرجال للسخاوي.

- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي.

- قصيدة (عنوان الحكم) للبستي (تعليق).

- الموقظة في علم مصطلح الحديث للذهبي.

- الباهر في حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) في الباطن والظاهر للسيوطي.

- الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر.

- ترتيب وتخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي.

- الجمع من الترتيب لاحاديث تاريخ الخطيب.

وفوق هذا له إسهامًا في تأليف الكتب المدرسية للمرحلة الثانوية بالاشتراك مع زميله الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، كما أنه أتم وأنجز كتاب (معجم فقه المحلى لابن حزم) أثناء انتدابه للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق.

كما شارك الشيخ أبو غدة في وضع مناهج المعهد العالي للقضاء بالرياض وكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومناهج الدراسات العليا في كلية التربية (قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود).

هذا غير مئات المحاضرات والندوات والخطب والدروس في البلاد العربية وخارجها حيث كان له الدور الفاعل والمؤثر.

وموقع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في حلب كموقع الشيخ محمد الحامد في حماه، والدكتور مصطفى السباعي بدمشق، والشيخ محمد علي مشعل في حمص، فكل من هؤلاء ينهض بدوره في توعية جماهير الأمة إلى حقيقة الإسلام وضرورة الالتزام به والدعوة إليه والذود عن حياضه والغيرة على حرماته والسعي لتطبيق أحكامه في واقع الحياة ودنيا الناس والمشي في حوائج المسلمين وإصلاح ذات بينهم والعمل الجاد لتربية النشء على منهج الإسلام الصحيح من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة، وكان الشيخ أبو غدة مثال المسلم الملتزم بأحكام الإسلام في نفسه وأسرته ومجتمعه.

قالوا عنه

يتحدث عنه ابنه سلمان أبو غدة فيقول:

«كان والدي صبورًا على الطاعة والابتلاء حريصًا على الصلاة حرصًا شديدًا، له ورده اليومي من تلاوة القرآن الكريم، دائم الذكر لله، يسبح ويحمد ويهلل ويكبر.

وكان سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن الكريم وعندما يذكر الله (عز وجل)، وكان مجمع الفضائل والشمائل، كريمًا غاية الكرم، أديبًا خلوقًا لا يؤذي أحدًا بكلامه، وكان ظريفًا خفيف الروح ذواقًا في ملبسه ومشربه وتنعله، كما كان مرتبًا في مكتبته، ورغم أن الله ابتلاه بفقد السمع في إحدى أذنيه وعدم الإبصار في إحدى عينيه، فما رأيته شكا أو تشكى، ولا ثناه ذلك عن الإنتاج العلمي، بل تجمل بالصبر والتسليم والمثابرة على التأليف والتحقيق مخافة أن يدركه الأجل ولم يخرج ما في صدره من الكتب.. (مجلة المجتمع العدد 1253)».

ويقول عنه الشيخ وهبي غاوجي:

«أشهد.. لقد كان شيخنا الشيخ عبد الفتاح بكاءً، فما أسرع ما تدمع عيناه من حرقة قلبه إذا دعا داع إلى ذلك، لقد بكى أمامه أحد طلابه وهو يعرض مأساته فبكى له الشيخ، وحين التقى الشيخ أبو غدة بالعلاّمة الشيخ محمد يوسف البنوري في المسجد النبوي الشريف، تحادثا واقفين ثم اتجها إلى القبلة فأخذا يدعوان ويبكيان، وما أخال أحدًا يقرأ تعليقات الشيخ عبد الفتاح على رسالة المسترشدين إلاّ ويبكي مرارًا».

عزة النفس:

وعن عزة نفسه وزهده واحترامه للعلم واستعلائه بإيمانه يقول عنه الشيخ قيس آل الشيخ مبارك:

«الشيخ أبو غدة عالم آتاه الله علمًا شريفًا، وإسنادًا منيفًا، وتحقيقًا بديعًا.. رجل علا بنفسه عن سفاسف الحياة الدنيا، وعلا بالعلم الذي بين جنبيه عن سوق التسول والاتجار.

وكان بهي الطلعة عذب الروح حلو الشمائل مع صفاء في الرؤية وجودة في الذهن وحضور في البديهة، وكان في العمل مثال الداعية إلى الله، عرفته مراكز الدعوة الإسلامية ففقدت بفقده داعيًا، ومعلمًا، ومرشدًا وكان علمه وعمله مكسوّين بحلية التقوى».

وأما عن الرفقة الطويلة والزمالة والعشرة فيحدثنا الأخ الدكتور محمد علي الهاشمي فيقول عنه:

«لقد عرفت العلاّمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة منذ نحو خمسين سنة، كانت العلاقة بيننا علاقة أخوة وقرابة مصاهرة، فلم أجد خلال هذه المدة الطويلة منه إلا المودة والبر، والوفاء، والمروءة، والنبل، والإيثار، والصدق، والصفاء، والتسامح، وكرم النفس، وحسن الخلق، لقد بكته القلوب قبل العيون، لأنها فقدت بموته العالم الثبت المحقق الصدوق، الذي عرف شرف العلم فوهب له نفسه ووقته وماله، وأدرك أثره الكبير في تعميق الثقافة الإسلامية لدى أجيال المسلمين الصاعدة في العالم الإسلامي، فعكف على التأليف والتحقيق وخلف أكثر من ستين كتابًا في شتى جوانب العلوم الإسلامية وترك نحوًا من ثلاثين كتابًا تحت الإعداد، عاجلته المنية عن إنجازها وتقديمها للطبع. (مجلة المجتمع العدد 1241)».

وعن اهتمامه بالعلم وطلبه والسعي له في مظانه والرحلات من أجل لقاء العلماء والوقوف على التراث الإسلامي واستخراج كنوزه يحدثنا الشيخ عمر الجيلاني عن رحلة الشيخ أبو غدة إلى الهند فيقول:

«قامت في القارة الهندية نهضة علمية لخدمة الحديث النبوي الشريف، لا أحسب أن لها مماثلًا في مكان آخر من ديار الإسلام، لا من حيث الكثرة في الدارسين والمؤلفين، ولا من حيث تنوع المباحث واتساعها، وتكونت بها مكتبة عظيمة في هذا العلم الشريف كانت موصدة أبوابها، مسدلة عليها الستور فكان للشيخ عبد الفتاح أبو غدة الفضل العظيم في فتح رتاجها وكشف حجابها واستخراج كنوزها وإدناء ثمارها اليانعة وعرضها على طرف الثمام لمبتغيها، مع تحقيق لنصوصها وتعليقات يندر وجودها في العصور المتأخرة.

عاد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من الهند بعد أن وردها عام 1382ه بمغانم كثيرة كان من أثمنها تراث ثلاثة من كبار علمائها وهم الإمام محمد عبد الحي اللكنوي والإمام أحمد العثماني التهانوي والإمام محمد أنور الكشميري. (مجلة المجتمع العدد 1241)».

وعن ثناء العلماء الأعلام الكبار على جهوده العلمية يقول الشيخ حسنين محمد مخلوف - مفتي الديار المصرية - في تقريظه للطبعة الأولى من كتاب (رسالة المسترشدين):

«وبعد.. فإني أحمد الله تعالى إليكم إذ وفقكم لنشر (رسالة المسترشدين) للإمام المحاسبي بتحقيقكم القيم الذي ألممتم فيه بما ينبئ عن غزير علمكم ودقيق بحثكم.. وازدانت به (الرسالة) رواء وجمالًا وازدادت به نفعًا وكمالًا».

أما الشيخ العلاّمة محمد أبو زهرة فكتب له رسالة قال فيها:

«فإن الأيام السعيدة التي قضيتها بصحبتك الطيبة الخالصة التي رأيت فيها إخلاص المتقين وظرف المؤمنين واصطبار الأصدقاء على بلاغة الأولياء، وإن هذه أيام لا أنسى ما بدا منك فيها من طبع سليم ولطف مودة وحسن صحبة».

أما شيخه العلاّمة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا فقال في تقريظه لكتاب (صفحات من صبر العلماء):

«أخي الأثير الحبيب، الذي له في قلبي محبة أكبر من قلبي، وله في نفسي وقار وإن كان أصغر مني سنًا».

هذا هو العالم الجليل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الذي نشأ في رحاب العلم وتتلمذ على العلماء والتقى بمجدد الدعوة في القرن الرابع عشر الهجري الأستاذ الناصح الراشد المرشد - وهذه تسمية أبو غدة للإمام الشهيد حسن البنا - وسار مع إخوانه الدعاة في بلاد الشام يرفعون راية الإسلام ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الأجنبي والتصدي لموجة التغريب العلماني الوافدة من الغرب والفكر الماركسي والهجمة الصليبية والصهيونية، فكان إسهامه في المجالين: الدعوي، والعلمي واضح المعالم بالغ الأثر وكانت أحاديثه لشباب الدعوة فيها التوجيه السديد والرأي الرشيد الذي يمنع الاندفاع والتهور والغلو والتطرف ويلزمهم المنهج النبوي في الدعوة إلى الله والصبر على لأواء الطريق، كما يحثهم على طلب العلم والتخصص في مجالاته المختلفة لأن الأمة المعاصرة في حاجة ماسة إلى المتخصصين في ميادين المعرفة، ولن يكون ذلك إلاّ بمداومة القراءة والاطلاع على مستجدات العصر ومواكبة الأحداث المتسارعة على ضوء التصور الإسلامي.

من أقواله المأثورة

- «الكتاب لا يعطيك سرّه إلاّ إذا قرأته كله، مزية العالم أن يوقظ العقل بظل الشرع، درهم مال يحتاج قنطار عقل، ودرهم علم يحتاج قنطاري عقل».

وهو قد فعل هذا فيما يؤلفه من كتب؛ فقد قضى عشرين عامًا في تأليف كتاب (صفحات من صبر العلماء) لأنه كلما وجد شيئًا يناسب الموضوع كتبه في قصاصة وجمعه.

وبعد هذا العمر المديد المبارك، شاءت إرادة الله (عز وجل) أن ينتقل إلى جوار ربه ويغادر هذه الدنيا الفانية، حيث توفاه الله يوم الأحد 9 شوال 1417ه الموافق 16/2/1997م بمدينة الرياض، ثم نقل في اليوم التالي إلى المدينة المنورة - حسب رغبته - وصلي عليه عقب صلاة العشاء، ودفن في مقبرة البقيع عن عمر يناهز الثمانين.. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألحقه بالصالحين من عباده، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 863