الشيخ هشام الحمصي... فقيد المنابر

د. محمد حسان الطيان

د. محمد حسان الطيان

رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت

عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

[email protected]

[email protected]

جَزِعتُ  وللحرِّ  أن يجزعا          وودَّعتُ صبريَ إذ ودَّعا

وجادَتْ عيوني على بُخلِها          وحُقَّ لها اليومَ أن تدمعا

و ما  دارَ  في خَلَدي أنَّني          أرى العلمَ يرضى الثَّرى مضجَعا

فقُل  للخطابةِ  ذوبي  أسًى          ولا تطلُبي بعدَهُ مِصقَعا

الحمد لله وكفى.. والصلاة والسلام على سيِّدنا المصطفى.. وعلى آله وصحبه ومن وفَّى ووفى.

وبعد،

فقد فقدَت أعواد المنابر - في بلاد الشام خصوصًا وفي العالم الإسلامي عمومًا - خطيبًا من ألمع خطبائها، وفارسًا للكلمة من أبرع فرسانها، وداعيًا إلى الحنيفية السَّمحة من أخلص دعاتها، وعالمًا بفقه الموازنات والأولويات والمصالح الشرعية من أجلِّ علمائها.

ذلكم هو العلامة الشيخ هشام عبد الرزاق الحمصي خطيب الأدباء وأديب الخطباء.

عرفته منذ نحوٍ من أربعين عامًا (1973م) يعتلي منبرَ مسجد الفردوس القريب من سكني في حي السادات، فما سمعت خطيبًا أفصح ولا أحكم ولا أجزل ولا أوفى منه (عدا شيخَنا الشيخ كريم راجح حفظه الله فذاك نمط آخر)، ثم تبعته مع الآلاف الذين تبعوه وتابعوه في تنقُّلاته بين مساجد بدر.. فسعد.. فالثناء، فما ازاداد هو إلا ضياء كالبدر، وما ازددنا نحن إلا سعدًا به وثناء عليه، ونسأل المولى أن يجمعَنا به في الفردوس كما عرفناه أولاً في جامع الفردوس.

كان أمَّةً في الفصاحة والبيان، يتغنَّى بالعربية، ويرى تعلُّمَها من الدين، ويحثُّ الناس في خطبه على إتقانها وإحسانها، كيف لا وبها يُفهم كلام الله، وبمعرفتها تُدرك أسرار الإعجاز، وبملكتها يصحُّ الاستنباط والتفسير والتأويل؟!

وكان مدرسةً للتيسير والتبشير، وهو يصدر فيها عن دراية بمذاهب الفقهاء، واستيعاب لاختلاف الأئمَّة، وإدراك لمقاصد الشريعة الغرَّاء والحنيفيَّة السمحة.

وكان مَعْلَمًا من معالم الوسطية في الدين، يأبى الغلوَّ والتكلُّف، ولا يرضى بالشَّطط والشطح والدجل، وكثيرًا ما سمعناه يردِّد: "لا نريد صوفية تشطح، ولا سلفية تنطح، ولكن نريد من يدعو وينصح دون أن يمدح أو يقدح".

وكان صادقًا مخلصًا - أحسَبه كذلك ولا أزكِّي على الله أحدًا - لا يجامل ولا يداهن، ولا يصانع ولا ينافق، ولا يتملَّق ولا يغالي في المديح.

وكان محبًّا للقرآن، تاليًا له، مجوِّدًا لألفاظه، مترنِّمًا بتلاوته، متغنِّيًا بقراءته، أوتي مزمارًا من مزامير داود، فسعد به كلُّ من سمعه. وكان متفنِّنًا في تعليمه، عالمًا بأسرار بلاغته وفصاحته، متوقِّفًا عند الكثير منها بأجمل تعليل وأطرف تأويل.

وكان راويةً للشعر العربي، ذوَّاقًا لروائعه، متخيِّرًا لبدائعه، ينثره في خطبه ومجالسه ودروسه ومحاضراته، فيكون له أبلغ الأثر في نفوس سامعيه.

وقد أوتي في التعليم مواهبَ قلَّما اجتمعت لواحد، من جَودة خط، ونداوة صوت، وحضور فقه، وحسن تأتٍّ، وبلاغة كلمة، وطرافة تعليل، وظرافة خاطرة، وكمال أسر لكلِّ من حضَر أو سمع.

لهذا كلِّه بكَيته لما جاءني نعيُه، وبكى معي أهلي، وبكى معي صحبي، وبكت معي كتبي... وحُقَّ لها أن تبكي!

تَبكي الحَنيفيَّةُ البيضاءُ من أسَفٍ          كما بكى لفِراقِ الإلفِ هَيمانُ

حتَّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ          حتَّى المَنابِرُ تَبكي وَهيَ عِيدانُ

رحمه الله وأكرم نزُله، ورفع في علِّيين مقامه، وجزاه عنَّا وعن الأمَّة خيرَ ما جزى خطيبًا عن قومه، وداعيًا مصلحًا عن أمَّته، ومعلِّمًا ناصحًا مرشدًا عن صحبه وتلامذته.

مع الشيخ هشام الحمصي رحمه الله في أحد مصايف دمشق عام 2010م

من اليمين: ابنه أ. هاني الحمصي، د. محمد حسان الطيَّان، الشيخ هشام الحمصي،

المهندس عبد الله الطيان، أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى