الشيخ محمد الحامد .. رحمه الله تعالى

dgdthtrjryj911.jpg

ما نال عالمٌ في مدينة حماة من الشُّهرة والذُّيوع والانتشار مثلَ ما ناله الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى، فقد كان عالمًا جليلًا ، وشيخًا تقيًّا ورعًا، وداعيةً إسلاميًّا، ومتحدثًا لَسِنًا، وشاعرًا فصيحًا، وشخصيَّةً إصلاحيَّةً على مستوى مدينة حماة وخارجها، وقد كان يعرفه القاصي والدَّاني، ويُسلِّم له في الحكم والفتيا جميع معاصريه؛ لأنَّه كان يصدر عن وعيٍ وفهمٍ ودقَّةٍ ونزاهةٍ وتعمُّقٍ واطِّلاعٍ، فلا تُردُّ فتواه، ولا يُراجَع حكمه في حلالٍ أو في حرامٍ.

والشيخ محمد محمود الحامد ولد في حماة عام (1910م) وتوفِّي فيها عام (1969) ونشأ يتيمًا فقيرًا مع أخوَيْه شاعر العاصي (بدر الدِّين الحامد) والأستاذ (عبد الغني الحامد) فتلقَّى العلم الشَّرعيَّ على يد خاله: الشَّيخ سعيد الجابي، والشَّيخ محمد سعيد النَّعسان، والشَّيخ توفيق الشِّيرازي الصَّباغ مع التحاقه بدار العلوم الشَّرعيَّة في حماة.

ثمَّ التحق بالمدرسة الخسرويَّة الشَّرعيَّة في حلب، ثمَّ أكمل دراسته الشَّرعيَّة في الأزهر الشَّريف ، ونال درجة العالميَّة الأزهريَّة، ثمَّ عاد إلى حماة فعمل بالفتيا والإرشاد الدِّينيِّ، وتدريس العلوم الشَّرعيَّة في مدارس حماة.

وتسلَّم الخطابة في مسجد السُّلطان، وكانت له فيه دروسٌ مسائيَّةٌ ما بين صلاتيْ المغرب والعشاء لتدريس التَّفسير، والحديث النَّبويِّ الشَّريف، والفقه على المذهب الحنفيِّ من كتاب (الهَدِيَّة العلائيَّة).

وقد كان منهج الشَّيْخ الدَّعوة إلى الالتزام بالسُّنَّة ومحاربة البدعة والتَّمسُّك بأحكام الشَّريعة مع التَّصوُّف المعتدل الذي ينأى فيه عن الشَّطحات والتَّهويمات التي شاعت عند بعض الفرق الصُّوفيَّة، وهذا ما ظهر في مواقفه وأحواله وفي رسائله ومؤلَّفاته التي كان منها: (حكم الإسلام في الغِناء، وحكم اللِّحية في الإسلام، والقول في المُسكِرات، وحكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبيَّة، وردود على أباطيل..).

كان للشَّيْخ كلمةٌ مسموعةٌ ومهابةٌ وتوقيرٌ كبير في نفوس الحمويِّين، فكان إذا مرَّ في الشَّارع أو في سوق الطويل في طريقه إلى جامع السُّلطان، يقف التُّجَّار له ـ لا بطلبٍ منه ـ احترامًا وتقديرًا، وكانوا يبادرونه بالتَّحيَّة والسَّلام، ويستفتونه بالأسئلة الشَّرعيَّة المتنوِّعة التي يثقون بفتياه فيها.

وكان في جميع حالاته آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، أذكر أنَّه في إحدى المرَّات رأى أحد التُّجار في سوق الطويل متختِّمًا بخاتمٍ من ذهب، فأسرع إليه ونصحه بخلعه، وبيَّن له أنَّ التَّختُّم بالذَّهب للرِّجال غير جائز، فما كان من الرَّجل إلَّا أن خلع الخاتم من إصبعه فورًا ولم يعد إلى التختم به على الإطلاق.

وبالإضافة إلى هذا كان الشيخ متواضعًا، فكان إذا همَّ أحدٌ بتقبيل يده فإنَّه يسحبها منه بسرعةٍ قائلًا: (أستغفر الله) إلَّا أنَّ بعض تلاميذه كانوا يُصِرُّون على تقبيل يده محبَّةً فيه، فيحاول التَّمنُّع عن هذا الفعل، وكان درسه المسائيُّ لا يخلو من دعابةٍ أوْ من طرفةٍ تدخل السُّرور على نفوس السَّامعين.

كانت فتاوى الشَّيخ في معظمها نابعةً من التَّقوى والورع، فقد كان يأخذ نفسه بالشِّدَّة والمبالغة في الاحتياط ، فكان لا يقبل الهدايا حتى من تلاميذه، وكان لا يشتري السِّلعة إذا علم أنَّ التَّاجر أنقص له من ثمنها محبَّةً فيه ومراعاةً لمنزلته بين النَّاس، وكان يطلب من التُّجَّار أن يعاملوه كما يعاملون بقية المشترين،  وكان يصلِّي السُّنَّة والوتر بعد صلاة العِشاء في كثيرٍ من الأحيان في زوايةٍ قصيَّةٍ في ساحة مسجد السُّلطان على الأرض غير المفروشة بالسَّجاد على الرَّغم من برودة البلاط.

وكان لا يستخدم الهواتف الحكوميَّة الَّتي ركَّبتها الدَّولة لقضاء المصالح الرَّسميَّة، كما كان لا يركب في سيارة مخصَّصة لدائرةٍ من الدَّوائر الحكوميَّة بناءً على هذا المبدأ الذي ألزم نفسه به،  بل كان على العكس من ذلك يتبرَّع بمكافأة درسه المسائيِّ  لمؤذن الجامع والفقراء والمعوزين، وكان حريصًا على متابعة أولاده وتلاميذه أشدَّ الحرص.

أصيب رحمه الله قبل وفاته بمرض التَّشمُّع في الكبد الذي عانى منه أشدَّ المعاناة، وفي يوم الوفاة انطلقت المآذن في جميع مساجد حماة وحمص معلنةً نعيه، فتسارع تلاميذه وأحبَّاؤه إلى بيته المتواضع في حيِّ باب البلَد تسبقهم دموعهم، وتُسارع بهم محبَّتهم للمشاركة في جنازة الشَّيخ.

وحضرت الوفود المشاركة من جميع المدن السُّوريَّة حتى غصَّت بهم الشَّوارع، فصلِّيَ على جنازته بعد صلاة الظُّهر في جامع السُّلطان، وألقى العديد من العلماء الكلمات التي تتحدَّث عن مكانة الشَّيخ في قلوب النَّاس، وعن علمه وفقهه، وورعه وتقواه، وأثره في الإصلاح، وعن الأسى والحزن وخسارة البلد الفادحة بفقده.

وخرج موكب الجنازة من المسجد في هدوء وصمت شديديْن على دعاءٍ مُسجَّلٍ للشيخ: "اللهمَّ اسقِنا الغيْثَ ولا تجعلنا من القانطين" فإذا بسحابةٍ ممطرةٍ تسبح في السَّماء وقت التَّشييع، وتجود بدموعها مشارِكةً أهلَ حماة ومحبِّيه حزنهم عليه، ومُصابهم فيه، فجسَّد هذا المشهدَ أحدُ الشُّعراء في مقدمة قصيدةٍ في رثائه قائلًا: "بَكَتِ السَّماءُ عليه يوم وَداعهِ..."

رحم الله الشَّيخَ محمد الحامد العالم العلَّامة، والحَبر الفهَّامة, والدَّاعية المخلص، والتَّقي الورع الذي خلَّف في ذاكرة الحمويِّين سيرةً من أعطر السِّير.

مرفق، صورة نادرة لجنازة الشيخ محمد الحامد بجانب جامع السلطان

وسوم: العدد 911