دينغ شياو بينغ، مهندس نهضة الصين الحديثة

دينغ شياو بينغ، مهندس نهضة الصين الحديثة

زعيم صيني وعالمي واقعي وجريء

ساهم في تحويل الصين من بلد شبه مُستعمَر متأخر منغلق

إلى دولة جديدة كبرى تضج حيوية ونماء ... ما السرّ وراء هذه الطفرة النوعية؟

عباس جواد كديمي

[email protected]

من هو دينغ شياو بينغ؟

وُلد في الثاني والعشرين من أغسطس/ آب عام 1904 في بلدة قوانغ آن بمقاطعة سيتشوان جنوب غرب الصين، لعائلة فلاحية ميسورة. دخل المدرسة الابتدائية في عام 1911، وهو نفس العام الذي أطيح فيه بآخر إمبراطور في تاريخ الصين، الإمبراطور بو يي من أسرة تشينغ، في الثورة التي قادها صن يات صن. تدرّج في مدارس المقاطعة حتى الثانوية العامة ثم سافر إلى فرنسا في مطلع العشرينات، في برنامج للعمل والدراسة وهو فتى في الـ16 من عمره. وفي فرنسا، أحسّ بالتيارات الفكرية السياسية الرئيسية المتصارعة آنذاك، الثورة الصناعية والثورة البلشفية، وانجرف لتلك التيارات، وتعرّف على الأفكار اليسارية، خاصة الماركسية، وتأثر بها. ومن فرنسا، وفي عام 1921، عام تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، انضم إلى رابطة الشباب الشيوعيين الصينيين في أوروبا، بقيادة الزعيم الصيني المعروف الراحل تشو إن لاي، وفي عام 1924 انضم للحزب الشيوعي الصيني. غادر باريس عام 1926، وأخذه الطريق نحو موسكو، حيث تعرّف أكثر على الأفكار اليسارية، وتعززت روحه الثورية، ثم طلبت منه الأممية الشيوعية (الكومنترن) التي استقبلته في موسكو، أن يعود للصين نهاية عام 1926.

خلال خمس سنوات في فرنسا، وبسبب برنامجه المكثف للعمل والدراسة وسحنته المُوحية بأصله الشرقيّ وكونه من الصين المتهمة بالشيوعية، لم يكن لديه الوقت الكافي ولا الفرصة ليتقرب أكثر من الحياة الفرنسية، لكنه شعر بالحياة الثقافية الغربية من فن وأدب وفلسفة وسياسة وحقوق، وأشدّ ما جذب اهتمامه هو التطور التكنولوجي الذي تمنّاه لبلده الفقير المتخلف.

سنوات الحزب والحرب

لمّا عاد إلى الصين في مطلع عام 1927، غيّر اسمه من دينغ شياو شينغ إلى دينغ شياو بينغ (شياو بينغ تعني السلام الفتيّ)، في إشارة إلى بداية مرحلة جديدة هامة في حياته، والتأكيد على انتمائه الوطني بجانب ماركسيته. ثم عزّز ارتباطه بالحزب الشيوعي الصيني الذي لم يمض على تأسيسه آنذاك سوى 6 سنوات، في فترة كانت الصين خلالها ضعيفة تحت حكم أمراء حرب مصلحيّين يتقاسمون النفوذ على مناطقها، ويتنازلون كثيرا للأجانب، حتى باتت الصين شبه مُستعمَرة، والناس يعانون تحت وطأة ظروف صعبة ومعقدة شتى مُخلّفة من القرن التاسع عشر، ويئنّون تحت جراح اجتماعية وسياسية وفوضى نزاعات خطيرة، والبلاد تواجه ضغوطا داخلية وخارجية تفرضها التطورات التي يشهدها العالم في حينه.

استقر دنغ في شمال الصين أولا، لكنه أضطر للانتقال جنوبا بسبب الحملة القوية لحزب الكومينتانغ بزعامة تشيانغ كاي شيك، ضد الشيوعيين. في الجنوب التقى مرة أخرى برفيقه شون إن لاي بمدينة ووهان التي أصبح سكرتير الحزب الشيوعي الصيني فيها. في تلك الفترة، كان يسهم أيضا في تأجيج الاحتجاجات الشعبية في شانغهاي ضد الكومينتانغ، ثم ساهم بقيادة انتفاضة شعبية غير موفقة في مقاطعة قوانغشي في عام 1929 ضد حكومة الكومينتانغ هناك، حتى اشتعلت الحرب الأهلية بين الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومينتانغ (1927- 1949)، واستعر أوارها وتلظى بنارها وويلاتها كل الصينيين، لا سيّما الشيوعيين.

رغم قصر قامته، كان مميزا ببنية جسدية قوية وحضور مؤثر، وتعليم وثقافة وميول ماركسية ووطنية واضحة أهلته لعضوية متميزة في الحزب الذي رشّحه أولا للعمل في مناطق ريفية للدعوة إلى سياسات الحزب وتثوير الأرياف، وإنقاذ البلاد من محنتها. شارك منذ عام 1929 في حملات عسكرية ضد الكومينتانغ وفي حملات إصلاحية داخل الحزب. وشارك بالمسيرة الكبرى (8 آلاف ميل) للجيش الأحمر عامي 1934-1935، وهي مسيرة نزوح اضطراري بظروف صعبة وتضاريس معقدة لمئات آلاف الشيوعيين استمرت أكثر من 375 يوما، من مقاطعة جيانغشي بوسط شرقي الصين إلى مناطق الصين الداخلية شمالا وصولا إلى شانغسي، تفاديا لهجمات حزب الكومينتانغ. وساهم بشكل فعّال في قيادة فصائل ووحدات عسكرية من الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية التي أطاحت بحزب الكومينتانغ، ومن ثم التمهيد لتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949. وأظهر شجاعة وحكمة تنظيمية وسياسية خلال حرب مقاومة الصين للغزو الياباني الذي بدأ عام 1937. تلك التجارب التنظيمية والعسكرية الميدانية، منحته الخبرة والصبر والتحمل والعلاقات الطيبة أيضا، وكانت خيرَ مُعين له في حياته السياسية اللاحقة بحلوها ومرّها. نقول حلوها ومرها لأنه عانى كثيرا من التآمر والإبعاد القسري عن الحياة السياسية والحكومية، بسبب خلافاته مع العديد من السياسيين الذين عاصرهم.

وفي الجانب الاجتماعي، تزوّج ثلاث مرات، وكانت الثالثة ثابتة، وأنجبت له خمسة، ثلاث بنات وولدان.

تمّ تعيينه لمهمة مدير القسم السياسي للحزب خلال حملة المسيرة الكبرى. وخلال حرب مقاومة الغزو الياباني، تولى مهمة المفوض السياسي الحزبي للكتيبة 129 من جيش الطريق الثامن، التي نمت وتطورت لتصبح واحدة من أكبر الوحدات العسكرية خلال تلك الحرب. وبعد انتهاء الحرب الأهلية وتأسيس الجمهورية عام 1949، ظلّ يمارس مهامَ حزبية هامة في مقاطعات البلاد إلى أن عاد لبكين في عام 1952 ليتدرج سريعا في سُلم المناصب والمهام الحزبية، فتسلم عدة مناصب كنائب لرئيس مجلس الدولة ونائب رئيس لجنة الشئون المالية، ثم وزيرا للمالية ومديرا لمكتب الاتصالات للحزب، إلى أن تفرغ من كل هذه المناصب، عدا نائب رئيس مجلس الدولة، ليتبوأ منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني عام 1954، ثم عضوا في المكتب السياسي للحزب. وخلال المؤتمر الوطني الثامن للحزب عام 1956، ترسخت جهوده ودوره كأمين عام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، ومديرا لقسم التنظيم بالحزب، ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية.

في الحقيقة، أن أدواره السياسية بدأت بالظهور منذ مطلع الثلاثينات للقرن العشرين، ولكن بصماته المميزة اتضحت أكثر في السبعينات. في عام 1973، ظهر هذا الرجل القصير القامة الأنيق المظهر، خلال حفل استقبال لرئيس وزراء كمبوديا آنذاك نوردوم سيهانوك. وعلى ضوء سمعته كرجل براغماتي، كان واضحا أن قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وعلى رأسها ماو تسي تونغ، قد دعته للإسهام في جهود الحكومة لتحريك الاقتصاد المتعثر، ثم الاستعداد ليحل محل رئيس مجلس الدولة في حينه تشو إن لاي، الذي بدت عليه علامات المرض الخطير. وخلال انعقاد أول دورة للمجلس الوطني الرابع لنواب الشعب في بكين عام 1975، تم تكليفه بتسيير شئون البلاد كنائب لرئيس مجلس الدولة(مجلس الوزراء)، بفضل ما يُعرف عنه من جرأة في تحمل المسئوليات والمهام الصعبة. وكان اختياره موفقا، لأن الاقتصاد الصيني حقق في تلك السنة أفضل معدلات نموه منذ الثورة الثقافية (1967-1977). وبسبب أفكاره الجريئة الخاصة، ظهرت الخلافات منذ الثلاثينات بينه وبين بعض زملائه الثوريين الذين اتهموه بمختلف التهم وأجبروه على التنحي من مناصبه بالحزب والدولة عدة مرات، لكنه كان يعود أقوى في كل مرة. وفي عام 1966، اتهم بكونه "مُروّجا للرأسمالية"، ووُضِع رهن الإقامة الجبرية في منزله لأشهر عديدة. في عام 1969، حين كانت الثورة الثقافية في أوجها، نُفي هو وعائلته إلى مقاطعة جيانغشي جنوب شرق الصين، حيث عمل في أعمال شاقة بمعمل للجرارات الزراعية. وكانت المرة الثالثة والأخيرة لإقصائه عن الحياة السياسية لفترة قصيرة بعد وفاة تشو إن لاي في يناير عام 1976، حيث اتهمه خصومه السياسيون بتحريض الناس، وأقنعوا الزعيم ماو، وهو على فراش المرض، بإقالته، لكنه عاد للحياة السياسية مرة أخرى بعد وفاة ماو في سبتمبر عام 1976، وذلك بفضل دعم أبداه رفاق له من أيام النضال العسكري. تعززت العودة السياسية لدنغ شياو بينغ واكتسبت زخما خلال الفترة بدءا من عام 1977 ثم تكللت بتبوءه في عام 1978 المكانة القيادية الأعلى بالصين، وهي رئيس اللجنة العسكرية المركزية.   

الإصلاح والانفتاح

بعد أن مرّت الصين بفترة صعبة ومعقدة من الحروب الداخلية والخارجية والغزو والنهب والسلب وفوضى السياسات وعواقبها المدمرة، باتت الأوضاع مستقرة في نهاية السبعينات، الأمر الذي هيأ للقيادة السياسية للبلاد، وفي القلب منها دنغ شياو بينغ، أن تتطلع لتحرير العقول وإطلاق المبادرات المبدعة لبناء صين جديدة. لذلك، كان لا بُدّ أولا من تحرير الاقتصاد المخطط شديد المركزية الذي تتولى الحكومة فيه التخطيط والتنفيذ والتدبير والمسئولية عن كل شيء تقريبا في هذا البلد الكثير السكان، خاصة مسئولية توفير الطعام فيما يُسمى بالصين في حينه "قدر الطعام الكبير الواحد" في إشارة إلى أن الحكومة توفر الطعام للجميع على حد سواء؛ المنتجون وإن اختلفت درجات إنتاجهم، واللامنتجون وإن اختلفت درجات اعتمادهم على قِدر الأرز الذي توفره الحكومة. كانت الأرضية الفكرية جاهزة، والأفكار التحررية نحو البناء والإبداع تلقى قبولا بين القيادة السياسية وبين أبناء الشعب، في وقت لم يألُ فيه دنغ شياو بينغ جهدا للدعوة والترويج لأفكاره الإصلاحية، مؤكدا أن الظروف باتت مهيأة لإطلاق العنان للناس ليعملوا ويبدعوا وينتجوا كما يفعل العالم المتطور. في تلك الفترة، وفي نوفمبر 1978 تحديدا، تهيأت لدنغ شياو بينغ فرصة السفر وزيارة ثلاث دول آسيوية مجاورة هي تايلاند وماليزيا وسنغافورة، حيث تعزز إيمانه هناك، خاصة في سنغافورة، بضرورة التطوير والإصلاح والانفتاح من أجل إنهاض الصين من كبوتها مهما كلف الأمر، ورأى أن الإصلاح والانفتاح هما السبيل الوحيد لضخ حيوية في الصين سياسيا واجتماعيا، وإنهاضها اقتصاديا. وفي ظل التجارب والخلافات والتناقضات التي ظهرت في دول اشتراكية أخرى، لا سيما الاتحاد السوفيتي السابق، كان حريصا وحذرا في خطواته، منتهجا سبيل الطرح والتشاور بحيث تكون الغلبة للأصلح أو الأكثر فائدة وملائمة لواقع وظروف الصين، مؤكدا على ضرورة انتهاج اشتراكية بخصائص صينية، ومعالجة المشكلات الآنية للصين، استنادا إلى أساس واقعها الفعلي، وليس على أساس قوالب تاريخية أو أيديولوجية جاهزة، مهما كان مصدرها. ولهذا كانت إصلاحات الصين بقيادته ودعمه، أكثر نجاحا من سياسة الإصلاح (البيرسترويكا) التي انتهجها الرئيس السوفيتي الأسبق غورباتشوف. لقد أشار بعض المحللين إلى أن الاختلافات بين السياستين تكمن في أن الأولى كانت من أرض واقع الصين، وتحتمل النقاش والرفض والقبول والتجربة وهي نابعة من الجذور، بينما الثانية كانت تنظيرية أكثر منها واقعية، ومن شخص واحد هو غورباتشوف نفسه، الذي اهتم بقضايا في الأعلى نزولا للأسفل.

عزّز دنغ شياو بينغ الدعوات إلى فكرة ماويّة مشهورة، وهي "ابحث عن الحقيقة من خلال الوقائع"، في إشارة مقصودة منه إلى أنه لا توجد خريطة طريق جاهزة للإصلاح والتنمية، وأنه "يتعين على الشعب الصيني أن يعبر النهر بنفسه ليتحسس بأقدامه الحصى الموجود في قاع النهر". وأشهر ما يُذكر عنه استشهاده بمثل صيني قديم، معروف في مسقط رأسه بمقاطعة سيتشوان، أكثر من أي مكان آخر في الصين، وهو "لون القط لا يهم، سواء أكان أبيض أم أسود، طالما أنه يصطاد الفئران."

جاهر بخلافه مع العديد من شعارات الثورة الثقافية، وكلفه ذلك الإبعاد القسري عن الحياة السياسية في مطلع السبعينات. كان رفيق نضال وموضع ثقة لماو تسي تونغ، مؤسس الحزب الشيوعي الصيني ومؤسس الصين الجديدة، لكن ذلك لم يكبح جرأته المعهودة فأعلن خلافه مع مقولة "من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية، على أن نغتني في ظل الرأسمالية." وأكد "أن الفقر ليس اشتراكية." وحتى تعليقه المشهور حول "لون القط لا يهم، طالما أنه يصطاد الفئران"، فقد جاء إثر خلاف فكري عام 1961 حول تطوير الإنتاج الزراعي. 

وعلى ضوء الاقتصاد الصيني الضعيف المتعثر، بدأت مسيرته الإصلاحية بالعديد من الخطوات، مثل تقليل الاستثمار في الصناعات الثقيلة من أجل تحقيق الموازنة لجميع القطاعات، وزيادة الأسعار التي تدفعها الحكومة لشراء محاصيل الفلاحين، الأمر الذي شجع الفلاحين كثيرا، وخصص سلسلة من العلاوات لزيادة عوائد العاملين الحكوميين في المدن.  

ومن الطبيعي أن يتشجع الجميع لممارسة أعمال خاصة تدرّ مزيدا من الدخل، الأمر الذي كان الأساس لسوق حرة للمنتجات الريفية. وسمح للمقاطعات بإلغاء نظام الكومونة الزراعية والحقول الجماعية التي أوجدها ماو تسي تونغ، والسماح للفلاحين بتقسيم الأراضي وزراعتها بأنفسهم بشكل فردي أو عائلي بأسلوب التأجير أو المقاولة العائلية، الأمر الذي زاد الإنتاج الزراعي كثيرا. وليس ذلك فحسب، بل بدأ الريفيون بتربية المواشي والاستثمار في حقول الدواجن والأسماك والروبيان، والنهريّات والبحريّات الأخرى، وحتى استغلال المباني الجماعية السابقة لإنتاج مستلزمات حياتية تجارية يبيعونها بأنفسهم، الأمر الذي زاد عوائدهم، وساهم في تخفيف الآثار السلبية التي عاناها الفلاحون ومعظم الصينيين بعد حملة "قفزة كبرى للأمام" التي دعا إليها الزعيم ماو عام 1958. لقد كان للتغيرات الكبيرة في حياة ملايين الفلاحين أثر في تطوير أنماط حياتهم في بناء مساكن جديدة، وفي الاستهلاك اليومي، وهو ما وفر فرصا هائلة للعمل وللأسواق، خاصة قطاعات صناعة المواد الإنشائية. وفي المدن، تبنى سياسات مؤاتية لزيادة فرص العمل خاصة للخريجين الشباب، وسمح بقيام أعمال خاصة صغيرة، وأخذ الناس العاديون يتبضعون السلع الاستهلاكية التي أخذت تزداد يوما بعد يوم، بعدما كانوا مُقيّدين ومُُحدّدين بكوبونات توزعها عليهم شهريا أو بالمناسبات، وحدات عملهم الحكومية، وتحمّس كثيرا لجذب الاستثمارات الأجنبية وكل ما هو متطور مفيد للصين. استشف أيضا أن العالم آنذاك لا يحتمل حربا جديدة، وأن السلام سيكون التيار السائد، لذلك دعا الجيش للإسهام في الحملات المدنية لتحديث الاقتصاد، وطالت إصلاحاته حتى ميزانية الجيش، مُقترحا تقليل إنتاج الأسلحة، عدا الاستراتيجية منها. ودعا أيضا إلى تنظيم الأسر الصينية، أي تنظيم الإنجاب، باعتباره وسيلة هامة لكبح الزيادة المفرطة في عدد السكان. وحث على إنهاض التعليم وتجديده بعدما طالته الآثار السلبية لتجنيد الشباب خلال فترة الثورة الثقافية. وإيمانا منه بحاجة الصين المتأخرة كثيرا عن العالم المتقدم، شجع الطلاب الشباب على الدراسة في الخارج، ومنها بدأت موجة لتعلم اللغة الإنجليزية.

كانت التحديات جسيمة أمام الصين عموما، شعبا وحزبا وحكومة، لكنه أيقن بأن مفتاح الحل يكمن في تركيز كل الجهود على إصلاح الداخل والانفتاح على الخارج وتنمية الاقتصاد وتخليص البلاد والعِباد من الفقر والانغلاق، وجلب التكنولوجيا المفيدة من كل مكان متقدم، خاصة من الغرب، ومنه فرنسا التي أمضى فيها خمس سنوات. كان حريصا على الحفاظ على الاشتراكية في الصين، لكنه نادى بصوت قوي ومسموع بفكرة أن الاشتراكية هي الإسراع بتطوير وتنمية قوى الإنتاج، وبحث واكتساب وتعلم التكنولوجيا والاطلاع على تجارب الإدارة المتقدمة للدول الأجنبية والاستفادة منها، والتحلي بالشجاعة والجرأة لإصلاح نظام الإدارة الاقتصادية، وخلق اقتصاد السوق الاشتراكي. طرح الاستراتيجية التنموية الملائمة لواقع الصين، من ثلاث خطوات، ووضع فترة 70 سنة لتحقيق أهدافها، وركز على أن يتم خلال الخطوة الأولى توفير الغذاء والكساء للمواطنين خلال 10 سنوات، وفعلا تحقق الهدف قبل الموعد المحدد في نهاية الثمانينات. والخطوة الثانية هي زيادة إجمالي الناتج المحلي لعام 1980 بواقع 4 أضعاف في نهاية القرن العشرين، وفعلا تحقق الهدف في عام 1995 قبل الموعد المحدد. والخطوة الثالثة زيادة معدل دخل الفرد بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي ليصل عام 2050 إلى معدل الدول المتوسطة النمو. في حينه، أي عام 2050، يكون المواطن الصيني متمتعا بمستوى حياة رغيدة، وتكون التحديثات قد تحققت من حيث الأساس. ومن أجل ذلك، قام في عام 1978، عام انطلاق مسيرة الإصلاح والانفتاح بالصين، بجولته التفقدية للمقاطعات الثلاث بشمال شرق الصين، وهي جيلين ولياونينغ وهيلونغجيانغ، ليلتقي بمسئوليها ومواطنيها، داعيا في كل مكان يصل إليه أو يحل به إلى تعزيز الجهود من أجل تنفيذ مهمة الحزب والدولة في التحديثات الأربعة للصين وهي الاقتصاد والزراعة والعلوم والتكنولوجيا والدفاع الوطني، مشيرا إلى أن الظروف مهيأة لذلك من خلال المضي قدما بالإصلاح والتطوير ودعم ذلك بالانفتاح على كل ما هو مفيد من الخارج. وشجع على فتح مناطق معينة لتطوير التصنيع والتصدير، واستقبال الاستثمار الخارجي، ووُلِدت أولا في مقاطعة قواندونغ منطقة شنتشن الاقتصادية الخاصة، ثم تلتها تشوهاي وشانتو، وكذلك منطقة شيامن الاقتصادية الخاصة في مقاطعة فوجيان، وتحولت لاحقا إلى مناطق اقتصادية خاصة توفرت فيها فرص تجارية برسوم تفضيلية جذبت أولا الكثير من رجال أعمال قطاع التصنيع في هونغ كونغ المجاورة لهذه المناطق. لقد كانت تلك المناطق التصديرية – الاقتصادية الخاصة، الشرارة التي ألهبت حماسة قطاع التصنيع في الصين، وزادت الصادرات بمستوى غير مسبوق بحيث يمكن رؤية آثار ذلك في يومنا هذا، حيث تتقدم الصين نحو مركز الصدارة عالميا في مجال التصدير. تلك المناطق التي بدأت محدودة على سبيل التجربة الحَذِرة، تضاعف عددها وانتشرت في معظم المناطق الساحلية، وامتدت حتى للمدن التي ليس لديها سواحل.

ومن الثمار الأولى لأفكاره الانفتاحية والإصلاحية على الصعيد الخارجي، توقيع الصين لمعاهدة السلام والصداقة مع اليابان في عام 1978. وفي يناير عام 1979 وخلال زيارة للولايات المتحدة، تمكن من إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة وانتزاع اعترافها رسميا بالصين، بعد جهود دؤوبة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، مبعوث الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون لتطبيع العلاقات مع الصين، فيما يُسمى بـ"دبلوماسية كرة الطاولة" التي بدأت منذ مطلع السبعينات وتكللت بزيارة الرئيس نيكسون للصين عام 1972، وما تلاها من زيارات لكيسنجر لبكين، الأمر الذي ساعد أيضا على تحسين العلاقات مع الغرب. ثم أخذت العلاقات تتحسن تدريجيا مع الاتحاد السوفيتي بعد قطيعة طويلة بسبب خلافات فكرية حول المعسكر الاشتراكي، ثم حقق حلما طالما انتظره الصينيون وهو التفاوض الناجح مع البريطانيين لإعادة هونغ كونغ للوطن الأم في عام 1997. وخلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في مطلع عام 1979 ولقائه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، تجوّل في عدة مناطق ذات طبيعة تجارية مثل شركة بوينغ وشركة كوكا كولا، ليقول للأمريكيين إن الصين الجديدة عازمة على التطور والإصلاح والانفتاح.

  ممارسات بناءة

أحد عشر عاما كانت فترة ممارساته البناءة (1978- 1989) على رأس الحزب والحكومة ونواة الجيل الثاني للقيادة السياسية في الصين، التي شهدت تغيرات وتطورات كبيرة جدا، أوصلتها لما هي عليه الآن من تطور جيّاش ونمو اقتصادي هو الأكثر حيوية في العالم. وبفضل سياسة الإصلاح والانفتاح التي بدأها هذا الزعيم، أصبحت الصين ثاني اقتصاد من حيث الحجم في العالم. وبفضل حكمة مهندس الإصلاح والانفتاح، كما يلقبه الصينيون، تخلص مئات الملايين من الفقر وتخلص الفلاحون من ظلم الإقطاع والتخلف وأصبحت أرياف الصين شكلا آخر. من الناحية الرمزية، قد يكون عام 1984 تحديدا، عاما مميزا في حياة هذا الزعيم البارز. ففي ذلك العام، حققت الزراعة الصينية، خاصة محاصيل الحبوب، رقما قياسيا بلغ 400 مليون طن، محققة الاكتفاء الذاتي، بعد فترة طويلة من المعاناة. وفي العام نفسه، نجح في التفاوض مع الحكومة البريطانية حول إعادة هونغ كونغ للوطن الأم بحلول عام 1997، وكذلك التفاوض مع البرتغال لإعادة ماكاو للصين في عام 1999، الأمر الذي يعتبر ثمرة من ثمار سياسته الشهيرة المعروفة بـ "دولة واحدة ونظامان". الدولة الواحدة هي الصين بنظامها الاشتراكي، ونظامان تعني بقاء منطقتي هونغ كونغ وماكاو على نظامهما الرأسمالي.

في عام 1989، قرر الاستقالة من منصب رئيس اللجنة العسكرية المركزية، ثم التقاعد عن العمل السياسي، مُقدّما بذلك نموذجا على ضرورة الانتقال السلس للسلطة وفسح المجال أمام جيل جديد لقيادة المسيرة، ومواصلة العطاء والإسهام بشكل آخر. ورغم كبر سنه وتقاعده، لكنه ظل الشيخ السياسي المحنك الذي يُرجَع إليه عند الضرورة، خاصة فيما يتعلق بمسيرة الإصلاح الاقتصادي والتحديث الاشتراكي التي اعتبر مهندسها الرئيسي، وساعد في ذلك تلك الفكرة التقليدية الصينية المتوارثة باحترام كبار السن وتبجيلهم. في ربيع عام 1992، كانت جولته المعروفة في المناطق الاقتصادية الخاصة بجنوب الصين، حيث زار ووتشانغ، والمنطقتين الاقتصاديتين الخاصتين في شنتشن وتشوهاي، اللتين أصبحتا مدينتين برزتا للعيان بشكل رائع جدا، من الصِفر تقريبا، بفضل الانفتاح الاقتصادي على الخارج. ثم زار شانغهاي، التي يعود الفضل له أيضا في تعزيز مكانتها الاقتصادية والساحلية في الصين والعالم، بعد أن شجع على تأسيس منطقة بودونغ الحديثة فيها.

تحديات صعبة ومسيرة شاقة

في خضم هذه الإنجازات، هل كان الطريق سلسا أمام الصين، شعبا وقيادة، في هذه المسيرة الطويلة المحفوفة بالكثير من التحديات والتعقيدات والتطورات الداخلية والخارجية؟ يبدو من الطبيعي في بلد يضم عددا هائلا من السكان، واقتصاد ضعيف وبنية تحتية متخلفة حتى مطلع الثمانينات، أن تكون التحديات قاسية والمهام أقسى، والتنفيذ محفوف بالمخاطر، والنتائج دونها الجهد والعرق والتضحيات. فمع انفتاح وتطور الاقتصاد وتوسعه، برزت مشاكل عديدة منها مثلا الزيادة السكانية الكبيرة التي جعلت تعداد سكان البلاد يتجاوز المليار بكثير حسب التعداد العام للسكان في عام 1982، الأمر الذي حتم الاستمرار بسياسة تنظيم الأسرة. وفي جانب الموارد، من المعروف أن الصين قليلة الموارد مقارنة بالمعدل العالمي وتعداد سكانها، لذلك عانت الموارد من الاستنزاف، الأمر الذي دفعت ثمنه البيئة في البلاد. وكان لتعزز دور اقتصاد السوق وحرية التجارة دور في ظهور فجوة تنموية وتطورية بين المناطق الصينية التي تعاني أصلا من اختلافات واضحة لأسباب جغرافية وتاريخية، وظهور فوارق اجتماعية بين المواطنين، وهي أمور تحظى باهتمام بالغ من الحكومة الصينية التي تبذل جهودا متواصلة لتعزيز التنمية المتوازنة والمستدامة والخضراء، التي تساعد في الحفاظ على موارد البلاد، والعمل أيضا على تضييق الفجوة في التنمية بين المناطق وكذلك بين المواطنين، بحيث يستفيد الجميع من ثمار التنمية، وصولا إلى هدف مجتمع رغيد متناغم.  

   بعد حياة مليئة بالأحداث، وبعد إسهامات يُشار لها باحترام وتقدير بارزين، توفي هذا الزعيم الذي وصف بأنه "ماركسي عظيم، وثوري بروليتاري رائع، ورجل دولة محنك، واستراتيجي عسكري ودبلوماسي فذ" توفي في بكين في 19 فبراير عام 1997، عن عمر ناهز 93 عاما، مُخلفا إرثا سياسيا وإسهامات سيتذكرها الصينيون والعالم أجمع، كشاهد على نهضة بلد من التخلف إلى مكانة متقدمة في عالم اليوم. إن مشاعر الصينيين تجاهه كانت وما زالت عظيمة جدا، ونستشهد هنا ببعض ما جاء في النعي الذي أصدرته قيادة الصين على لسان الرئيس الصيني في حينه جيانغ تسه مين، حيث قال: "إن الشعب الصيني يشعر بالمحبة والامتنان والتقدير للرفيق دنغ، وسيبقى يتذكر ما بذله من جهود طوال حياته التي كرّسها من أجل الشعب، ومن أجل استقلال وتحرير وبناء الأمة."

تجربة ناجحة.. ولكن، هل يمكن استنساخها؟

لقد أصبحت الصين وتجربتها التنموية الناجحة مثالا يُذكر في كل العالم، سواء المتقدم أو النامي، وكذلك الناهض؛ فمعدلات التنمية السنوية دليل على حيوية هذا البلد وتزايد مكانته المؤثرة في كافة المجالات، لاسيما الاقتصادية في عالم بات الاقتصاد فيه يشكل شريان الحياة وأساس العلاقات الدولية بمختلف أنواعها. إنه لمن الطبيعي أن يزداد المعجبون بنموذج الصين التنموي، وتتزايد الدعوات للاقتداء به، ولكن من الضروري أن تؤخذ بالاعتبار العديد من الأمور والعوامل التي تتعلق بالنموذج وبالمعجبين به، خاصة الظروف بارتباطاتها الزمانية والمكانية، وبطبيعة التحديات التي تواجه هذا البلد أو ذاك. وبما أننا تحدثنا عن زعيم ترك بصمات واضحة في مسيرة بناء وطنه، لا بُدّ من التأكيد على أنه لا يوجد زعيم في العالم يمتلك عصا سحرية يؤشر بها فتستجيب له الظروف والمتغيرات، بل أن الأمر كما يقول المثل العربي، دونه خَرط القتاد، وما الصين إلا شاهد على صعوبة التنفيذ وتحقيق النتائج. لم تكن الصين وحدها من حاول واجتهد في إصلاحات، فالعالم كان وما زال مليئا بالأمثلة الإصلاحية، نذكر منها في حينه مثال الاتحاد السوفيتي السابق وتجارب في يوغسلافيا السابقة وفي هنغاريا، ودول ومناطق أخرى بالعالم. ولكن مدى نجاعة الإصلاح وفاعليته في تحقيق الثمار تتعلقان بعوامل عديدة تؤكد لنا ضرورة أن لا يستنسخ أي أحد تجربة الآخرين بشكل أعمى. حتى يومنا هذا، هناك الكثير من الدعوات لأن تتكرر هذه التجربة في هذا البلد أو ذاك. لكن النظرة الموضوعية الواقعية لهذه التجربة تؤكد حقيقة واضحة تماما وهي أن الصين تختلف عن غيرها في الكثير من جوانب وعوامل تجربتها التنموية المثيرة للإعجاب. لا أحد ينكر أن عالمنا اليوم أصبح قرية كونية بفضل العولمة الاقتصادية والتطور التكنولوجي والمعلوماتي والفضاء الإنترنتي، وبات الناس في كل العالم يشتركون في العديد من الآمال والطموحات والمصالح، ومتقاربين جدا بحيث يتبادلون الحديث والآراء عبر قنوات عديدة بالصوت والصورة في الحين واللحظة. ولكن لا ننسى حقيقة اختلافات الظروف التاريخية والجغرافية والمواردية والإقليمية، والأهم من ذلك طبيعة السكان المستمدة والمترسخة عبر قرون عديدة وأجيال متتالية. وللدلالة على اختلاف طبيعة الناس وتأثيرها في مجالات الحياة، نشير هنا إلى عادات مختلفة لدى الصينيين والأمريكيين. فمعظم الصينيين ذوو طبيعة مقتصدة وادخارية، بينما الأمريكيون عموما ذوو طبيعة مسرفة بالإنفاق، والدليل على ذلك هو ما تتمتع به الخزينة الصينية من رصيد قوي جدا من العملات الصعبة، وما تعانيه الخزينة الأمريكية حاليا من خواء.

لقد كان الأساس في فلسفة هذا الزعيم هو الاستناد لواقع الحال وعدم تقليد الآخرين عشوائيا، ولكن لا بأس من استقدام المتقدم المفيد بكل أنواعه واستخداماته، شرط أن يكون متلائما مع واقع واحتياجات البلاد حتى يمكن الاستفادة الفعلية منه. لذلك، ونحن ننظر بالإعجاب والاحترام لتجربة الصين التنموية، وإلى جهود وصبر وجَلد هذا الشعب، علينا أن نتذكر حقيقة أنه يمكن الاستفادة من هذه التجربة كنموذج يحتذى، ولكن لا يمكن استنساخها أبدا.

* كاتب المقال، إعلامي عراقي يعمل في بكين.